وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ
(19)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تَخَلُّصٌ إِلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ بَعْدَ مَا أَفَاضَ ـ سُبحانَهُ، فِي إِثْبَاتِ صِدْقِ رَسُولِهِ ـ عَلَيْهِ الصَلاةُ وَالسَّلَامُ، وَحُجِّيَّةِ قُرْآنِهِ العَظِيمِ. يَقُولُ اللهُ ـ تَعَالى، إِنَّ كُلَّ مَنْ في السَّمَواتِ والأَرْضِ مِنْ المَلَائِكَةِ، وَالإِنْسِ، والجِنِّ، وغَيْرِهِمْ، هُمْ مِلْكٌ لَهُ، وعَبِيدٌ، وَخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، خَلَقَهُمْ لِقَبُولِ تَكْلِيفِهِ، وَالْقِيَامِ بِمَا خُلِقُوا لِأَجْلِهِ.
قولُهُ: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} المُرادُ بقولِهِ تَعَالَى: "وَمَنْ عِنْدَهُ" هُمُ المَلَائِكَة.ُ فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمن عِنْده" قَالَ: الْمَلَائِكَة. أَيْ: وَهَؤُلَاءِ الذينَ ادَّعيتُمْ أَنَّهُمْ أَوْلَادٌ للهِ ـ تباركَ وتَعَالَى، مَا هُمْ فِي الحَقِيقَةِ إِلَّا عِبَادٌ لَهُ، وخَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ.
قولُهُ: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} ولا يَسْتَحْسِرون أَيْ: لا يَكِلُّونَ وَلَا يَتْعَبُونَ. يَقَالُ: اسْتَحْسَرَ البَعِيرُ أَيْ كَلَّ وتَعِبَ وَمَلَّ. قَالَ: عَلْقَمَةُ بْنُ عَبْدَةَ:
بِهَا جِيَفُ الحَسْرَى فَأَمَّا عِظامُها ........... فَبِيْضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيْبُ
وهُوَ مِنْ "حَسَرَ" حُسُورًا، أَيْ: انْكَشَفَ، وحَسَرَ الغُصْنَ حَسْرًا قَشَرَهُ، وَحَسَرَ القَوْمُ فُلانًا: إِذَا سَأَلُوهُ فَأَعْطاهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، وحَسَرَ الدَّابَّةَ: أَتْعَبَهَا حَتَّى هَزُلَتْ، وحَسَرَ الشَّيْءَ عَنِ الشَّيْءِ: أَزَالَهُ عَنْهُ فانْكَشَفَ، كحَسَرَ كُمَّهُ عَنْ ذِرَاعِهِ، وَحَسَرَتِ المَرْأَةُ خِمارَهَا عَنْ وَجْهِهَا. وحَسَرَ فُلانٌ حَسْرًا: أَسِفَ، وَتَلَهَّفَ على شَيْءٍ فاتَهُ، فَهُوَ حَسْرَانُ، وهِيَ حَسْرَى. وَحَسَرَ البَعِيرُ، وَالبَصَرُ حَسَارَةً كَلَّ فَهُوَ حَسِيرٌ. قالَ ـ تَعَالى، فِي الآيةِ: 4، مِنْ سُورةِ المُلْكِ: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}. وَانْحَسَرَ الكَرْبُ انْكَشَفَ، وانْحَسَرَ الماءُ: ارْتَّدَّ حَتَّى بَدَتِ الأَرْضُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ" يَقُولُ: لَا يَرْجِعُونَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ" قَالَ: لَا يَحْسِرُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ" قَالَ: لَا يَعْيَوْنَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ" قَالَ: لَا يَنْقَطِعُونَ مِنَ الْعِبَادَةِ.
قوْلُهُ تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الوَاوُ: للعَطْفِ أَوْ للاسْتِئْنافِ، و "لَهُ" اللَّامُ لِلْمِلْكِ، وَهِيَ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ بمعنى "الذي" مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. و "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِلةٍ للاسْمِ الموصول، و "السَّمَاوَاتِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "الْأَرْضِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "السَّمَاوَاتِ" مجرورٌ مِثْلُهُ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا} الآيَةَ: 17، السَّابِقَةِ عَلى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ هِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {وَمَنْ عِنْدَهُ} الواوُ: عاطِفَةٌ، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى "مَنْ" الأُولَى. و "عِنْدَهُ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ مُتعلِّقٌ بِصِلَةٍ لِلاسْمِ المَوصولِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الوَاوُ: اسْتِئْنافِيَّةً. و "مَنْ عِنْدَهُ" مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ جُمْلَةُ "لَا يَسْتَكْبِرُون"، وَ "لَا يَسْتَحْسِرُونَ} مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جملَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعرابِ.
قولُهُ: {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} لا: نافِيَةٌ، وَ "يَسْتَكْبِرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسْتَكْبِرُونَ"، و "عِبَادَتِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "مَنْ" الثانِيَةِ.
قولُهُ: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، "لَا يَسْتَحْسِرُونَ" كَقَوْلِهِ "لَا يَسْتَكْبِرُونَ"، معطوفٌ عَلَيْهِ وَلَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ.
وَيجوزُ في "مَنْ عِنْدَهُ" وَجْهانِ، الأَوَّلُ: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى "مَنْ" الأُوْلَى ـ كما تَقَدَّمَ، فقد أَخْبَرَ ـ تَعَالَى، عَنْ "مَنْ في السَّمَاوَات والأَرْضِ"، وَعَنْ "مَنْ عِنْدَهُ" بِأَنَّ الكُلَّ لَهُ فِي مُلْكِهِ، وَعَلى هَذَا فَيَكونُ مِنْ بابِ ذِكْرِ الخاصِّ بَعْدَ العَامِّ مَنْبَهَةً عَلَى شَرَفِهِ. لِأَنَّ قَوْلَهُ: "مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ" شَمَلَ "مَنْ عِنْدَهُ"، وَعَلَيْهِ فَفي قَوْلِهِ تَعَالى: "لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" أَوْجُهٌ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ حَالٌ مِنْ "مَنْ" الأُولى أَوِ الثَّانِيَةِ، أَوْ مِنْهُمَا مَعًا. وقال أَبو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: حَالٌ: إِمَّا مِنَ الأُولى أَوِ الثَّانِيَةِ عَلى قَوْلِ مَنْ رَفَعَ بِالظَّرْفِ، يَعْنِي أَنَّه إِذَا جَعَلْنا "مَنْ" منْ قَوْلِهِ: "وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ" مَرْفُوعًا بالفاعِلِيَّةِ، وَالرَّافِعُ الظَّرْفُ؛ وَإِنَّما يكونُ ذَلِكَ عَلَى رَأْيِ الأَخْفَشِ، جازَ أَنْ يَكونَ "لا يَسْتَكْبِرُونَ" حَالًا: إِمَّا مِنْ "مَنْ" الأُولَى، وَإَمَّا مِنَ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ الفَاعِلَ يَجِيءُ مِنْهُ الحَالُ. وَمَفْهُومُهُ أَنَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ مُبْتَدَأً لا يَجِيءُ "يَسْتَكْبِرُونَ" حَالًا، وَكَأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الحالَ لَا تَجِيءُ مِنَ المُبْتدَأِ، وَهُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ "لَا يَسْتَكْبِرُونُ" حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ فِي "عِنْدَهُ" الوَاقِعِ صِلَةً، وأَنْ يَكونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ فِي "لَهُ" الوَاقِعِ خَبَرًا.
وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ "مَنْ" أَنْ تَكونَ مُبْتَدًأً، وَ "لا يستكبرون" خَبَرُهُ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلةٍ قَبْلَهَا. وَهَلِ الجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: "وَلَهُ مَن فِي السَّماواتِ} اسْتِئْنَافِيَّةٌ أَوْ مُعَادِلَةٌ لِجُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَلَكُمُ الوَيْلُ} أَيْ: لَكُمُ الوَيْلُ، وللهُ تَعَالَى جَمِيعُ العالَمِ عُلْوِيِّهِ وَسُفْلِيِّهِ؟. والأَوَّلُ أَظْهَرُ.