وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ
(32)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} السَّمَاءُ لِلْأَرْضِ كَالسَّقْفِ لِلْبَيْتِ، وَقَدْ جُعِلَتْ سَقْفًا للأَرضِ وغطاءً، وقالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ الطُّورِ: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} الآية: 5، فَسَمَّاها سَقْفًا أَيْضًا، وَحَفِظَها مِنَ الشَّيَاطِينِ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فيما ذَكَرَهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ: (5/349) مِنْ رِوَايَةِ أَبي صَالِحٍ عَنْهُ: مَحْفُوظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ بِالنُّجُومِ. وَهُوَ قَوْلُ الكَلْبِيِّ أَيضًا، وَاخْتَارَهُ الفَرَّاءُ: "مَعَاني القُرْآنِ" لهُ: (2/201)، وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْويلِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} الآيةَ: 17. وَأَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَجَعَلنَا السَّمَاءَ سقفًا مَحْفُوظًا" قَالَ: مَرْفُوعًا. وقالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: حَفِظَهُ اللهُ مِنَ الوُقوعِ عَلى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ "مَعاني القُرْآنِ وإعْرابُهُ" لهُ: (3/390). وَدَليلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ الحَجِّ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} الآيَةَ: 65. وَقالَ بعضُهُم: مَحْفُوظًا مِنَ الهَدْمِ، وَمِنْ أَنْ يَلْحَقَ الأَرْضَ مَا يَلْحَقُ غَيْرَهَا مِنَ السَّقُوفِ عَلى طُولِ الدَّهْرِ. وَذَكَرَ الشَّيخُ أَبُو حَيَّان الأنْدَلُسيُّ في تَفْسِيرِهِ "البَحرُ المُحيطُ": (6/39)، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: حُفِظَ مِنَ البِلَى والتَّغَيُّرِ عَلى طُولِ الدَّهْرِ. وَقِيلَ إِنَّ الحِفْظَ يَشْمَلُ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ. فقدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في تَفْسيرِهِ: (10/144) والحِفْظُ هَهُنا عامٌ في الحِفْظِ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقالَ الرَّازِيُّ في تفسيرهِ "الكبير": (22/165) المُرَادُ: الحِفْظُ مِنَ الوُقُوعِ وَالسُّقُوطِ اللَّذيْنِ يَجْرِي مِثْلُهُمَا لِسَائِرِ السُّقوفِ؛ لِأَنَّ حَمْلَ الآياتِ عَلَيْهِ مِمَّا يَزيدُ هَذِهِ النِّعْمَةَ عِظَمًا لأنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ، المُتَكَفِّلُ بِحِفْظِهِ وَسُقُوطِهِ عَلَى المُكَلَّفينَ. وهوَ مَضْمُونُ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الرُّومِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} الآيةَ: 25، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ فاطِر: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} الآيةَ: 41، وَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ البقرةِ: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} الآيةَ: 255.
قولُهُ: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعرضونَ} الإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ: الصَّدُّ عَنْهُ. وَعَرَضَ الأَمْرُ يَعْرِضُ: ظَهَرَ. وَعَرَضْتُ الأَمْرَ عَلَيْهِ: أَظْهَرْتُهُ لَهُ، وَأَبْرَزْتُهُ إِلَيْهِ. وعَرَضَ الرَّجُلُ أَيْضًا: إِذَا أَتَى العَرُوضَ، وَهِيَ مَكَّةُ المُكَرَّمةُ وَالمَدينَةُ المُنَوَّرةُ ـ حَرَسَهُما اللهُ، وَمَا حَوْلَهُمَا. قالَ عَبْدُ يُغُوثَ بنُ وَقّاصٍ الحارِثي:
فَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ ............ نَدامايَ مِنْ نَجْرانَ أَنْ لَا تَلَاقِيَا
قَوْلُهُ: (فَيَا رَاكِبًا) هُوَ هُنَا للنُّدْبَةِ، فَقَدْ أَرَادَ أنْ يَقولَ: (فَيَا رَاكِبَاهُ). وَالعُروضُ: الأَمْتِعَةُ الَّتي لَا يَدْخُلُها كَيْلٌ وَلَا وَزْنٌ، وَلَا يَكونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا. وَالعَرْضُ: المَتَاعُ. وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرْضٌ، سِوَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فإِنَّهُمَا عَيْنٌ. وَعَرْضُ الجَبَلِ: سَفْحُهُ وَناحِيَتُهُ. وَالعَرْضُ مِنَ السَّحَابِ: هُوَ مَا سَدَّ الأُفُقَ. وَالعَرْضُ: خِلَافُ الطُّولِ. فَهُوَ عَريضٌ وعُراضٌ. وَالعَرَضُ: مَا يَعْرِضُ للإِنْسَانِ مَنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ. وَعَرَضُ الدُنْيَا مَتَاعُها، قَلَّ أَوْ كَثُرَ، قالَ تَعَالى مِنْ سُورةِ الأَعْرَافِ: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} الآيَة: 169. يُقَالَ: الدُنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ، يِأْكُلُ مِنْهَا البَرُّ والفَاجْرُ. وَقالَ تَعَالَى في الآيةِ: 43، مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَريبًا} أَيْ: لَوْ كَانَ مَا دُعُوا إِلَيْهِ مَنَافِعَ دُنْيَويَّةً. وَقَوْلُ الأَعْشَى التَّمِيمِيِّ:
عَلَّقْتُها عَرَضًا وعُلِّقَتْ رَجُلًا ............ غَيْرِي وَعُلِّقَ أُخْرَى غَيْرَهَا الرَّجُلُ
أَيْ اعْتَرَضَتْ لَهُ فَعُلِّقَهَا مِنْ غَيْرِ قصْدٍ. وَتَقُولُ: أَعْرَضْتُ الشِّيْءَ: إذا جَعَلْتَهُ عَرِيضًا. وَعَرَضْتُ الشَّيْءَ فَأَعْرَضَ، أَيْ: أَظْهَرْتُهُ فَظَهَرَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلكافرينَ عَرْضًا} مَعْنَاهُ: أَبْرَزْناهَا حَتَّى نَظَرَ إِلَيْهَا الكُفَّارُ. وَأَعْرَضَتْ هِيَ، أَيْ: ظَهَرَتْ واسْتَبَانَتْ. قَالَ الشَّاعِرُ عَمْرُو بِنُ كُلُثومٍ التَّغْلِبِيِّ:
وأَعْرَضَتِ اليَمَامَةُ واشْمَخَرَّتْ ................. كَأَسْيَافٍ بَأَيْدي مُصْلِتِينَا
أَيْ لَاحَتْ جِبَالُها للنَّاظِرِ إِلَيْهَا عَارِضَةً. وَاعْتَرَضْتُ البَعيرَ: رَكِبْتُهُ وَهُوَ صَعْبٌ. وَاعْتَرَضَ لَهُ بِسَهْمٍ: أَقْبَلَ بِهِ قِبَلَهُ فَرَمَاهُ فَقَتَلَهُ. وَاعْتَرَضْتُ الشَّهْرَ بالصِّيامِ، ابْتَدَأْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَوَّلِهِ. وَاعْتَرَضَ فُلانٌ فُلانًا، أَيْ وَقَعَ فِيهِ. وَعَارَضَهُ، أَيْ: جَانَبَهُ وَعَدَلَ عَنْهُ. قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
وَقَدْ عَارَضَ الشِعْرَى سُهَيْلٌ كأَنَّهُ ....... قَريعُ هِجانٍ عارَضَ الشَوْلَ جافِرُ
والعَارِضُ: السَّحَابُ يَعْتَرِضُ فِي الأُفُقِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأَحْقاف: {قالوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا} الآية: 24، أَيْ: مُمْطِرٌ لَنَا. والعارِضَةُ: وَاحِدَة العَوَارِضِ، وَهِيَ الحَاجَاتُ. والعَارِضَةُ أَيْضًا: وَاحِدَةُ عَوَارِضِ السَّقْفِ. والعارِضَةُ: النَّاقَةُ الَّتي يُصَيبُها كَسْرٌ أَوْ مَرْضٌ فَتُنْحَرُ. وَالعارضَةُ أيضًا المَرَأَةُ النَقيَّةُ العَارِضِ، أَيْ نَقِيَّةُ عُرْضِ الفَمِ. قَالَ الشاعِرُ جَريرُ بْنُ عطِيَّةَ:
أَتَذْكُرُ يومَ تَصْقُلُ عارِضَيْها ................... بفَرْعِ بَشامةٍ سُقِيَ البَشَامُ
وعارَضَ، أَيْ أَخَذَ فِي عَرُوضٍ وَنَاحِيَةٍ. وعارَضَ كِتَابًا بِآخَرَ: قابَلَهُ بِهِ. وَالعَرُوضُ طَرَائقُ الشِّعْرِ وَعَمُودُهُ وأَوْزانُه وبُحُورُهُ كالطَّوِيل والبسيطِ والوافر .. . وَقَوَافِيهِ تُسَمَّى ضُرُوبًا. وَالعَرُوضُ أَيْضًا: اسْمٌ للجُزْءِ الأَخِيرِ مِنَ النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنْ بَيْتِ الشِّعرِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ كذلكَ لِأَنّ الثَّانِيَ يُبْنَى عَلَى الأَوَّلِ وَهُوَ الشَّطْرُ، فقِوَامُ البَيْتِ مِن الكَلامِ عَرُوضُهُ فلِذلِكَ يَجِبُ أَنْ تكونَ العَرُوضُ أَقْوَى من الضَّرْبِ والجَمْعُ أَعَارِيضُ، وَهِي مُؤَنَّثَةٌ ورُبَّمَا ذُكِّرَتْ. العَرُوضُ أيضًا: "النَّاحِيَةُ". والتَعْريضُ: خِلافُ التَّصْريحِ، يُقَال: عَرَّضْتَ لِفُلانٍ، وَبِفُلانٍ إِذَا قُلْتَ قَوْلًا وَأَنْتَ تَعْنِيهِ بِهِ. وَمِنْهُ المَعَارِيضُ فِي الكَلَامِ، وَهِيَ التَّوْرِيَةُ بِالشَّيْءِ عَنِ الشَّيْءِ. وَفِي المَثَلِ: "إِنَّ فِي المَعاريضِ لَمَنْدُوحَةً عَنِ الكَذِبِ"، أَيْ: لَسَعَةً. قال الشَّمَّاخُ بْنُ ضِرارٍ الغطَفانيُّ:
أَتَعْرِفُ رَسْمًا دَارِسًا قَدْ تَغَيَّرَا ............ بِذَرْوَةَ أَقْوَى بَعْد لَيْلَى وأَقْفَرَا
كَمَا خَطَّ عِبْرانِيَّةَ بيَمينِهِ .................. بِتَيْمَاءَ حَبْرٌ ثُمَّ عَرَّضَ أَسْطُرَا
وَقَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيض} الآيةَ: 51، أَيْ: كَثيرٌ واسِعٌ. وَقَوْسٌ عُرَاضَةٌ: أَيْ عَريضَةٌ. قَالَ أَبُو كَبِيرٍ الهُذَلِيِّ:
وعُرَاضَةُ السِيَتَيْنِ تُوبِعَ بَرْيُها ............... تَأْوي طَوائِفُها لِعَجْسٍ عَبْهَرِ
وَتَعَرَّضْتُ لِفُلانٍ، أَيْ تَصَدَّيْتُ لَهُ. وَتَعَرَّضَ الجَمَلُ فِي الجَبَلِ، أَخَذَ في مَسِيرِهِ يُمْنَةً ويُسْرةً لِصُعُوبَةِ الطَّرِيقِ. قالَ ذُو البِجَادَيْنِ: وَكَانَ دَلِيلُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِرَكُوبَة يُخَاطِبُ نَاقَتَهُ قائلًا:
تَعَرَّضِي مَدارِجًا وَسُومِي ....................... تَعَرُّضَ الجَوْزَاءِ للنُّجُومِ
هَذَا أَبُو القَاسِمِ فَاسْتَقِيمي
وَقالَ لَبِيدُ بْنُ ربيعَةَ:
فاقْطَعْ لُبَانَةَ مَنْ تَعَرَّضَ وَصْلُهُ .............. فَلَخَيْرُ واصِلِ خُلَّةٍ صَرَّامُها
أَيْ تَعَوَّجَ وَصْلُهُ. وَعُرْضُ الشَّيْءِ: نَاحِيَتُهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ جِئْتَهُ. يُقَالُ نَظَرَ إِلَيْهِ بِعُرْضِ وَجْهِهِ، كَمَا يُقَالُ بِصُفْحِ وَجْهِهِ. وَرَأَيْتُهُ فِي عُرْضِ النَّاسِ، أَيْ فِيمَا بَيْنَهُمْ. وعُرضُ البحْرِ: وَجْهُهُ، وَفُلانٌ مِنْ عُرْضِ النَّاسِ، أَيْ مِنْ عَامَّتِهِمْ. وَالعُرْضَةُ: الهِمَّةُ. وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَقَالَ اللهُ قَدْ أَعْدَدْتُ جُنْدًا ................ هُمُ الأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِقَاءُ
وَفُلانٌ عُرْضَةٌ للنَّاسِ: أَيْ لَا يَزَالُونَ يَقَعُونَ فِيهِ. وَجَعَلْتُ فُلانًا عُرْضَةً لِكَذَا، أَيْ: نَصَبْتُهُ لَهُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} الآية: 224، أَيْ نَصْبًا لَهَا. وَنَظَرَ إِليْهِ عَنْ عُرْضٍ وعُرُضٍ، أَيْ: مِنْ جَانِبٍ وَنَاحِيَةٍ. وَضَرَبَ النَّاسَ عَنْ عُرْضٍ، أَيْ عَنْ شَقٍّ وَنَاحِيَةٍ كَيْفَمَا اتَّفَقَ، لَا يُبَالي مَنْ ضَرَبَ. وِمِنْهُ قَوْلُهُمْ: اضْرِبْ بِهِ عُرْضَ الحائطِ، أَيْ اعْتَرِضْهُ حَيْثُ وَجَدْتَ مِنْهُ أَيَّ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِيهِ.
والعِرْضُ: رَائِحَةُ الجَسَدِ وَغَيْرِهِ، طَيِّبَةً كَانَتْ أَوْ خَبِيثَةً. يُقَالُ: فُلانٌ طَيِّبُ العِرْضِ وَمُتْنِنُ العِرْضِ. وَسِقَاءٌ خَبيثُ العِرْضِ، إِذَا كَانَ مُنْتِنًا. والعِرْضُ أَيْضًا: الجَسَدُ. وَردَ فِي صِفَةِ أَهْلِ الجَنَّةِ: إِنَّمَا هُوَ عَرَقٌ يَسيلُ مِنْ أَعْراضِهِمْ، أَيْ: مِنْ أَجْسَادِهِمْ. والعِرْضُ أَيْضًا: النَّفْسُ. يُقَالُ: أَكْرَمْتُ عَنْهُ عِرْضِي، أَيْ صُنْتُ عَنْهُ نَفْسِي. وَفُلانٌ نَقِيُّ العِرْضِ، أَيْ بَريءٌ مِنْ أَنْ يُشْتَمَ أَوْ يُعابَ.
وَعِرْضُ الرَّجُلِ أَيْضًا حَسَبُهُ. وَكلُّ وَادٍ فِيهِ شَجَرٌ عِرْضٌ. قالَ شَاعِرٌ مِنَ الأعرابَ يَمْدَحَ حياةَ البَدَاوَةِ ويَذُمَّ حياةَ الحواضِرِ:
لَعِرْضٌ مِنَ الأَعْراضِ تُمْسِي حَمَامُهُ .... وَتُضْحِي عَلَى أَفْنانِهِ الغَيْنُ تَهْتِفُ
أحَبُّ إلى قَلْبي مِنَ الدِّيكِ رَنَّةً ......... وَبابٍ إِذَا مَا مَالَ للغَلْقِ يَصْرِفُ
فإنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، مَا في خَلْقِ السَّمَواتِ مِنْ آيَاتٍ باهِرَاتٍ، ذَكَرَ إِعْرَاضَهُمْ عَنِ التَّدَبُّرِ فِي آياتِها الدَّالَّةِ عَلَى حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ مِنْ خَلْقِهَا بهَذا الشَّكْلِ العظيمِ، وهَذِهِ الدِّقَّةِ وَالتَنْظِيمِ، فَعَقَّبَ بقولِهِ: "وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعرضونَ"، أَيْ: وبالرَّغْمِ مِنْ كلِّ ذَلِكَ الإعْجَازِ والإبْهَارِ الذي يدهِشُ الأَلْبابَ وَالأَفْكارَ، فإِنَّهُمْ غيرُ مُبَالِينَ بِمَا يَرَوْنَهُ بأَبْصارهِمْ في كُلِّ جِهَةٍ وكلِّ حِينٍ.
وَأَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَهُمْ عَنْ آياتِهَا مُعْرِضُونَ" قَالَ: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ والنُّجومُ، مِنْ آيَاتِ السَّمَاءِ.
قوْلُهُ تَعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ، وَ "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "السَّمَاءَ" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "سَقفًا" مفعولُهُ الثَّاني مَنْصُوبٌ بِهِ. وَ "مَحْفُوظًا" صِفَةٌ لـ "سَقْفًا" منصوبَةٌ مِثْلُهُ، وَالجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جَعَلْنَا" الأُولَى على كونِها في مَحَلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعرضونَ} الوَاوُ: للاسْتِئنافِ، أَوْ حاليَّةٌ، و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَفعِ بالابْتِداءِ. و "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ بعدهُ "مُعْرِضُونَ"، و "آيَاتِهَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "مُعْرِضُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مَرْفوعٌ، وعلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ هيَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنَ "السَّمَاءَ"، وَلَكِنَّهَا حَالٌ سَبَبِيَّةٌ، وَالرَّابِطُ الضَمِيرُ المُضافُ إلَيْهِ فِي "آيَاتِهَا"، وَقدْ ضَعَّفَهُ السَّمينُ الحَلَبِيُّ.
قَرَأَ الجمهورُ: {عَنْ آياتِها} بالجَمعِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَحُمَيْدٌ "عَنْ آيَتِها" بِالإِفْرادِ، فَجَعَلَا الخَلْقَ آيَةً واحِدةً مُشْتَمِلَةً عَلى آياتٍ، أَوْ أَنَّهُ أَطْلَقَ الوَاحِدَ وَأَرَادَ بِهِ الجِنْسَ.