وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ
(16)قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} السَّماءُ: هي مواقعُ النُّجومِ كالشَّمسِ وتَوَابِعِهَا مِنْ كَواكِبَ وأَقْمَارٍ وشُهُبٍ وغَيْرِها مما لا يعلمُ أَشكالها وأعدادها وماهيتُها إلَّا اللهُ تَعَالَى، وَأَبْرَاجُ هَذِهِ الأجْرامِ ومَسَارَاتُها التي تسري فيها، وَمَدَارَاتُها التي فِيهَا تدورُ، بِحَسَبِ ما قدَّرَ لها خالِقُها العَظيمُ مِنْ أَنظمةٍ وَنَوَامِيسَ. ومنْ بديعِ وصْفِ النجومِ في السَّماءِ قولُ ابْنِ المُعْتَزِّ:
فإِنَّ سَمَاءَنَا لَمَّا تَجَلَّتْ ................... خِلالَ نُجُومِهَا حَتَّى الصَّبَاحِ
رِيَاضُ بَنَفْسَجٍ خَضِلٍ نَداهُ .................... تَفَتَّحَ بَيْنَهَا نَوْرُ الأَقاحِي
والسماءُ لُغَةً: مِنَ السُّمُوِّ وَالارْتِفاعِ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَسَمَاكَ: كُلُّ مَا أَظلَّكَ وَعَلَاكَ، فَسَقْفُ البَيْتِ: سَماءٌ. والمَطَرُ سَماءٌ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الغَيْمِ والغَيْمُ سَمَاءٌ لارْتِفاعِهِ عَنِ الأَرْضِ وَلِأَنَّهُ ظُلَّةٌ لَهَا، ففي حديثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ ..). أَخْرَجَهُ مالكٌ في الموطَّأِ، والشَّيْخانِ في صَحِيحَيْهِما، وغيرُهُم. والعربُ تَقُولُ: مَازَلْنَا نَطَأُ السَمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ. أَيْ المَطَرَ، وَيَجوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الطِّينُ وَالكَلَأُ لأَنَّهما بِسَبَبِ المَطَرِ. وَمِنْ ذلكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ:
إِذَا سَقَطَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ .................. رَعَيْناهُ وَإِنْ كَانُوا غَضَابَا
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ................ تُعَفِّيهَا الرَّوَامِسُ والسَّمَاءُ
وَظَهْرُ الفَرَسِ، سَماءُ لِعُلُوِّهِ وَارْتِفَاعَهِ. قالَ الشاعِرُ طُفيلٌ الغَنَويُّ:
وَأَحْمَرَ كَالدِّيباجِ أَمَّا سَماؤُهُ .................... فَرَيَّا وَأَمَّا أَرْضُهُ فَمُحُولُ
وَيُجْمَعُ عَلَى سُمِيٍّ، قَالَ رُؤْبةُ بْنُ العَجَّاجِ:
تَلُفُّهُ الأَرْواحُ والسُّمِيُّ ...................... فِي دِفْءِ أَرْطاةٍ، لَهَا حَنِيُّ
كَمَا يُجْمَعُ عَلَى أَسْمِيَةٍ، قَالَ الطِّرِمَّاحُ بْنُ الحكيمِ:
طَالَ فِي رَسْمِ مَهْدَدٍ أَبَدُهْ ...................... وعَفَى وَاسْتَوَى بِهِ بَلَدُهْ
ومَحاهُ تَهْطالُ أَسْمِيَةٍ ............................. كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ تَرِدُهْ
لَمْ يَبْقَ مِنْ مَرْسِ كَفِّ صَاحِبِهِ ................. أَخْلاقُ سِرْبالِهِ وَلَا جُرُدُهْ
وَيُسَمَّى العُشْبُ أَيْضًا سَمَاءً لِأَنَّهُ يَكونُ عَنِ السَّمَاءِ، أَيْ: المَطَر.
و "الأَرْضَ" هِيَ الكوكَبُ الَّذي نَعِيشُ نحنُ عَلَى سَطْحِهِ، ثلاثَةُ أَرْباعِهَا ماءٌ، فبحارٌ ومُحيطاتٌ، وَفيها الجَوَاهِرُ واللَّحْمُ الطَّرِيُّ. والرُّبعُ الآخَرُ يابِسٌ مِنْ جِبَالٍ، وَوِهَادٍ، وَسُهُول، وَصَحَارَى وسُهُوبٍ، فَعَلَى سَطْحِهَا النَّبَاتُ وَالزُّرُوعُ، وَفِي باطِنِهَا المَعَادِنُ السائِلَةُ والجامِدَةُ.
وَالأَرْضُ: اسْمُ جِنْسٍ مُؤَنَّثٌ، سُمِّتْ كَذَلكَ لأَنَّ أَهْلَهَا يَتَلَبَّثُونَ بِهَا ويتشَبَّثُونَ، ويَنْشَدَّونَ إِلَيْها ويَنْجَذِبُونَ، وَيُجْمَعُ عَلَى: أَرْضاتٍ، وأُرُوضٍ، وَأُرُضٍ، وَأَراضٍ، وأَرَضُونَ. قَالَ عَمْرُو بْنُ شَأْسٍ:
ولَنَا مِنَ الأَرْضِينَ رَابِيَةٌ ....................... تَعْلُو الإِكَامَ وَقُودُهَا جَزْلُ
وَكُلُّ مَا سَفُلَ فَهُوَ أَرْضٌ. وأَرضٌ أَريضَةٌ: زَكِيَّةٌ، بَيِّنَةُ الأَراضَةِ، وَأَرُضَ، زَكَى. وَأَيْضًا: أَرْضٌ أَريضَةٌ: أَيْ مُعْجِبَةٌ للعَيْنِ.
وأَسْفَلُ قَوَائِمِ الدَّابَةِ: أَرْضٌ، لِطُولِ الْتِصَاقِهَا بالأَرْضِ. قَالَ حُمَيْدٌ الأَرْقَطُ الرَّاجِزُ يَصِفُ فَرَسًا بالصِّحةِ والعافيَةِ والفُتُوَّةِ وَالقوَّةِ:
ولم يُقَلِّبْ أَرْضَها البَيطارُ ........................ وَلَا لِحَبْلَيْهِ بِهَا حَبَارُ
أَيْ: لَمْ يُقَلِّبْ حَوَافِرَهَا مِنْ عِلَّةٍ فِيهَا أَوْ مَرَضٍ.
وَالأَرْضُ أَيْضًا: الرَّجْفةُ وَالنَفْضَةُ وَالرَّعْدَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَدْ زُلْزِلَتِ الأَرْضُ: وَاللهُ مَا أَدْرِي! "أَزُلْزِلَتِ الأَرْضُ أَمْ بِي أَرْضٌ" أَيْ: أَمْ بي رَعْدَةٌ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ صَائِدًا:
إِذَا تَوَجَّسَ رِكْزًا مِنْ سَنَابِكِهَا ......... أَوْ كَانَ صَاحِبَ أَرْضٍ أَوْ بِهِ الْمُومُ
وَالأَرْضُ أَيْضًا: الزُّكامُ، والمُصابُ بالزُّكامِ مَأْرُوضٌ. وَآرَضَهُ اللهُ إِيْراضًا: أَزَكَمَهُ، وابْتَلاهُ بالزُّكامِ. وَفَسيلٌ مُسْتَأْرِضٌ: لَهُ عُرُوقٌ فِي الأَرْضِ. وَالإِراضُ، البِسَاطُ الضَّخْمُ مِنَ الصُّوفِ أَوِ الوَبَرِ. وَرَجُلٌ أَريضٌ: مُتَوَاضِعٌ.
والأَريضُ أَيْضًا: العَريضُ، أَوِ السَّمِينُ. وأُرِضَتِ الخشبةُ تُؤرَضُ أرْضًا، فَهِيَ مَأْروضَةٌ، إِذَا أَكَلَتْها الأَرَضَةُ. والتَأَرَّضُ: التَّثاقُلُ إِلى الأَرْضِ، وَالتَّعَرُّضُ والتَّصَدِّي لَهَا أَيْضًا. قَالَ الرَّكَّاضُ الدُّبَيْرِيُّ الرَّاجِزُ:
وَصَاحِبٍ نَبَّهْتُهُ لِيَنْهَضَا ................. إِذَا الكَرَى في عَيْنِهِ تَمَضْمَضَا
يَمْسَحُ بالْكَفَّيْنِ وَجْهًا أَبْيَضَا ................... فَقَامَ عَجْلانَ ومَا تَأَرَّضَا
أَي: وَمَا تَثَاقَلَ، أَوْ: وَمَا تَلبَّثَ. وَقالَ النابغةُ الجَعْدِيُّ:
مُقيمٌ مَعَ الحَيِّ المُقيمِ وقَلْبُهُ ........ مَعَ الرَّاحلِ الغَادِي الَّذي مَا تَأَرَّضَا
وقالَ شاعِرٌ يهجو الحُطَيْئَةَ:
قَبُحَ الحُطِيْئَةُ من مُنَاخِ مَطِيَّةٍ ............... عَوْجاءَ سائمَةٍ تَأَرَّضُ للْقِرَى
أَيْ: تَتَعَرَّضُ للقِرَى.
"وَمَا بَيْنَهُمَا" أَيْ وَمَا خلقناهُ بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ، وَهُوَ الفَضَاءُ الَّذي سُخِّرَ للإِنْسانِ، وَفِيهِ السَّحَابُ المُثْقَلُ بالمَاءِ يَنْزِلُ فَيُرَوِّي الحَرْثَ والغَرْسَ، فَسُبْحانَ اللهِ خالقِ كلِّ شيءٍ وَمَالِكِ كِلِّ شَيْءٍ: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الآيَةَ: 2، مِنْ سُورَةِ الفُرْقان.
والِاسْتِدْلَالُ بِإِتْقَانِ نِظَامِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا عَلَى حِكْمَةِ اللهِ فِي خَلْقِ الْمَخْلُوقَات وَخلق نُظُمِها وَسُنَنِهَا وَفِطَرِهَا، بِحَيْثُ تَكُونُ أَحْوَالُهَا وَآثَارُهَا وَعَلَاقَةُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَنَاسِبَةً مُجَارِيَةً لِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ الإلهِيَّةُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ.
"لاعِبِينَ" أَيْ عَلَى غَيْرِ مَقْصِدٍ صَحِيحٍ نَافِعٍ للنَّاسِ ولِجَمِيعِ المخلوقاتِ فيهِ هُدًى لَهَا ورَشادٌ، فَقَدْ خَلَقَ كلَّ هَذَا الخَلْقِ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا ومَقَصِدٍ قَصَدَهُ، تَقدَّسَ وتَنَزَّهَ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذلكَ دُونَ هَدَفٍ فهو ـ سَبْحانَه مَنَزَّهٌ عَنِ العَبَثِ، قالَ تعالى مِنْ سُورَةِ المُؤمنونَ: {أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا وأنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرجَعونَ} الآية: 115، ومَا لَيْسَ لَهُ مَقْصِدٌ صحيحٌ نافِعٌ فهو مِنَ اللَّعِبِ وَقَدْ تنزَّهَ اللهُ عَنْ ذَلِكَ، وإِذا كانَ العُقَلاءُ مِنَ البَشَرِ بَعِيدينَ عَنْ ذَلِكَ، فَمَا بالُكَ باللهِ ـ جَلَّ جَلالُهُ العظيمُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ" يَقُول: مَا خَلَقْنَاهُمَا عَبَثًا وَلَا بَاطِلًا. وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: لِأُجَازِي أَوْلِيائي، وَأُعَذَّبَ أَعْدائي. ذَكَرَهُ الواحديُّ في تَفْسيرِهِ (البَسيطُ). وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: "وما خلقنا .." إِلَّا حُجَّةً عَلَيْكُمْ أَيُّها النَّاسُ، وَلِتَعْتَبِرُوا بِذَلِكَ كُلِّهِ فَتَعْلَمُوا أَنَّ الذي خلقَ كُلَّ ذَلِكَ ودَبَّرَهُ لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَا تَكُونَ الأُلُوهِيَّةُ إِلَّا لَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَلَا تَصْلُحُ العِبَادَةُ لِشَيْءٍ. تفسيرُ (جامِعُ البَيَانِ في تأْويلِ القرآنِ): (17/9) لَهُ.
وَفِي الآيَةِ إِشارةٌ مُجْمَلَةٌ إِلَى أَنَّ تَكوينَ العَالَمِ وَإِبِداعَ بَني آدَمَ مُؤَسَّسٌ عَلى قَوَاعِدِ الحِكَمِ البَالِغَةِ المُسْتَتْبِعَةِ للغَاياتِ الجَلِيلَةِ، وَتَنْبِيهٌ عَلى أَنَّ مَا حُكِيَ مِنَ العِقَابِ النَّازِلِ بِأَهْلِ القُرَى وَالعَذَابِ المُحيقِ بهِمْ هوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تِلْكَ الحِكَمِ وَمُتَفَرِّعَاتِهَا حَسْبَ اقْتِضَاءِ أَعْمَالِهِمْ.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "مَا" نِافِيَةٌ. و "خَلَقْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "السَّمَاءَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "الْأَرْضَ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ مَنْصُوبٌ مِثْلُهُ. وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ فِي مَحَلَّ النَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى "السَّمَاءَ"، أَوْ هوَ نَكِرَةٌ مَوْصوفةٌ. و "بَيْنَهُمَا" منصوبٌ عَلى الظَّرفيَّةِ المكانيَّةِ مُتعلِّقٌ بِصِلَةٍ لِـ "ما"؛ أَوْ بِصِفَةٍ لَهَا، إنْ كانتْ نكرةً مَوْصوفةً، وهُوَ مُضافٌ، و "هُما" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "لَاعِبِينَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الفَاعِلِ في "خَلَقْنَا"، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.