فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ
(12)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} أَيْ: فَلَمَّا أَدْركوا أَنَّ انْتِقامَنَا مِنْهُمْ وَعَذابَنَا إيَّاهمْ نَازِلٌ بِهِم فالْإِحْسَاسُ بالشَّيْءِ: إِدْرَاكُهُ بِالْحِسِّ، وَيَكُونُ بِسَمَاعِ أَصْوَاتٍ مُزعِجَةٍ أَوْ رُؤيَةِ ما يُؤْذِنُ بِهَلَاكِهِمْ، مِنْ رِّيَاحِ عاتِيَةٍ، أَوْ رُعودٍ قاصِفةٍ، أَوْ صَوَاعِقَ حارقةٍ، أَوْ ما شَابَهَ ذَلِكَ. يُقالُ: أَحَسَّ الرَّجُلُ الشَّيْءَ إِحْسَاسًا: إِذا عَلِمَ بِهِ، وتُزَادُ الباءُ عَلَيْهِ الباءُ فيُقالُ: أَحَسَّ بِهِ فيكونُ المَعْنَى شَعَرَ بِهِ، وَالإِحْساسُ: العِلْمُ بِالحَوَاسِّ، وحواسُّ الإِنْسانِ مَعْروفَةٌ، وهيَ: الإبْصَارُ بالعَيْنِ، وَالسَّمْعُ بالأُذُنِ، وَالشَّمُّ بالأَنْفِ، وَالذَّوْقُ بِاللِّسَانِ، واللَّمْسُ باليَدِ.
وَالْبَأْسُ: الْأَلَمُ الشَّديدُ، وَالْعَذَابُ الأَلِيمُ، والبَأْسُ أَيْضًا: الشِّدَةُ في الحَربِ. يُقَالُ: بَؤُسَ الرَّجُلُ يَبْؤُسُ بَأْسًا، إِذَا كَانَ شَديدَ البَأْسِ. فَهُوَ بَئيسٌ، أَيْ: شُجَاعٌ. وَعَذَابٌ بَئيسٌ: أَيْ شَديدٌ. وَبَئِسَ الرَّجُلُ يَبْأَسُ بُؤْسًا وبَئيسًا فهو بائِسٌ: إِذَا اشْتَدَّتْ حاجَتُهُ. وَفُلان بْئْسَ الرُّجُلُ: كَلِمَةٌ للذَّمِ. وكَذلكَ بِئْسَتِ المَرْأَةُ فلانَة. وَهُوَ ـ ك "نِعَمَ" فِعْلٌ مَاضٍ جَامِدٌ لَا يَتَصَرَّفُ، لأَنَّهُ أُزِيلَ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَهُوَ مَنْقُولٌ: مِنْ قولِكَ بَئِسَ فُلانٌ إِذَا أَصَابَ بُؤْسًا، كَ "نِعْمَ" فهَو منقولٌ مِنْ نَعِمَ فُلَانٌ إِذَا أَصَابَ نِعْمَةً، فقد نُقِلا إِلَى المَدْحِ وَالذَّمِّ، فَشَابَهَا الحُروفَ فَلَمْ يَتَصَرَّفَا. ويُجْمَعُ بُؤْسٌ عَلى أَبْؤُسٍ، وَقَدْ أَبْأَسَ إبْآسًا، ومنْهُ قَولُ الكُمَيْتِ الأسديِّ:
قالُوا أَسَاءَ بَنُو كُرْزٍ، فَقُلْتُ لَهُمْ ............ عَسَى الغُوَيْرُ بِإِبْآسٍ وَإِمْرارِ
ويقالُ: لَا تَبْتَئِسْ، أَيْ لَا تَحْزَنْ. وَالمُبْتَئِسُ: الكَارِهُ، وَأَيْضًا الحَزينُ. ومنْ ذلكَ قَولُ حَسَّان بْنِ ثابتٍ الأنْصاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
مَا يَقْسِمُ اللهُ أَقْبَلْ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ............ مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَال
وَهَذِهِ الجُمْلَةُ مُفَرَّعَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا.
