لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ
(10)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} هَذا الخِطابُ مُوَجَّهٌ هُنَا للعَرَبِ قَوْمِ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكِتَابُ: هُوَ القُرْآنُ الكَريمُ الذي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى هَذَا الرَّسُولِ العَرَبِيِّ المُكَرَّمِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ.
ويَجوزُ أَنْ يُرادَ بِـ "ذِكْرُكُمْ" أَنَّ فِيهِ تَذْكِرَةً لَكُمْ بِمَا تَرْجُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَمَا تَخَافُونَ مِنْ عَذَابِهِ، كَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ (عَبَسَ): {كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} الآيَةَ: 11. وَقَالَ الحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْهُ: فِيما أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ قالَ: "فِيهِ ذِكْرُكُمْ"، يَعْنِي: أُمْسِكُ بِهِ عَلَيْكُمْ دِينَكُمْ، وَفِيهِ بَيَانُ حَلالِكُمْ وَحَرَامِكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ": فِيهِ حَديثُكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإِمامِ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "فِيهِ ذِكْرُكُمْ" يَعْنِي: فيهِ مَا تُعْنَوْنَ بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتِكُمْ، وَمَا بَيْنَكُمْ. وقدْ يُقالُ: فِيهِ وَعْدُكُمْ وَوَعِيدُكُمْ.
وَفِي هَذَا الكِتَابِ الكَريمِ ذِكْرُ العَرَبِ، أَيْ: فيهِ شَرَفُ العَرَبِ وعِزُّهُمْ ومَجْدُهُمْ، فَقَدْ حَفِظَ لُغَتَهُمْ مِنَ التَّحَوُّلِ والتَبَدُّلِ وَالتَّغْييرِ وَالضَّياعِ إلى قيامِ السَّاعَةِ، فَهِي اللَّغَةُ الوَحِيدَةُ بَيْنَ لُغاتِ العَالَمِ الَّتي لمْ تَتَغَيَّرَ مُنْذُ أَربعَةَ عَشَرَ قَرْنًا وَنَيِّفًا، رَغْمَ كلِّ مُحاولاتِ التَّحْريفِ وَالتَّغْييرِ وَالتَّبْديلِ وَالطَّمسِ ومَحْوِ الهُويَّةِ لِأَنَّها مَحْفُوظَةٌ فِي الصُّدُورِ بِحِفظِ القرآنِ الكريم.
لَقَدْ حَاوَلَ الإِفْرنْجُ، الَّذينَ جَزَّؤوا الوَطَنَ العربيَّ وتَقاسَمُوهُ وَهَيْمَنُوا عَلَيْهِ قُرُونًا أَنْ يَفْرضُوا لُغَتَهُمْ عَلى أَبْنَاءِ العُروبةِ، لِيَطْمِسُوا هُويَّتَهُم وَيَمْحُوا لُغَتَهُمْ لأَنَّها لُغَةُ القُرآنِ الكَريمِ، والغايةُ هِيَ الفَصْلُ بَيْنَهُم وَبَيْنَ دِينِهِم وتُراثِهمْ، وَلَا سِيَّما فَرَنْسا الَّتي احْتَلَّتِ ـ فيما احْتَلَّتْ القُطْرَ الجَزائِرِيَّ عُقُودًا مِنَ الدَّهْرِ، وَفَرَضَتْ لُغَتَهَا عَلى الجَزائريِّينَ جَاعِلَةً مِنْهَا اللُّغَةَ الرَّسْمِيَّةَ لأَهْلِ البِلادِ قَرْنًا كَامِلًا وَنَيِّفًا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُنْسيهِمْ لُغَتَهُمْ وأَنْ تَمْحُوَ ذَاكِرَتِهم، لِأَنَّها كانَتْ مَحْفوظَةً في صُدُورِهِمْ بِمَا تَحْفظُ مِنْ هَذَا الكِتَابِ العزيزِ.
وأَصْلُ "الذِّكْرِ" في اللُّغَةِ العربيَّةِ: التَذَكُّرُ بَعْدَ النِّسْيانِ، فيُقَالُ: ذَكَرْتُ هَذَا الشَّيْءَ أَذْكُرُهُ، وَتَذكَّرْتُهُ بَعْدَ النِّسْيَانِ، وأَذْكَرْتُهُ غَيْرِي وَذَكَّرْتُهُ بِهِ كَذلِكَ، وَكُلُّها بِمَعْنىً.
وَيُطْلَقُ "الذِّكْرُ" عَلَى ذِكْرِ المَرْءِ رَبَّهُ بِلِسَانِهِ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى ذِكْرِهِ لَهُ بِقَلْبِهِ، أَوْ ذِكْرِهِ أَيَّ شَيْءٍ آخَرَ.
وَقَدْ تُقلَبُ الذَّالُ دَالًا كما في قَولِهِ تَعَالىَ مِنْ سُورةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُون} الآيةَ: 45، أَيْ: ذَكَرَهُ بَعْدَ نِسْيانٍ، وَأَصْلُ "ادَّكَرَ": اذْتَكَرَ، فأُدْغِمَ. وَالتَذْكِرَةُ: مَا تُسْتَذْكَرُ بِهِ الحَاجَةُ.
والذِكْرُ والذِكْرى ـ بالكَسْرِ: خِلافُ النِّسْيانِ، وَالذُكْرَةُ كَذَلِكَ. قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهيرِ بْنِ أَبي سُلْمى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَنَّى أَلَمَّ بِكَ الخَيالُ يَطيفُ ................. ومَطافُهُ لكَ ذُكْرَةٌ وَشُفُوفُ
ومِثْلُهُ الذِكْرَى. تَقُولُ: ذَكَرْتُهُ ذِكْرَى. والذِّكِّيرُ: هُوَ الجَيِّدُ الذِّكْرِ والحِفْظِ. وقَوْلُهُمْ: اجْعَلْهُ مِنْكَ عَلَى ذُكْرٍ وَذِكْرٍ، بِمَعْنًى.
و "الذِّكْرُ" أَيْضًا: العِزُّ والمَجْدُ وَالشَّرفُ، وَالصِّيتُ الحَسَنُ، والثَنَاءُ عَلَى المَحامِدِ والمَآثِرِ وحُسْنِ الفِعالِ، وسُمُوِّ الخِصَالِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورةِ (ص): {صَ. وَالقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}، أَيْ: والقُرآنِ ذِي الشَرَفِ. وَقَد وُضِعَ الذِّكْرُ مَوْضِعَ الشَّرَفِ، لِأَنَّ الشَّرَفَ يُذْكَرُ في العادةِ ويَتَنَاقَلُهُ النَّاسُ ويَتَفاخرَوْنَ بِهِ.
قَوْلُهُ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَيْ: أَفَلَا تَسْتعملونَ عُقولَكُمْ، وتَتَدَبَّرُونَ أَمْرَكمْ، وتنظرونَ في هَذِهِ الرِّسالَةِ الَّتِي جاءَكمْ بها نَبِيُّكُمْ، وهَذَا القرآنَ المُنَزَّلَ عليْهِ بلغتِكم، والنَّاطِقَ بِلِسانِكم، لِتَعْلَمُوا أَنَّ فِيهِ عِزُّكم، ومَجْدُكمْ، وشرَفُكُمْ، وَسُؤددُكمْ، وصلاحُ أَمْرِكُمْ في دُنياكم وآخِرَتِكُمْ.
قوْلُهُ تَعَالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا} لَقَدْ: اللامُ هِيَ المُوَطِّئَةُ للقَسَمِ، وَ "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقِيقِ. و "أَنْزَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "إِلَيْكُمْ" إلى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلْنَا". وَكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "كِتَابًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ واقعةٌ جَوَابًا للقَسَمِ فَلَيسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ جُمْلةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {فِيهِ ذِكْرُكُمْ} فِيهِ: "في" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "ذِكْرُكُمْ" مَرفوعٌ بالابْتِدَاءِ مُؤَخَّرٌ، وهُوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ تَذْكيرِ الجَمْع، ِوهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "كِتَابًا". وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ قولُهُ "فيهِ" هُوَ الوَصْفَ وَحْدَهُ، وَ "ذِكْرُكم" فاعِلٌ لفعلٍ مَحذوفٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِي الكَلامِ حَذْفُ مُضافٍ، والتقديرُ: فِيهِ ذِكْرُ شَرَفِكُمْ. و "ذِكْرُ" هُنا مَصْدَرٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُضافًا لِمَفْعُولِهِ، أَيْ: ذِكْرُنَا إِيَّاكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُضافًا لِفَاعِلِهِ، أَيْ: مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَتَكْذِيبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَفَلَا: الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ التَّوْبِيخِيِّ دَاخِلَةٌ عَلى مَحْذوفٍ، وَالفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ. و "لا" نَافِيَةٌ. و "تَعْقِلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رفعِهِ ثَباتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى تِلْكَ الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ، وَالتَّقْديرُ: أَلَا تَتَفَكَّرُونَ فَلَا تَعْقِلونَ أَنَّ الأَمْرَ كَذَلِكَ، وَالجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ، ليسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.