يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} قالَ بعضُ المُفَسِّرينَ: "مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمُ" هِي الْآخِرَةُ، وَ "مَا خَلْفَهُمُ" هِيَ الدُّنْيَا. وَقِيلَ عَكْسُ ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، المَعْنَى: يَعْلَمُ مَا قَدَّمُوا وَمَا أَخَّرُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْلَمُ مَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهِمْ.
وَهَذا بِمَثَابَةِ السَّبَبِ لِتَنَاهِيهِمْ فِي طَاعَتِهِ وعِبَادَتِهِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ عَلِمُوا كَوْنَهُ عَالِمًا بِظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُمْ إِلَى نِهَايَةِ الْخُضُوعِ وَكَمَالِ الْعُبُودِيَّةِ، فهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَلَكُوتِهِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ، وَهُوَ بِهِمْ مُحِيطٌ.
وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَة المَلائكةِ الكِرَامِ مِنْ عَدَمِ قَوْلِهم شَيْئًا حَتَّى يَقُولَهُ هُوَ، أَوْ يَأْمُرَهُمْ بِقَولِهِ، وَمِنَ الطاعةِ المُطْلَقَةِ للهِ ـ تَبَاركَ وتَعَالى، والتَّأَدُّبِ بينَ يَدَيْهِ، والخُضُوعِ التَّامِّ لِسُلْطانِهِ، وَعِلْمِهِ المُحِيطِ بِجَمِيعِ شُؤُونِهمْ، وَمَا عَمِلُوا وَمَا هُمْ عَامِلُونَ، وَدَوَامِ ذِكْرِهِمْ لَهُ وَمُلازَمَةِ تَسْبِيحِهِ، وافْتِقَارِهم إَلَيْهِ، وَمُثُولِهِمْ بَيْنَ يَدَيْهِ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} الآيةَ: 50، مِنْ سُورةِ النَّحْل، وَ {لَا يَعْصُونَ اللهَ ما أَرهُمْ وَيَفْعَلونَ ما يُؤْمَرُونَ} الآيةَ: 6، مِنْ سُورةِ التَّحْريمِ. وَإِذَا كانُوا مَقْهُورينَ تَحْتَ عِلْمِهِ وَإِحَاطَتِهِ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَةِ ربِّهِم مُشْفِقُونَ، فَكَيْفَ يُعْبَدُونَ مَعَهُ ـ تَعَالى؟ وَقَدِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ أَوْصَافُ الرُّبُوبِيَّةِ المُكْتَسَبَةِ مِنَ المُجَانَسَةِ لَهُ بِالبُنُوَّةِ، وَكَيْفَ يَتَقَدَّمُونَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ، فَيَشْفَعُونَ لِمَنْ لَمْ يَأْذَنِ اللهُ لهمْ بالشَّفاعةِ لَهُ، وَقَدْ قَالَ في الجُمْلَةِ التَّالِيَةِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ المُباركةِ: "وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى".
قوْلُهُ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} أَيْ: لا يشفعونَ إِلَّا لِمَنْ هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى وَجَلَّ وَعَزَّ، فَلَا يَشْفَعُونَ لِأَحَدٍ دُونَ إِذْنٍ منْهُ، وبغيرِ رِضَاهُ، فإِذَا أَذِنَ لَهُمْ، وَرَضِيَ مَنْ يَشْفَعُونَ فِيهِ، شَفِعُوا، واللهُ لَا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ وَالعَمَلِ، إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الكَريمِ، مُتَّبَعًا فِيهِ رَسُولَهُ الأَمينَ، بَلْهُ ـ سُبْحانَهُ، مَنْ يَأْمُرُهُمْ بالشَّفاعةِ لِمَنِ ارْتَضَى مِنْ عبادَهِ، إِظْهارًا لكرامتِهم عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمْ ـ كَمَا تَقَدَّمَ في الآيةِ التي قبلَها، لا يقولونَ شيئًا ولا يفعلونَ فعلًا حتَّى يقولَهُ هوَ أَوْ يأمُرَهم بِهِ.
والآيَةُ مِنَ أَدِلَّةِ إِثْبَاتِ الشَّفَاعَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، لِمَنَ ارتضى مِنْ خلقِهِ، وأَنْعَمَ بها عَلَيْهِ، وأَنَّ المَلائِكَةَ الكِرامَ مِنَ الذينَ يُشَفَّعونَ فَيَشْفَعُونَ.
قوْلُهُ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أَيْ مِنْ خَشْيَتِهِمْ مِنْهُ، فَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْمَفْعُولِ وَمُشْفِقُونَ خَائِفُونَ وَلَا يَأْمَنُونَ مَكْرَهُ. وَعَنْ سَيِدِنا رَسُولِ الله ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ سَاقِطًا كَالْحِلْسِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ـ تَعَالَى.
وَ "الشَّفَقُ": النَّهارُ، واحْمِرارُ الأُفُقِ عِندَ شُرُوقِ الشَّمْسِ أَيْضًا، وَ "الإِشْفاقُ": الحَذَرُ، وَالخَوْفُ، يُقَالُ: أَشْفَقْتُ أُشْفِقُ إِشْفَاقًا، وَشَفِقْتُ أَشْفَقُ شَفَقًا، وَمِنْهُ حَديثُ الحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ عُبَيْدَةُ: أَتَيْناهُ، فَازْدَحَمْنَا عَلى مَدْرَجةٍ رَثَّةٍ، فَقَالَ: أَحْسِنُوا مَلَأَكُمْ أَيُّها المَرْؤُونَ، وَمَا عَلَى البِناءِ شِفَقًا. ورواهُ عنهُ أَيْضًا رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ التَّمِيمِيِّ الرَّاجِزِ. أَي: أَحْسِنُوا أَخْلَاقَكُمْ أَيُّها النَّاسُ، فمَعْنَى "مَلَأَكُم": أَخلاقكم، وَ "مَرْؤونَ" جَمْعُ "مَرْءٍ" كَ "أَرْضُونَ" جَمْعُ "أَرْضٍ".
قولُهُ تَعَالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} يَعْلَمُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِم، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلَّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ. و "بَيْنَ" منصوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ صِلَةٍ لِـ "مَا"، وَ "أَيديهِمْ" مَجرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وَهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجَمعِ المُذكَّرِ. وَ "وَمَا" الواوُ حَرَفُ، وَ "ما" اسْمٌ مَوْصولٌ معطوفٌ على "مَا" الأولى وَلَهَا مَا لَهَا مِنْ إِعْرابٍ. و "خَلْفَهُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الاعْتِبَارِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ صِلَةٍ لِـ "مَا"، وَهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، صِفَةً رَابِعَةً لِـ "عِبَادٌ"، وَيجوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "لَا" نَافِيَةٌ. وَ "يَشْفَعُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُملةُ معطوفةٌ على جملةِ "يَعْلَمُ" عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً خَامِسَةً. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ. و "لِمَنِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَشْفَعُونَ"، و "مَنْ" اسمٌ مَوْصولٌ بمعنى "الذي"، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "ارْتَضَى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحَ المُقدَّرِ عَلَى آخِرِهِ، لِتَعَذُّرِ ظُهورِهِ على الأَلِفِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَالعائِدُ مَحْذُوفٌ والتقديرُ: إلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ.
قولُهُ: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وَهُمْ: الواوُ: حرفٌ للعطفِ، وَ "هُم" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مُشْفِقُونَ"، و "خَشْيَتِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. وَ "مُشْفِقُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّلمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلِةِ "يَشْفَعُونَ" التي قبلَها، عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً سَادِسَةً، أَوْ هيَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ مِنْ فَاعِلِ "يَشْفَعُونَ".