قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ
(60)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قالُوا: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ} القَائلُونَ هُمُ الَّذِينَ كانوا حَاضِرينَ حِينَ تَوَعَّدَ سَيِّدُنا إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، الْأَصْنَامَ بِأَنْ يَكِيدَ لَهَا بعدَ أَنْ يولِّيَ القومُ أَدبارهُمْ في يومِ عيدِهِمْ، وَقد سَمِعُ هَؤُلاءِ مَا قَالَ.
وَالْفَتَى لُغَةً: هوَ الذَّكَرُ مِنَ الشَّبابِ الَّذِي نَضَجَ وتَمَّ شَبابُهُ، وَاكْتَمَلَتْ قوَّتُهُ، وَالْأُنْثَى: فَتَاةٌ. تَقولُ: "فَتِيَ" بالكسر "يَفْتَى فَتًى"، فهو فَتِيُّ السِّنِّ بَيِّنُ الفَتَاءِ. يُقَالُ: هُوَ فَتًى أَيْ بَيِّنُ الفتوّةِ، وَالجَمْعُ فِتْيانٌ، وَفِتْيَةٌ، وَفُتُوٌّ، وفُتِيٌّ. والفَتَى مِنَ الرِّجالِ: هُوَ السَّخِيُّ الكَريمُ الشُجاعُ المِقْدامُ، فإِنَّهم قَدْ يُطْلِقُونَهُ صِفَةَ مَدْحٍ دَالَّةً عَلَى اسْتِكْمَالِ الخِصَالِ الْحَميدَةِ للرِّجالِ. قَالَ الشَّاعِرُ الجاهِلِيُّ طَرَفةُ بْنُ العَبْدِ:
إِذَا القَوْمُ قَالُوا: مَنْ فتًى؟ خِلْتُ أَنَّني ...... عُنِيْتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلَاعِ مَخَافَةً ........... وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمُ أَرْفِدِ
وإنْ يَلْتَقِ الحَيُّ الجَميعُ تُلاقِني ....... إِلَى ذِرْوَةِ البَيْتِ الرَّفيعِ المُصَمَّدِ
وَقالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ:
إِذَا الْقَوْمُ قَالُوا: مَنْ فَتًى لِعَظِيمَةٍ ......... فَمَا كُلُّهُمْ يُدْعَى، وَلَكِنَّهُ الفَتَى
وَيَكُونُ أَيْضًا مِنَ الْإِبِلِ وغَيْرِهَا، وَالأَفْتَاءُ مِنَ الدَّوَابِّ: خِلافُ المِسَانِّ، وَاحِدُهُا فَتِيٌّ.
وَالذِّكْرُ: التَّحَدُّثُ بِالْكَلَامِ، وَالشَّيْءُ يَجْرِي عَلَى اللِّسانِ، وَالصِّيتُ، وَالثَّناءُ، وَالشَّرَفُ. وَقدْ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ قولِهِم "يَذْكُرُ" لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، أَيْ يَذْكُرُهُمْ بِتَوَعُّدٍ وتهديدٍ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى المُتَقَدِّمِ فِي الآيَةِ: 36، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبَاركةِ: {أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ}.
قولُهُ تَعَالَى: {قالُوا} فِعْلٌ مَاٍض مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِف للتفريقِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {سَمِعْنا فَتًى} فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتحرِّكٍ هوَ "نا" الدالِّ على جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمينَ، وهوَ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "فتًى" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا على الأَلِفِ، وهوَ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، والتقديرُ: سَمِعْنا كلامَ فَتًى، والجُملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَقولُ القَوْلِ لِـ "قالوا".
قوْلُهُ: {يَذْكُرُهُمْ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ: (هُوَ) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا إِبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً لِـ "فَتًى". قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسيرِهِ "الكَشَّاف": (فَإِنْ قُلْتَ: مَا حُكْمُ الفِعْلَيْنِ بَعْدَ "سَمِعنَا"، وَمَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: هُمَا صِفَتَانِ لِـ "فَتَىً"؛ إِلَّا أَنَّ الأَوَّلَ وَهُوَ "يَذْكُرهم" لَا بُدَّ مِنْهُ لـ "سَمِعَ"؛ لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْدًا، وَتَسْكُتُ، حَتَّى تَذْكُرَ شَيْئًا مِمَّا يُسْمَعُ، وَأَمَّا الثاني فَلَيْسَ كَذَلِكَ). قَالَ السَّمينُ الحلَبيُّ في تفسيرِهِ "الدُّرُّ المَصُونُ": (هَذَا الذي قالَهُ لَا يَتَعَيَّنُ؛ لِمَا عَرَفْتَ أَنَّ "سَمِعَ" إِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا يُسْمَعُ نَحْوَ "سَمِعْتُ مَقَالَةَ بَكْرٍ" فَلَا خِلَافَ أَنَّهَا تَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَا لَا يُسْمَعُ فَلَا يُكتْفَى بِهِ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ؛ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ شَيْءٍ يُسْمَعُ فَلَوْ قُلْتَ: "سَمِعْتُ زَيْدًا" وَسَكَتَّ، أَوْ "سَمِعْتُ زَيْدًا يَرْكَبُ" لَمْ يَجُزْ. فَإِنْ قُلْتَ: سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ صَحَّ. وَجَرَى فِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ النُّحَاةِ، فَأَبُوا عَلِيٍّ (الفارسيُّ) يَجْعَلُها مُتَعَدِّيَةً لِاثْنَيْنِ، وَلَا يَتَمَشَّى عَلَيْهِ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَغَيْرُهُ يَجْعَلُها مُتَعَدِّيَةً لِوَاحِدٍ، وَيَجْعَلُ الجُمْلَةَ بَعْدَ المَعْرِفَةِ حالًا، وَبَعْدَ النَّكِرَةِ صِفَةً، وَهَذَا ما أَرَادَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَيجوزُ هُنَا أَنْ يَتَعَدَّى الفِعْلُ "سَمِعَ" لِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنٍ، فَقَدْ دَخَلَ عَلَى مَا لَا يُسْمَعُ، فَيتَعدَّى إلى مَفْعولينِ، ويَكُونُ "فَتًى" مَفْعُولًا أَوَّلَ، وَجُمْلَةُ "يَذْكُرُهُمْ" مَفْعُولًا ثانيًا، فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، بِخِلافِ مَا إِذَا دَخَلَ عَلَى مَا يُسْمَعُ، كَقولِكَ: "سَمِعْتُ كَلامَ فلانٍ يَقُولُ كَذَا وكَذا"، فَيَتَعَدَّى عندَ ذلكَ إِلى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: "سَمِعْتُ زَيْدًا" وَسَكَتَّ لَمْ يَكُنْ كَلَامًا بِخِلافِ سَمِعْتُ قِرَاءَتَهُ وَحَديثَهُ.
قولُهُ: {يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ (للمَفْعُولِ)، مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. وَ "لَهُ" اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بـ "يقالُ" والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "إِبراهيمُ" مَرْفوعٌ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، أَيْ: قَالَ لَهُ هَذَا اللَّفْظَ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: "فَالْمُرادُ الاسْمُ لَا المُسَمَّى".
وَثمَّةَ خِلافٌ بَيْنَ النَّحْوِيِّينَ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ: أَعْنِي تَسَلُّطَ القَوْلِ عَلَى المُفْرَدِ الَّذي لَا يُؤَدِّي مَعْنَى جُمْلَةٍ، وَلَا هُوَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جُملْةٍ، وَلَا هُوَ مَصْدَرٌ لِـ "قالَ"، وَلَا هُوَ صِفَةٌ لِمَصْدَرِهِ نَحْوَ: قُلْتُ زَيْدًا، أَيْ: قُلْتُ هَذَا اللَّفْظَ، فَاخْتَارَهُ جَمَاعَةٌ منهمُ الزَّجَّاجِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنِ خَرُوفٍ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ الإِشْبِيْلِي، وَابْنِ مَالِكٍ، مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، ابْنِ مَالِكٍ الطائِيِّ. وَمَنَعَهُ آخَرُونَ. وَمِمَّنِ اخْتَارَ رَفعَ "إِبْرَاهيمُ" عَلَى مَا ذَكَرْتُ الزَّمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ. أَمَّا إِذَا كَانَ المُفْرَدُ مُؤَدِّيًا مَعْنَى جُمْلَةٍ كَقَوْلِهِمْ: "قُلْتُ خُطْبَةً وَشِعْرًا وَقَصِيدَةً"، أَوْ اقْتُطِع مِنْ جُمْلَةٍ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ امْرِئِ القَيْسِ:
إَذَا ذُقْتَ فاهَا قُلْتَ طَعْمُ مُدَامَةٍ ............. مُعَتَّقَةٍ مِمَّا يَجِيءُ بِهِ التُّجُرْ
أَوْ كانَ مَصْدَرًا نَحْوَ: قُلْتُ قَوْلًا، أَوْ صِفَةً لَهُ نَحْوَ: قُلْتُ حَقًا، أَوْ بَاطِلًا، فَإِنَّهُ يَتَسَلَّطُ عَلَيْهِ. كَذَا قَالُوا: وَفِي قَوْلِهِمْ: "المُفْرَدُ المُقْتَطَعُ مِنَ الجُمْلَةِ" نَظَرٌ، لِأَنَّ هَذَا لَمْ يَتَسَلَّطْ عَلَيْهِ القَوْلُ، إِنَّمَا يَتَسَلَّطُ القَوْلُ عَلَى الجُمْلَةِ المُشْتَمِلَةِ عَلَيْهِ. وَيَجوزُ أَنْ يُعْرَبَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: يُقَالُ لَهُ: هَذَا إِبْراهِيمُ، أَوْ: هُوَ إِبْرَاهِيمُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ، أَيْ: يُقَالُ لَهُ: إِبْراهِيمُ فَاعِلٌ ذَلِكَ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ مُنَادَى وَحَرْفُ النِّدَاءِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْديرُ: يَا إِبْراهِيمُ. وقالَ أَبُو إِسْحَاق الزَّجَّاجُ: يَرْتَفِعُ "إِبْرَاهِيمُ" عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى مَعْنَى: يُقالُ لَهُ هُوَ إِبْراهِيمُ، وَعَلَى النِّداءِ، عَلَى مَعْنَى: يُقالُ لَهُ: يَا إِبْراهيمُ: "مَعاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" للزَّجَّاجِ: (3/396). وَعَلَى الأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ فَهُوَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جُمْلَةٍ، وَتِلْكَ الجُمْلَةُ مَحْكِيَّةٌ بِـ "يُقالُ". وَالجُمْلَةُ مِنْ "يُقَالُ لَهُ" يُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ مَفْعُولًا آخَرَ نَحْوَ قَوْلِكَ: "ظَنَنْتُ زَيْدًا كَاتِبًا شَاعرًا"، وَأَنْ تَكونَ صِفَةً عَلَى رَأْيِ أَبي القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وَمَنْ تَابَعَهُ، ويجوزُ أَنْ تَكونَ حَالًا مِنْ "فَتًى". وَجَازَ ذَلِكَ لِتَخَصُّصِها بالوَصْفِ.