وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ
(26)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} وَالقائلُ: هُمُ مُشْرِكُو قريش، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: القائِلُ لِهَذَا هُوَ النَّضْرُ بْنُ الحَارِثِ. وَقالَ قَتَادَةُ: هُمُ اليَهُودُ، قَالُوا: إِنَّ اللهَ صَاهَرَ الجِنَّ فَكَانَتْ مِنْهُمُ المَلائِكَةُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ مِنَ المَلَائِكَةِ. "تَنْويرُ المِقْبَاسِ مِنْ تَفْسيرِ ابْنِ عبَّاسٍ": (ص: 201).
وَتُطْلَقُ كَلِمَةُ الْـ "وَلَد" عَلى المُفْرَدِ والجَمْعِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالمَعْنَى: وَقالَ المُشْركونَ أَنَّ اللهَ ـ جَلَّ وَعَلَا، اتَّخَذَ لنَفْسِهِ أَوْلَادًا، وَأَرَادُوا بذلِكَ أَنَّهُ اتَّخَذَ الملائكَةَ بَنَاتٍ لَهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى مُعتقدَهُمْ هَذَا في سُورَةِ النَّحْلِ فَقَالَ: {وَيَجْعَلُونَ للهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ} الآيةَ: 57، إِذْ كَانَتْ قبيلةُ خُزَاعَةُ ـ وَهُمْ مِنْ سُكَّانِ ضَوَاحِي مَكَّةَ، تَزْعُمُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ هُمْ بَنَاتُ اللهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ، يُشَارَكَهُمْ بَعْضٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ فِي هَذَا الزَّعْمِ، كما تَقَدَّمَ.
إِذًا فالآيَةُ بَيَانٌ لِبَاطِلٍ آخَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ المُشْركونَ وَهُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ اللهَ اتَّخَذَ وَلَدًا. فقد نَقَلَ الإمامُ الوَاحِدِيُّ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَعْضَ أَجْنَاسِ العَرَبِ: جُهَيْنَةَ، وَبَنِي سَلَمَةَ، وَخُزَاعَةَ، وَبَني مَلِيحٍ، كانوا يَقُولُونَ ذَلِكَ.
وَالتَّعَرُّضُ لِصِفتِهِ ـ تَعَالَى، الرَّحْمَانِيَّةِ المُنْبِئَةِ عَنْ كَوْنِ جَميعِ مَا سِوَاهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ وجَلَّتْ صِفاتُهُ، هُوَ مَرْبُوبٌ لَهُ نِعْمَةً أَوْ مُنْعَمًا عَلَيْهِ، وذلكَ لإِبْرازِ كَمَالِ شَنَاعَةِ دَعْواهُمُ الباطِلَةِ وَمَقَالَتِهِمُ الشَّنيعَةِ.
قَوْلُهُ: {سُبْحَانَهُ} أَيْ تَنَزَّهَ بِالذَّاتِ العَلِيَّةِ تَنَزُّهًا يَليقُ بِهِ، وَهَذا تَنْزِيهٌ لِوَاجِبِ الْوُجُودِ ـ تَبَاركَتْ أَسْماؤُهُ، عَنْ اتِّخَاذِ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ يُعَدُّ نَقْصًا فِي جَانِبِهِ ـ تَباركَ وَتَعَالى، أَعْقَبَ مَقَالَتَهُمْ الَّتي ادَّعَوْا فيها لَهُ الوَلَدَ، لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْوَلَدِ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَنِ الِافْتِقَارِ إِلَى الكَمالِ بِتَلافِي النَّقْصِ العَارِضِ جَرَّاءَ فَقْدِ الْوَلَدِ، واللهُ هوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ الَّذي لَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ، وكلُّ شيْءٍ مُفْتَقِرٌ إِليهِ كَمَا قَالَ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: {قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُون} الآيةَ: 68.
قولُهُ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أُعْقِبَ مَقالَتَهُمْ الشَّنيعَةَ تَلْكَ حَرْفُ الْإِضْرَابِ "بَلْ" مُخْبِرًا عَنِ المَلائِكةِ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ، أَيْ: بَلِ الْمَلَائِكَةُ عِبَادٌ مُكَرَمُونَ عِنْدَهُ، فِي مَنَازِلَ عَالِيَةٍ وَمَقَامَاتٍ سَامِيَةٍ، أَكَرمَهُمُ اللهُ بِرِضَاهُ عَنْهُمْ، وَجَعَلَهُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْمُقَرَّبِينَ، وَفَضَّلَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِهِ الصَّالِحِينَ، لِأَنَّهُمْ لَهُ فِي غَايَةِ الطَّاعَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ أَكْرَمْتُهُمْ، وَاصْطَفَيْتُهُمْ. تنويرُ المِقْبَاسِ مِنْ تفسيرِ ابْنِ عبَّاسٍ: (ص: 201). وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَة ـ رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَت الْيَهُود: إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، صَاهَرَ الْجِنَّ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ اللهُ تَكْذِيبًا لَهُم: "بَلْ عِبَادٌ مُكَرَّمونَ"، أَيْ: الْمَلَائِكَةُ لَيْسَ كَما قَالُوا، بَلْ هُمْ عِبَادٌ أَكْرَمَهُمُ اللهُ بِعِبَادَتِهِ.
وجاءَ في سببِ نُزولِ هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ ما ذَكَرَهُ الإمامُ القُرطُبيُّ في تَفْسيرِهِ أَنَّ هَذِهِ لآيةَ الكَريمةَ نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا: (الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللهِ)، وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ طَمَعًا فِي شَفَاعَتِهِمْ لَهُمْ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ ـ قَالَ مَعْمَرٌ فِي رِوَايَتِهِ، أَوْ طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ: خَاتَنُ إِلَى الْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةُ مِنَ الْجِنِّ، فَقَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "سُبْحانَهُ" تَنْزِيهًا لَهُ: "بَلْ عِبادٌ"، أَيْ: بَلْ هُمْ عِبَادٌ "مُكْرَمُونَ"، أَيْ: لَيْسَ كَمَا زَعَمَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا} فِعْلٌ ماضٍ، مَبْنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ هذا ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَ "الرَّحمنُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ. و "ولَدًا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِ النَصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قالوا".
قولُهُ: {سُبْحَانَهُ} مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ منصوبٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا، عَلَى أَنَّ السُّبْحَانَ مَصْدَرٌ مِنْ "سَبَّحَ"، وَالتَّقْديرُ: سَبِّحُوا اللهَ سُبْحَانًا، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.
قولُهُ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} بَلْ: حَرْفٌ للإِضْرَابِ والإِبْطالِ. وَ "عِبَادٌ" خَبَرٌ مَرْفوعٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: بَلْ هُمْ عِبَادٌ. وَأَجازَ الزَّجَّاجُ فيهِ النَّصْبَ عَلَى مَعْنَى: "بَلِ اتَّخَذَ عِبَادًا مُكْرَمِينَ". وَأَجَازَهُ الْفَرَّاءُ ولكنْ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى "وَلَد"، أَيْ: بَلْ لَمْ نَتَّخِذْهُمْ وَلَدًا، بَلْ اتَّخَذْنَاهُمْ عِبادًا مُكْرَمِينَ. وَ "مُكْرَمُونَ" صِفَةٌ لِـ "عِبَادٌ"، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِةُ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بيانِيًّا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {مُكْرَمُونَ} بِتَخْفيفِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ "مُكَرَّمُونَ" بتَشْديدِها.