كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أَيْ: كلُّ مَخْلُوقٍ حَلَّتِ النَّفْسُ فِي جَسَدِهِ كَالْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّ إِطْلَاقَ النُّفُوسِ عَلَيْهِمْ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ هُوَ اصْطِلَاحُ الفلاسِفةِ وَالْحُكَمَاءِ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ لَا يُطْلَقُ إِلَّا مُقَيَّدًا بِوَصْفِ الْمُجَرَّدَاتِ، أَيِ الَّتِي لَا تَحِلُّ فِي الْأَجْسَادِ وَلَا تُلَابِسُ الْمَادَّةَ. وَأَمَّا مَا وَرَدَ في القُرْآنِ الكَريمِ مِنْ إِطْلَاقُ النَّفْسِ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، فَهُوَ إِمَّا مُشَاكَلَةٌ تَقْدِيرِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ جلالُهُ، مِنْ سُورةِ آلِ عُمرانَ: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} الآيةَ: 28. وَإِمَّا مُشَاكَلَةٌ لَفْظِيَّةٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 116، مِنْ سُورَةِ المائِدةِ عَلَى لِسَانِ سيِّدِنا عيسَى ـ عَلَيْهِ السِّلامُ: {قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ}.
والنَّفْسُ في اللغَةِ هِيَ الدَّمُ، قَالَ ابْنُ بَرِّي: وَإِنَّمَا سُمِّيَ الدَّمُ نَفْسًا لِأَنَّ النَّفْسَ تَخْرُجُ بِخُرُوجِهِ. وَقَالَ إِبْراهيمُ النَّخَعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ نَفْسٌ سائِلَةٌ فَمَاتَ فِي الإِنَاءِ فَإِنَّهُ يُنَجِّسُهُ، وَفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ: كُلُّ شَيْءٍ لَيْسَتْ لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ فإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ المَاءَ إِذَا سَقَطَ فِيهِ، أَيْ دَمٌ سِائِلٌ، وشاهِدُهُ مِنَ الشِّعْرِ قَولُ السَّمَوْأَلِ بْنِ عادياءَ:
تَسِيلُ عَلى حَدِّ الظُّبَاةِ نُفُوسُنَا ........... ولَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ الظُّبَاةِ تَسِيلُ
وتُطْلَقُ النَّفْسُ أَيْضًا عَلى الجَسَدُ مَجَازًا، وَمِنْهُ قَولُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ يُحَرِّضُ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ قَتَلَةِ أَبِيهِ المُنْذِرِ بْنِ مَاءِ السَّمَاءِ:
نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أَدْخَلُوا ............... أَبْيَاتَهُم تَامُورَ نَفْسِ المُنْذِرِ
فَلَبِئْسَ ما كَسَبَ ابنُ عَمْروٍ رَهْطَهُ .......... شَمِرٌ وَكانَ بِمَسْمَعٍ وبِمَنْظَرِ
يَقُولُ: بأَنَّ بَنِي سُحَيْمٍ قَدْ حَمَلُوا دَمَ أَبِيهِ إِلَى أَبْيَاتِهِم. فَقَوْلُهُ "التامُورُ" معْناهُ: الدَّمَ.
ومِنَ المجازِ أَيْضًا إِطْلاقُ "النَّفْسِ" عَلَى العَيْنِ التي تُصِيبُ المَعِينَ حَسَدًا. يُقَالُ: نَفَسَهُ بنَفْسٍ، أَي: أَصابَهُ بِعَيْنٍ، وأَصَابَتْ فُلانًا نَفْسٌ، أَيْ عَيْنٌ، وفي الحَديثِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبيَّ ـ نَهَى عَنِ الرُّقْيَةِ إِلاّ فِي النَّمْلَةِ والحُمَةِ والنِّفْسِ. وكذلكَ رُويَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: أَنَّهُ نَهَى عَنِ الرَّقْيِ؛ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: رُقْيَةَ النَّمْلَةِ، وَالْحُمَةِ، وَالنَّفْسِ؛ وَالنَّمْلَةُ قُرُوحٌ تَخْرُجُ فِي الْجَنْبِ.
وَأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّهُ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُمْ قِدْرٌ تَفُورُ بِلَحْمٍ، فَأَعْجَبَنِي شَحْمَةٌ، فَأَخَذْتُهَا فَازْدَرَتُّهَا، فَاشْتَكَيْتُ عَنْهَا سَنَةً، ثُمَّ إِنِّي ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهَا أَنْفُسُ سَبْعَةِ أُنَاسٍ، ثُمَّ مَسَحَ بَطْنِي فَأَلْقَيْتُهَا خَضْرَاءَ، فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا اشْتَكَيْتُ بَطْنِي حَتَّى السَّاعَةِ". وأَنْفُس سَبْعَةِ أُناسٍ أَيْ أَعْيُنُهم، ورَجُلٌ نافِسٌ: عائِنٌ وهو مَنْفُوسٌ: مَعْيُونُ.
وَ " ذَائِقَةُ" مِنَ الذَّوْقِ، وَذوقُ الْمَوْتِ: معاناةُ آلَامِهِ وسَكَراتِهِ وَمُقَدِّمَاتِهِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا إِحْسَاسَ لِلْجَسَدِ بشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
هَذا وَقد اسْتُعِيرَ الذَّوْقُ لِمُطْلَقِ الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ، لِأَنَّ الذَّوْقَ إنَّما هُوَ إِحْسَاسُ اللِّسَانِ بِالْطُعومِ.
و "المَوْت"، وَالْمَوَتَانُ، والمُواتُ، ضِدُّ الحَيَاةِ، وهُوَ خُرُوجُ الرُّوحِ مِنَ الجَسَدِ، وانْتِقالُها مِنَ الحياةِ الدُّنيا إِلَى حَيَاةٌ أُخْرَى، لَا يَعْلَمُ كُنْهَهَا إلَّا اللهُ ـ تَعَالَى خالِقُها. يَقَالُ مَاتَ يَمُوتُ مَوْتًا، وَقبيلَةُ طَيِّءٌ يَقُولُونَ: "يَمَاتُ"، قَالَ أَحَدُهُم: بُنَيَّ يَا سَيِّدَةَ البَنَاتِ عِيشِي وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي.
والأَصْلُ فِيهِ مَوِتَ يَمُوتُ كَدِمْتَ تَدومُ، إِنَّمَا هوَ دَوِمَ، وَالاسْمُ المَيْتَةُ، وَرَجُلٌ مَيِّتٌّ وَمَيْتٌ، وَقَوْمٌ مَوْتَى وَأَمْوَاتٌ وَمَيِّتُونَ وَمَيْتُونَ.
وَالمَيْتُ هوَ مَنْ مَاتَ وانْتَهَى، وأَمَّا المَيِّتُ، وَالمائِتُ فهوَ الذي لَمّا يَمُتْ بَعْدُ، وذلكَ لقولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الزُّمَر: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الآيةَ: 30، فقَدْ كانَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مَا يَزَالُ عَلَى قَيْدِ الحَيَاةِ حينَ نُزُولِها، وَكَذَلِكَ المَعْنيُّونَ بِقَوْلِهِ: "إِنَّهُمْ". وَقَدْ جَمَعَ الشَّاعِرُ عَدِيُّ بْنُ الرَّعْلَاءِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ فَقَالَ:
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ .............. إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْياءِ إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ شَقِيًّا ................ كاسِفًا بَالُهُ قَليلَ الرَّجاءِ فأُناسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمادًا ...................... وَأُنَاسٌ حُلُوقُهمْ في الماءِ
فجَعَلَ المَيْتَ كَالْمَيِّتِ، واللهُ أَعْلَمُ.
والآيةُ تَقْريرٌ لِحَقِيقَةٍ وَاقِعَةٍ لا يَقْبَلُ العَقْلُ سَوَاهَا، أَلَا وهِيَ موْتُ كُلِّ نَفْسٍ، ذَلِكَ لأَنَّ مَنْ كانتْ لَهُ بِدايةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تكونَ لَهُ نِهايةُ، أَمَّا الأَزَلِيُّ الذي لا بِدايةَ لَهُ، فَلَيْسَ لهُ نِهَايَةٌ، وَهُوَ الواحِدُ الأَحَدُ الذي لَا مَثِيلَ لَهُ، وَلا شَبِيهَ، وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا شَريكَ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ.
وقَدْ قَرَّرَ القُرآنُ الكريمُ هَذِهِ الحقيقةَ في آياتٍ كثيرةٍ، بَعْدَ أَنْ قرَّرَ مَوْتَ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ كَغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِهِ ـ عَليْهِ وَعَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَإِنَّ الآيةَ الْأُولَى لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَهَذِهِ لِتَعْلِيمِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَمِنْ هَذِهِ الآياتِ قولُ رَبِّ العالَمِينَ فِي الآيَةِ: 185، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرانَ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}. وقولُهُ مِنْ سُورةِ النِّسَاءِ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} الآيةَ: 78. وقولُهُ مِنْ سُورةِ الْعَنْكَبُوتِ: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الآيتانِ: (56 و 57). وقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الزُّمَر: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الآيةَ: 3. وَقَوْلُهُ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} الآيتانِ: (26 و 27)، مِنِ سُورَةِ الرَّحْمَنِ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الكريماتِ المُبَارَكَاتِ. وَقالَ الصَّحابيُّ الجَلِيلُ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ الْغُطَيْفِيُّ المُرَادِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَاَلى عَنْهُ:
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ................... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
وَالبيتُ مِنْ قَصَيدَةٍ لَهُ يقولُ فيها:
إِذَا مَا الدَّهْرُ جَرَّ عَلَى أُناسٍ ....................... كَلاكِلَهُ أَنَاخَ بِآخَرِينَا
وَمَا أَنْ طِبُّنا جُبْنٌ وَلَكِنْ ........................... مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرينَا
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا ................... سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
كَذَاكَ الدَّهْرُ دَوْلَتُه سِجَالٌ ..................... تَكُرُّ صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينَا
وَمَنْ يُغْرَرْ بِرَيْبِ الدَّهْرِ يَوْمًا ................. يَجِدْ رَيْبَ الزَّمَانِ لَهُ خَؤُونَا
ونُسِبَتْ أَيْضًا لِذِي الأُصْبعِ العُدوانيِّ، وقدْ أَخْطَأَ مَنْ نَسَبَهَا للفرَزْدَقِ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ السَّيِّدَةَ عَائِشَةُ أُمَّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كانَتْ تَتَمَثُّلُّ بالبَيْتَيْنِ الأَوَّلِ وَالثَّالِثِ مِنْهَا. كَمَا أَنَّ ابْنَ قُتَيْبةَ قالَ في كتابِهِ (الشِّعْرُ والشُّعَرَاءُ): (1/468) وَخَالُ الفَرَزْدَقِ هُوَ العَلَاءُ بْنُ قُرْظَةَ الضَّبِّيُّ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ الفَرَزْدَقُ يَقولُ: إِنَّما أَتَاني الشِّعْرُ مِنْ قِبَلِ خَالِي، وَخَالِي الذي يَقُولُ: وذكَرَ البَيْتَيْنِ اللذيْنَ كانَتْ تتمثَّلُ بِهِما السَّيِّدَةُ عائشةُ ـ رَضِي اللهُ عَنَها وأَرْضاها. وَ "أَنْ" في البَيْتِ الثاني زائدَةٌ، وَ "طِبُّنا" عَيْبُنَا، أَوْ داؤنَا أَوْ عَادَتُنَا.
قولُهُ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} قَالَ "نَبْلوكم"، وهوَ العالِمُ بِمَا كانَ وما سَيَكونُ مِنْ أَعْمَالِ خَلْقِهِ قَبْلَ أنْ يُوجِدَهُمْ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ الاخْتِبَارِ، أَيْ: نَخْتِبُرُكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، والفَقْرِ وَالغِنَى، وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَالعَطاءِ والمَنْعِ، وَالعِزِّ وَالذُّلِّ، وَالعافيَةِ والبَلاءِ، و "فِتْنَةً" أَيْ: اخْتِبَارًا، أَتَصْبِرُونَ وَتَشْكُرُونَ، أَوْ تَكْفُرونَ تَجْزَعُونَ. والاخْتِبَارُ لإقامةِ الحُجَّةِ، وإظهارِ، الإحسانِ والإساءَةِ، وَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ العِلْمِ، كَمَا يَمْتَحِنُ الأُسْتَاذُ تِلْمِيذَهُ وهوَ عالمٌ بِمُسْتَوَاهُ العِلْمِيِّ وَمَدَى جدِّهِ واجْتِهَادِهِ وَتَحْصِيلِهِ، فإِذا نَجحَ أَوْ رَسَبَ ظهَرَ أَنَّ ذَلِكَ إنَّما هُوَ بكَسْبِهِ هوَ وَلَيْسَ بِمِزَاجِيَّةِ الأستاذِ وتحَيُّزِهِ، وَللهِ المَثَلُ الأَعْلَى.
فَفِي هَذِهِ الجُمْلةِ الكريمةِ يُخْبِرُنا ربُّنا ـ تَبَاركَ وَتَعَالى، بأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ اخْتِبَارٍ وَابْتِلَاءٍ، وَأَنَّ الْحَيَاةَ فيها مُشْتَمِلَةٌ عَلَى خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَنَفْعٍ وضُرٍّ، فأَمَّا المُؤمِنُ، فإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ خَيْراتِها مَا تَسْتَقِيمُ بِهِ أُمُورُ حَيَاتِهِ مِنْ طُرُقِهِ الَّتي أَحَلَّها اللهُ، ويَصْبِرُ عَلَى مُرِّها والعُسْرِ، وَيَسْلُكُ الطريقَ الذي رَسَمَهُ لهُ ربُّهُ مُقتدِيًا برسولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصحبِهِ الغُرِّ، وَيَتَجَنَّبُ سَلَوكَ كُلِّ حَزْنٍ ووعْرٍّ، لِيَفُوزَ مِنْ مَولاهُ بالجَزاءِ الأَوفى، في حَيَاتِهِ الأُخْرَى. وأَمَّا الكافرُ والمُنَافِقُ والعاصي فإنَّهُ لا يُؤْمِنُ باللهِ، يَخُوضُ في غِمَارِهَا، وَيَضْرِبُ في شَرْقِهَا وَغَرْبِها، يَنْهَبُ مِنْ حَلَالِها وَحَرَامِها، لاهِثًا خلفَ شهواتِهِ، لا يَسْتَمِعُ إلى هُدَى اللهِ، ويرضى بما بِهِ ابْتَلَاهُ، وَلَا يُطِيعُ رَسُولَهُ، فيُجازى بِسُوءِ العَيْشِ في الآخِرةِ.
فقد أَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ في تَفْسيرِه: (17/25)، مِنْ طَريقِ الوَالِبي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا، أَنَّهُ قالَ: أَيْ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، والصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ، والغِنَى وَالفَقْرِ، وَالحَلَالِ وَالحَرَامِ، وَكُلُّها بَلاءٌ. وأَخرجَهُ أَيضًا ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَاللَّالْكائي فِي السُّنَّةِ. وَقَالَ أَيضًا: "فِتْنَةً" يُريدُ: اخْتِبَارًا مِنِّي. وَ "وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ": تُرَدُّونَ للجَزَاءِ بِالْأَعْمَالِ، حَسَنِهَا وسَيِّئِهَا. وَقالَ الحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ بْنِ الحسَنِ بْنِ عليِّ بْنِ أبي طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَ: نَبْلُوَكُمْ بِمَا تُحِبَّونَ وَمَا تَكْرَهُونَ، لِنَنْظُرَ كِيْفَ شُكْرُكُمْ وَصَبْرُكُمْ فِيمَا تُحِبُّونَ، وَفِيمَا تَكْرَهُونَ. وَقَالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "بِالشَّرِّ" بِالْفَقْرِ وَالْبَلَايَا. وَ "الْخَيْرِ" بِالْمَالِ وَالْوَلَدِ.
والخِطَابُ: إِمَّا للنَّاسِ كلِّهِمْ فَيَكُونُ تَلْوينًا في الخِطابِ، أَوْ للمُشْرِكينَ والكَفَرَةِ وَالمُنَافِقِينَ فَيَكونُ الْتِفَاتًا.
قولُه: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنُحاسِبُكُمْ عَلَى كَلِّ شاردةٍ وواردةٍ، ودقيقةٍ وجليلَةٍ، ونُوَفِيكُمْ أُجُورَكُمْ عَلَى مَا قدَّمتُمْ مِنْ عملٍ، إِنْ كانَ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإِنْ كانَ شَرًّا فَشَرٌّ، كما قالَ في الآيَتَيْنِ: (7 و ، مِنْ سورةِ الزلزلةِ: {فمَنْ يَعْمَلْ مثقالَ ذرَّةٍ خيرًا يرَهُ * ومَنْ يعملْ مثقالَ ذرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}. قولُهُ تَعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} كُلُّ: مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ. وَ "نَفْسٍ" مَجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "ذائِقَةُ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهُوَ مُضافٌ، و "المَوْتِ" مَجْرُورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ للتَدْلِيلِ عَلَى عَدَمِ الخُلُودِ فَلَا مَجَالَ للشَّمَاتَةِ بالمَوْتِ. ليسَ لهَا محلٌّ مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "نَبْلُوكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِثِقَلِها على الواوِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى الذاتِ الإلهيَّةِ المُقدَّسَةِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ المعِ المُذكَّرِ. و "بِالشَّرِّ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَبْلو"، وَ "الشَّرِّ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "وَالْخَيْرِ" الواوُ: للعَطْفِ، و "الخَيرِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "الشَّرِّ" مَجْرورٌ مِثْلُهُ. أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِمَا يَجِبُ فِيهِ الصَّبْرُ، وَبِمَا يَجِبُ فِيهِ الشُّكْرُ. و "فِتْنَةً" مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِـ "نَبْلُوكُمْ" مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ، مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ؛ لِأَنَّ الابْتِلاءَ فِتَنَةٌ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: نَفْتُنُكُمْ فِتْنَةً، وَيْجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَوْ مَنْصوبًا عَلَى الحَالِ مِنْ فَاعِلِ "نَبْلُوكم"؛ أَيْ: فَاتِنِينَ لَكُمْ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُه: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الواوُ: للعطْفِ، أَوْ حالِيَّةٌ. وَ "إِلَيْنَا" إلى:
حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُرْجَعُونَ"، وَ "نا" ضميرُ المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهَ، مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "تُرْجَعُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَبنيٌّ للمَجْهولِ، مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ نائبًا عَنْ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "نَبْلُوكم" فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ مَفْعُولِ "نَبْلُوكم".
قَرَأَ العَامَّةُ: {تُرْجَعُوْن} بِتَاءِ الخِطَابِ مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ. وقُرِئَ "يُرْجَعونَ" بِيَاءِ الغَيْبَةِ عَلَى الالْتِفَاتِ.