قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(4)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} أَي: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَكَأَنَّ سائِلًا قَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ لَكَ يَا مُحَمَّدُ بِكُلِّ هَذِهِ المَعلوماتِ، وَقَدْ أَسَرَّ القَوْمُ بِها فيما بينَهُمْ؟ فَقَالَ: "رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ..".
وَقَرَأَ العامَّةِ "قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ .." فَيكونُ المَعْنَى: قُلْ لهُمْ ذَلِكَ يا رَسُولَ اللهِ.
وَ "الْقَوْلَ" كلُّ ما يُقَالُ فيشْمَلُ الجَهْرِيَّ مِنْهُ والسِّرِّيَّ، وَأخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القَوْلَ"، قَالَ: الْغَيْبَ. وَ "ال" التَّعْرِيفِ فِيه لِلِاسْتِغْرَاقِ، وَبِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ الآيةُ الكَريمةُ تَذْيِيلًا لِمَا قَبْلَهَا.
وَقدْ جاءَ هَذَا بمثابةِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، عَقِيبَ مَا حَكَى عَنْهُم مَّا أَسَرُّوهُ مِنَ القَوْلِ، كَقولِهِمْ: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} وَ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} الآيةَ: 3 مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ، وَكَقَوْلِهِمْ التالي: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} الآيةَ: 5، وَأَمْثَالِهِ مِمَّا قَالُوهُ فِيهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَنَسَبُوهُ إِلَيْهِ زورًا وبُهتانًا، في مَعْرِضِ إعْراضِهِمْ وَعِنَادِهِمْ.
أَيْ: قُلْ لَّهُمْ يَا رَسولَ اللهِ: رَبِّي يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْكُمْ، وَيَعْلَمُ كلَّ ما في السَّمَاءِ والأَرْضِ، لِيَخَافُوهُ وَيَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولونَ؛ لأَنَّهُ إِذا كانَ يَسْمَعُ ما تَقُولونَ فسَيُحاسِبُكمْ عَلَيْهِ.
إِذًا فَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَريمَةُ جَوَابًا لِمَا قَالُوُهُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ وَإِنْ أَخْفَيْتُمْ قَوْلَكُمْ في رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَطَعْنَكُمْ في صِدْقِهِ ورِسَالَتِهِ وَنُبُوَّتِهِ، وتَحَدَّثْتُم في ذَلِكَ سِرًّا فِيمَا بَيْنَكم فَإِنَّ رَبِّيَ ـ سُبْحانَه، عَالِمٌ بِذَلِكَ كُلِّهِ، وَسَيُعَاقِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَهوَ وَعِيدٌ لَهُمْ حتَّى لَا يَعُودُوا إِلَى مِثْلِهِ.
قولُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} فهوَ ـ جَلَّ وَعَلا، السَّميعُ العَلِيمُ، وَقَدْ جاءَتْ هَاتانِ الصِّفتانِ العَظيمَتَانِ للذَّاتِ الإلَهيَّةِ المُقدَّسَةِ عَلَى وَزْنِ "فَعِيلٍ" مِنْ "فاعِلٍ"، أَيْ هُوَ ـ سُبْحانَهُ، السَّامِعُ المُطْلَقُ بِلَا حَدودٍ وَلَا وِسَاطَةٍ ولا واسِطَةٍ، فَلَا يَخْفَى عَلَى سَمعِهِ صَوْتٌ مهما كانَ خافِتًا، ومهما أُسِرَّ بِهِ، وَهُوَ العَالِمُ بحقيقةِ كلِّ شيْءٍ عَلى ما هُوَ عَلَيْهِ دونَ حَدٍّ ولا واسِطَةٍ، فإنَّ الإنْسانَ ـ مَثَلًا يَسْمَعُ بِوَسَاطَةِ جِهَازٍ للسَّمْعِ الذي هوَ الأُذُنُ ذَبْذباتٍ صَوْتِيَّةً مُعَيَّنَةً، عَلى مسافةٍ معيَّنَةٍ وبدرجَةٍ معيَّنةٍ مِنَ الحدَّةِ والارتفاعِ، وَيَعْلَمُ بِوِسَاطَةِ حَوَاسِّهِ الخَمْسِ، عِلْمًا محدودًا، أَمَّا اللهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، وجَلَّتْ صِفاتُهُ، فَيسْمَعُ بِلَا وِساطَةٍ، وَيَعْلَمُ بلا وِساطَةِ جهازٍ أَوْ حاسَّةٍ أَوْ غيرِ ذَلِكَ، فيَسْمَعُ، وَيَعْلَمُ الأُمورَ عَلى حقيقتِها كَما هِيَ دُونَ حاجِزٍ وَلَا حَدٍّ، وَهَكَذَا بِقِيَّةُ صِفاتِهِ المُقدَّسةِ العظيمَةِ، فهُوَ حضْرةُ الإِطْلاقِ التي لا يَحُدُّها شَيْءٌ، ولا يَعْزُبُ عنْهَا شَيْءٌ، ظَهَرَ أَوْ خَفِيَ مَهُمَا عَظُمَ وَجَلَّ، أَوْ دَقَّ وَذَلَّ.
قوْلُهُ تَعَالى: {قَالَ} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} رَبِّي: مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى ما قبلِ ياءِ المُتكلِّمِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكةِ المناسِبةِ للياءِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "يَعْلَمُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعَودُ عَلَى الرَّبِّ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، و "الْقَوْلَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ في محلِّ الرَّفْعِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالَ". و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلَّقٌ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ القَوْلِ، أَوْ مِنْ فاعِلِ "يعلمُ". وَضَعَّفَهُ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَمْتَنِعَ ذَلِكَ. ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "يَعْلَمُ"، وَهُوَ قَريبٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ السَّمِيعِ العَلِيمِ للعلمِ به. وَ "السَّماءِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "الْأَرْضِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "السَّمَاءِ" مجرورٌ مِثْلُهُ.
قوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} الوَاوُ: للحالِ، أَوْ للاسْتِئنافِ، وَ "هُوَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ. و "السَّمِيعُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. "الْعَلِيمُ" خِبَرٌ ثانٍ لِلمُبتدَأِ مرفوعٌ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ مِنْ فاعِلِ "يَعْلَمُ"، أَوْ هي مُسْتَأَنْفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الْعامَّةُ: {قُلْ} بِصِيغَةِ الْأَمْرِ مِنْ "قال"، بِضَمِّ الْقَافِ وَحَذْفِ
الْأَلِفِ وَسُكُونِ اللَّامِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَخَلَفٌ: "قالَ" بِصِيغَةِ الْمَاضِي، حِكَايَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ هِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ الْكُوفِيِّ.