قولُهُ: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} إِذَا: هِيَ الفُجَائِيَّةُ، وَ "مِنْها" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "مِنْ" لِلِابْتِدَاءِ، أَيْ: خَارِجِينَ مِنْهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ وذَلِكَ بِتَأْوِيلِ "يَرْكُضُونَ" بِمَعْنَى "يَهْرُبُونَ"، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "لَا تركضوا": لَا تَفِرُّوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ أيْضًا فِي قَوْلِهِ: "يركضون": يَفِرُّونَ. أَيْ: إِذا هُمْ يَفِرُّونَ مِنَ بَأْسِنَا الَّذِي أَحَسُّوا بِهِ أَنَّهُ نازِلٌ بِهِمْ لا مَحالةَ. وَعَلَيْهِ فَلَا بُدَّ إذًا مِنْ تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: مِنْ بَأْسِنَا الَّذِي أَحَسُّوا بِهُ وَهُمْ فِي الْقَرْيَةِ. وَذَلِكَ بِحُصُولِ مقدِّماتِهِ التي تُنذِرُ بنُزُولِهِ كالصَّوَاعِقِ والزَّلَازِلِ، والرِّياحِ الشديدةِ وغَيْرِ ذَلِكَ.
وَأَصْلُ الرَّكْضِ: الضَّرْبُ بِالرِّجْلِ قالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ (ص): {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} الآيةَ: 42، أَيْ قالَ جِبْرِيلُ ـ عليْهِ السَّلامِ لِنَبِيِّ اللهِ أَيُّوبَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: اضْرِبِ الأَرْضَ بِرِجْلِكَ، فَضَرَبَها برِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عَيْنٌ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ، فَاغْتَسَلَ فيهَا، فَخَرَجَ مِنْهَا صَحِيحًا مُعافى، ثُمَّ ضَرَبَها ثانيَةً بِرِجْلِهِ الأُخْرَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى مَاءً عذْبًا بارِدًا، فَشَرِبَ مِنْهَا حتى ارتوى، وَكَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، دَعَا رَبَّهُ فقالَ {رَبِّ أَنّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}. وَالرَّكْضُ: ضَرْبُ الدابَّةِ بالرِّجْلِ، يُقَالُ: رَكَضَ الدَّابَّةَ يَرْكُضُهَا رَكْضًا، فَسُمِّيَ بِهِ الْعَدْوُ، لِأَنَّ الْعَدْوَ يَقْتَضِي قُوَّةَ الضَّرْبِ بِالرِّجِلِ، سُرْعَةُ سَيْرِ الْفَرَسِ، وَأُطْلِقَ الرَّكْضُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سُرْعَةِ سَيْرِ النَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِسُرْعَةِ سَيْرِهِمْ بِرَكْضِ الْأَفْرَاسِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا إِذا أَحَسُّوا بِالْعَذَابِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَعْدِ مَا أَنْذَروهُمْ، فَكَذَّبوهمْ، فَلَمَّا فقَدُوا الرُّسُلَ، وَأَحَسُّوا بِالْعَذَابِ، أَرَادوا الرّجْعَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَرَكَضُوا هَارِبِينَ مِنَ الْعَذَابِ فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَرْكُضُوا، فَعَرَفوا أَنَّهُ لَا مَحِيصَ لَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} فَلَمَّا: الفاءُ هِيَ الفَصِيحَةُ، أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ والتَّقْديرُ: إِذَا عَرَفْتَ إِهْلَاكَنَا كَثِيرًا مِنَ القَرَيَةِ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ حَالَهُمْ عِنْدَ إِهْلَاكِهَا، فَأَقُولُ: لمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذا هُمْ منها يَرْكُضونَ. و "لَمَّا" حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جَازِمٍ. و "أَحَسُّوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. و "بَأْسَنَا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، و "نَا" ضميرُ المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لَمَّا"، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} إِذَا: هِيَ الفُجَائِيَّةُ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "لَمَّا" وُجُوبًا لِكَوْنِها جُمْلَةً اسْمِيَّةً. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "مِنْهَا" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَرْكُضُونَ"، وَ "ها" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَهذا الضَّميرُ عائدُ عَلَى "قَرْيَةٍ". وَيَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى "بَأْسَنا" لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النِّقْمَةِ وَالْبَأْسَاءِ، فَأَنَّثَ الضَّمِيرَ حَمْلًا عَلَى المَعْنَى. وَ "مِنْ" عَلَى الأَوَّلِ لِابْتِدَاءِ الغَايَةِ، وَهيَ لِلْتعليل عَلَى الثاني. وَ "يَرْكُضُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رفعِهِ ثَباتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جَوَابُ "لَمَّا"، وَجُمْلَةُ "لَمَّا" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوَابْ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وُجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَة مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
وَهَذِهِ الآيَةُ وأَمْثَالُها دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ "لَمَّا" لَيْسَتْ ظَرْفِيَّةً، بَلْ حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ لِأَنَّ الظَّرْفَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ عَامِلٍ، وَلَا عَامِلَ هُنَا، لِأَنَّ مَا بَعْدَ "إِذَا" لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا.