قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ
(42)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} أَيْ: مَنْ يَحْرُسُكمْ، ويَحْفَظُكمْ، وَيَرْعَاكم، في كُلِّ شُؤُونِكمْ وَأَحْوَالِكُمْ، وَحَوَائجِكم، أَيْنَما كُنْتُمْ، فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ مِنْ دونِ الرَّحمَنِ ربُّكُمُ؟. وَمَنِ القادرُ عَلَى ذَلِكَ كِلِّهُ غيرُ الذي: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الآيَةَ: 4، مِنْ سورةِ الحَديدِ. أَوْ مَنْ يَسْتَطيعُ أَنْ يَمْنَعُ عَنْكم بَأْسَهُ وَعَذَابَهُ، إِذا أَرادَ ذَلِكَ بِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ مَنْ يَمْنَعُكُمْ. وَقالَ الكَلْبِيُّ: "مِنَ الرَّحْمَنِ" أَيْ: مِنْ عَذَابِ الرَّحْمَنِ. وقالَ أَبو إِسْحَاقٍ الزَّجاجُ: مَعْنَاهُ: مَنْ يَحْفَظُكُمْ مِنْ بَأْسِ الرَّحْمَنِ. "معاني القرآنِ وإعرابُهُ" لَهُ: (3/293).
وذَكَرَ اسْمَهُ "الرَّحمن" لِعُمُومِ رَحْمَتِهِ ولاخْتِصاصِهِ بِجَمِيعَ خَلْقِهِ، إِنْسِهُمْ وجِنِّهُمْ، مُؤمِنَهُم وكافرَهُمْ، وغَيْرَهُمْ مِنَ المَخْلُوقاتِ.
وَ "يَكْلَؤكُم" بابُهُ: "مَنَعَ"، ومعناهُ: يَحْميكمْ، وَيحفظُكم، وَيَرْعَاكم، ويُعْطِيكُمْ كُلَّ ما تحتاجونَهُ مِنْ أَسْبابِ الحَيَاةِ، كالهواءِ، والمَاءِ، والغِذَاءِ، والكِساءِ، والحَرَارَةِ المُنَاسِبَةِ لأَجْسامِكُمْ، وَسَمْعٍ وبَصَرٍ، وَذوقٍ، وحِسٍّ، وَوَعْيٍ، وإِدْراكٍ، وَعِلْمٍ، وَفَهْمٍ، وعَقْلٍ، وَفِكْرٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نِعَمٍ لَا تُعَدُّ ولا يُحْصيها غَيْرُ مُعْطِيهَا ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى. وَهُوَ مُشْتَقٌ مِنَ الكَلَأِ: الَّذي هُوَ العُشْبُ. يقالُ: كَلِئَتِ الأَرْضُ، وأَكْلأَتْ، فَهِيَ كَلِئةٌ وَمُكْلِئَةٌ، أَيْ: صارتْ ذَاتَ كَلَأٍ، رَطْبٍ أَوْ يابسٍ. وكَلأَتِ النَّاقَةُ وأَكْلأَتْ، إِذَا أَكَلَتِ الكَلَأَ. وكَلأَهُ اللهُ كِلاءَةً، حَرَسَهُ وَحَفِظَهُ. واكْتَلأْ مِنْ عَدوِّهِ: احْتَرَسَ. قال الشاعرُ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
أَنَخْتُ بَعِيرِي وَاكْتَلَأْتُ بِعَيْنِهِ ............ وَآمَرْتُ نَفْسِي أَيَّ أَمْرِي أَفْعَلُ
وقالَ ابْنِ هَرْمَةَ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ عَلِيٍّ الفِهْرِيُّ مِنْ مُخَضْرميِّ الدَّوْلَتَيْنِ: الأُمَوِيَّةِ والعباسِيَّةِ:
إِنَّ سُلَيْمَى وَاللهُ يَكْلَؤُهَا ................... ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا
وَيُقالُ: اكْتَلأَتْ عَيْنِي، إِذَا حَذِرَتْ أَمْرًا وسهِرَتْ وَلَمْ تَنَمْ. وَاكْتَلَأْتُ مِنْ فلانٍ اكْتِلاءً، إِذَا احْتَرَسْتُ مِنْهُ. واكْتَلَأَ بِدارِهِ تَحَصَّنَ بِهَا.
والمُكَلَّأُ بالتَّشْديدِ: شَاطِئُ النَّهْرِ، وَمَرْفَأُ السُّفُنِ. وَكَلأَ السَّفِينَةَ تَكْلِيئًا: حَبَسَهَا. والكَلَّاءُ والمُكَلَّأُ: مَوْضِعٌ تُرْفَأُ فِيهِ السُّفُنُ، وَهُوَ سَاحِلُ كُلِّ نَهَرٍ. وكَلأْ تَكْلِئَةً: أَتَى مَكانًا اسْتَتَرَ فيهِ مِنَ الريح، واسْمُ المَوْضِعِ مُكَلَّأٌ وكَلَّاءٌ. وأَكْلَأُ العُمُرِ، آخِرُهُ وأبَعَدُهُ. وكَلأَ الدَيْنُ، تَأَخَّرَ في سَدادِهِ. والكالِئُ: النَسِيئَةُ. وفي حديثِ الدارَقُطنيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: "نَهَى عَنْ بيعِ الكَالِئِ بالكالِئِ" وَهُوَ بَيْعُ النَسِيئَةِ بالنَّسِيئَةِ، بِأَنْ يَشْتَرِي الرَّجُلُ شَيْئًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فإِذَا حَلَّ مَوْعِدُ الأداءِ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَقْضيهِ بِهِ، قَالَ: بِعْنِيهُ إِلَى أَجَلٍ آخَرَ بِزِيادَةٍ، فَيَبِيعُهُ مِنْهُ، دونَ تَقابُضٍ بَيْنَهُمَا. ورواهُ عَبْدُ الرَّازَّقِ في مُصَنَّفِهِ: (8/90، رقم: 14440)، والحاكمُ في مُسْتَدركِهِ وكثيرٌ غيرُهم.
وَقالَ عَبِيدٌ بْنُ الأَبْرَصِ:
وإذا تُباشِرُكَ الهُمو ................................ مُ فإنَّها كالٍ وناجِزْ
أَيْ: مِنْها نَسِيئَةٌ وَمِنْها ما هوَ نَقْدٌ. وَتَكَلأَ كُلأَةً وَاسْتَكْلأْ: اسْتَنْسَأْ نسيئَةً. وأَكْلأَ بَصَرَهُ في الشَّيْءِ رَدَّدْهُ فِيهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا لِلإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَتَقْرِيعِهِمْ على إِشْراكهِمْ بربِّهِم وكفرِهم بِهِ، ومعصِيتِهِم لَهُ، وَعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ، وَتَكْذيبِهِم رَسولَهُ، وَمُعَادَاتِهْ، وإيذائِهِ وَالهُزْءِ بِهٍ. وَذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِاسْتِيعَابِ الْأَزْمِنَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. وَقَدَّمَ اللَّيْلَ لِأَنَّهُ زَمَنُ المَخاطِرِ وَالْمَخَاوِفِ، فَإنَّ ظَلَامَهُ يُعِينُ وَسَائلَ الشَّرِّ والضُّرِّ وأَسْبابَهُ وأدواتِهِ عَلَى وُصُولِها إِلَى مُبْتَغَاهَا. وَذَكَرَ النَّهَارَ بَعْدَهُ لِاسْتِيعَابِ الوقتِ جميعًا.
قولُهُ: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} إِضْرابٌ عَنْ مَا تَضَمَّنَهُ الكَلَامُ الأَوَّلُ مِنَ النَّفْيِ، وَالتَّقْديرُ: لَيْسَ لَهُمْ كَالِئٌ وَلَا مَانِعٌ مِنْ دونِ الرَّحْمَنِ. وَمَعَ ذلكَ فإِنَّ وَاقِعَ المُشْرِكِينَ، وحَقيقةَ أَمْرِهِمْ، أَنَّهُم غَافِلُونَ عَنْ رَبِّهِمْ، مُعْرِضُونَ عَنْ كتابِهِ الكريمِ وَذِكْرِهِ الحكيمِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يُرْجَى مِنْهُمُ الِانْتِفَاعُ بِالْتَّذْكيرِ، وَلا التَّنبيهِ، وَلَا التَّقْرِيعِ. وَفي هذِهِ الجملةِ الكَريمةِ تَّأْيِيسٌ مِنْ صَلَاحِهِمْ لأَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ الكَريمِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {قُلْ} قُلْ: فِعْلٌ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} مَنْ: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ، والاسْتِفْهامُ هنا إِنْكارِيٌّ، وهوَ مبنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. وَ "يَكْلَؤُكُمْ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ عَلى "مَنْ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والميمُ: للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "بالليْلِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ بمَعنى "فِي" الظَّرْفيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ "يَكْلَأُ"، وَ "اللَّيْلِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "النَّهَارِ" مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّيْلِ مَجْرورٌ مِثْلُهُ. و "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ أَيضًا بِـ "يَكْلَأُ"، وهوَ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: مِنْ أَمْرِ الرَّحْمَنِ أَوْ بَأْسِ الرَّحْمَنِ، فهوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الرَّعْدِ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} الآيةَ: 11. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قولُهُ: {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} بَلْ: حَرْفُ إِضْرَابٍ وَابْتِداءٍ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السَّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبرِ "مُعْرِضُونَ"، و "ذِكْرِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وَ "رَبِّ" اسمٌ للجلالةِ مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ ومُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ: للجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "مُعْرِضُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وهِيَ مَسُوقَةٌ لِلإِضْرَابِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ الكَّلَامُ مِنَ النَّفْيِ، والتَّقْديرُ: لَيْسَ لَهُمْ كَالِئٌ، وَلَا مَانِعٌ غَيْرُ الرَّحْمَنِ، مَعَ كونِهِمْ غافِلينَ عَنْهُ مُعْرِضونَ عَنْ كتابِهِ العظيمِ القرآنِ الكريم.
قرأَ الجُمْهُورُ: {يَكْلَؤُكُمْ} بهمزةٍ عَلَى الوَاوِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ، وَابْنُ القَعْقَاعِ: "يَكْلَوُكم" بِضَمَّةٍ خَفِيفَةٍ دُونَ هَمْزٍ.
وَحَكَى الكِسَائِيُّ وَالفَرَّاءُ "يَكْلَوْكم" بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الواوِ، وَلَمْ تُعْرَفْ قِرَاءَةً، وَهُيَ قَريبةٌ مِنْ لُغَةِ مَنْ يُخَفِّفْ "أَكَلَت الكَلَا عَلَى الكَلَوْ" وَقْفًا، إِلَّا أَنَّهُ أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوَقْفِ.