إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ
(52)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} إِذْ: ظرفٌ مُتَّسِعٌ للإِيتَاءِ وَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ. وَالْمَعْنَى: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} "إِذْ قَالَ" فَالْكَلَامُ مُتَّصِلٌ، وَعَلَيْهِ فَلَا وَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {عَالِمِينَ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا.
وَقِيلَ: لَقَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ مِنَ الآيةِ التي قَبْلَهَا: {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} فَيُوقَفُ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ المَعْنَى: اذْكُرْ يا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، حِينَ قَالَ إِبْراهِمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، "لِأَبِيهِ" أَيْ: "آزَرَ"، فهوَ عمُّهُ أخو أَبِيهِ، أَوْ زوجُ أُمِّهِ الذي كفلَهُ وربَّاهُ، أَمَّا أَبُوهُ فاسْمُهُ "تَارِح"، وَ "قَوْمِهِ" أَيْ: المَلِكُ "نُمْرُود" وَمَنِ اتَّبَعَهُ. سَأَلَهُمْ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ فَعْلَتَهم، فَقَالَ: "مَا هَذِهِ التَمَاثِيلُ الَّتي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ"، وذلكَ لِتَقِفَ ـ يَا رَسُولَ اللهِ، عَلَى كَمَالِ رُشْدِهِ، وَغَايَةِ فَضْلِهِ.
قولُهُ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أَيِ: قالَ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لأَبِيهِ آزَرَ وقومِهِ: مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي تُقَدِّسُونَهَا وَتقُومُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا؟. وفي سُؤلِهِ هَذا تَوْبِيخٌ لَهمْ، وإِنْكارٌ عَلَيْهِمْ.
وَالتِّمْثَالُ اسْمٌ للشَّيْءِ الْمَصْنُوعِ مُشَابِهًا لِخَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ ـ تَعَالَى، بغيَةَ تَقْديسِهِ وَعِبَادَتِهِ، مَهْمَا كانَتِ المادَّةُ المَصْنُوعُ مِنْها. وهوَ مِنْ قولِكَ: مَثَّلْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ، أَيْ شَبَّهْتُهُ بِهِ.
وَ "التَمَاثِيلُ" جَمْعُ تِمْثَالٍ، وَهُوَ مِنْ "مِثْلَ" وَهِيَ كَلِمَةُ تَسْوِيَةٍ كَمَا يُقالُ هَذَا شِبْهُهُ، وَشَبَهُهُ، وَالفَرْقُ بَيْنَ المُماثَلَةِ وَالمُساوَاةِ أَنَّ المُسَاواةَ تَكونُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الجِنْسِ مُتَّفِقَيْنِ في المِقْدَارِ لِأَنَّ التَّسَاوِي يَعْنِي التَكَافُؤَ في المِقْدارِ فَلَا يَزيدُ أَحدُهُما عنِ الآخَرِ وَلَا يَنْقُصُ، وأَمَّا المُمَاثَلَةُ فَلَا تَكُونُ إِلَّا فِي المُتَّفِقَيْنِ. فإِذَا قُيِّدَ فقِيلَ: هَذا مِثْلُ هذا في كَذَا، فَهُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِي مَا ذُكِرَ دُوَنَ غَيْرِهِ، وَإِذا قُيِّدَ فقِيلَ: هُو مِثْلُهُ دُونَ تَحْديدِ وَجْهٍ للمُماثَلَةِ، فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يشْبِهُهُ في كُلِّ شَيْءٍ، ويَسُدُّ مَسَدَّهُ مِنْ كُلِّ وجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ.
وَ "عاكفونَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعالى، عَنْهُما: العاكَفونَ: الْمُصَلُّونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الْعَاكِفُونَ الْمُجَاوِرُونَ. وَقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِيمَا أَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ: همُ العَابِدُونَ. وَقِيلَ: هُمُ الْجَالِسُونَ بِغَيْرِ طَوَافٍ، وَهي مَعانٍى مُتَقَارِبَةٌ كَمَا تَرَى. وهوَ مِنْ: "عَكَفَ"، "يَعْكِفُ" و "يَعْكُفُ"، "عَكْفًا"، و "عُكُوفًا": إذا أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُوَاظِبًا لَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْهُ، فَهُوَ "عاكِفٌ" اسْمُ "فاعِلٍ" مِنْهُ، وَاسْمُ المَفْعُولِ: "مَعْكُوفٌ". قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الآيةَ: 25. أَيْ: مَحْبُوسًا، أَوْ مَوْقوفًا. وَعَكَفَ عَلَى الأَمْرِ عُكُوفًا: إِذَا أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَوَاظَبَ عَلَى ذَلِكَ. وَعَكَفَ الحُجَّاجُ حَوْلَ البَيْتِ: اسْتَدَارُوا حَوْلَهُ. و "عَكَفَ" أَيْضًا: أَقامَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُم} الآيَةَ: 138، أَيْ: يُقِيمُونَ عَلَيْهَا يعبُدونَها، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ طَهَ: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} الآيَةَ: 97، أَيْ: ظَلْتَ مُقِيمًا. قالَ العَجَّاجُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ يَصِفُ حميرًا وَثَوْرًا:
مَا هَاجَ أَحْزَانًا وَشَجْوًا قَدْ شَجَا ........... بِرُبُضِ الأَرْطَى وِحِقْفٍ أَعْوَجَا
فهُنَّ يَعْكُفْنَ بِهِ إِذَا حَجَا ................. عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الْفَنْزَجَا
أَيْ: وَقَفْنَ وَثَبَتْنَ. والأَرْطَى: شَجَرٌ يَنْبُتُ في الرِّمالِ. والحِقْفُ: المُعْوَجُّ مِنَ الرَّمْلِ. وَالْفَنْزَجَا: اسْمُ رَقْصَةٍ يُؤَدِّيها الأَعَاجِمُ.
قولُهُ تَعالى: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} إذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ {آتَيْنا}، أَوْ بِـ {رُشْدَهُ}، أَوْ بِـ {عَالِمِينَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها أَوْ يتعلَّقُ بِمُضْمَرٍ، والتقديرُ: اذْكُرْ وَقْتَ قَوْلِ إبراهيمَ .. . وَجَوَّزَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ فِيهِ أَنْ يَكونَ بَدَلًا مِنِ مَوْضِعِ {قَبْلُ} أَيْ: إِنَّهُ يَحُلُّ مَحَلَّهُ فيَصِحُّ المَعْنَى، إِذْ يكونُ التَّقْديرُ: وَلَقَدْ آتَيْناهُ رُشْدَهُ إِذْ قالَ. وَهُوَ ـ بِهَذَا التَّقْديرِ بَعِيدٌ مِنَ المَعْنَى. و "قَالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا "إِبْراهِيمَ" ـ عَليْهِ السَّلامُ. و "لِأَبِيهِ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَالَ"، و "أَبِي" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لِأَنَّهُ مِنَ الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وَهُوَ مُضَافٌ، وَالْهَاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "وَقَوْمِهِ" الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "قومِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "أَبِي" مجرورٌ مِثْلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإِضافَةِ "إِذْ" إِلَيْها.
قولُهُ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي} مَا: اسْمُ اسْتِفْهَامٍ لِلاسْتِفْهَامِ التَوْبِيخِيِّ الاسْتِنْكارِيِّ، مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "هَذِهِ" الهاءُ للتَّنْبيهِ، و "ذه" اسمُ إِشارةٍ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرُ المُبْتَدأِ. و "التَّمَاثِيلُ" بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الإِشَارَةِ، أَوْ عَطْفُ بَيَانْ مِنْهُ مَرفوعٌ مِثْلُهُ. و "الَّتِي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ صِفَةً لِـ "التَّماثيلُ". وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ الاسْتِفْهامِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ القولِ لِـ "قالَ".
قوْلُهُ: {أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أَنْتُمْ: ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرفعِ بالابْتِدَاءِ. و "لَهَا" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَاكِفُونَ". قيلَ: هَذِهِ اللامُ لِلْعِلَّةِ، أَيْ: عَاكِفُونَ لِأَجْلِهَا. وَقِيلَ: هيَ بِمَعْنَى "عَلَى" أَيْ: عَاكِفُونَ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: ضَمَّنَ "عَاكِفُونُ" أَيْ: عابِدونَ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في مَبْحَثِ التَّفْسيرِ، وَلِذَلِكَ أُتِيَ بِاللَامِ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وقيلَ: أَفَادَتْ مَعْنَى الاخْتِصَاصِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمْ يَنْوِ للِعَاكِفِينَ مَحْذوفًا، وأَجْراهُ مُجْرَى مَا لَا يَتَعدَّى كَقَوْلِهِ: فَاعِلُونَ العُكوف. وَقالَ السَّمينُ الحَلبيُّ: الأَوْلَى أَنْ تَكونَ للتَّعْليلِ، وِصِلَةُ "عاكفونَ" مَحْذوفَةٌ، أَيْ: عَاكَفُونَ عَلَيْهَا لِأَجْلِهَا لَا لِشَيْءٍ آخَرَ. وَ "عَاكِفُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، وعَلَامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لِأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الَّتي" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.