قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ
(14)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} لَمَّا أَحَسَّ المُكَذِّبونَ بَأْسَ اللهِ وَعَذَابَهُ حَاوَلُوا الهَرَبَ مِنَ العَذَابِ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا، فَلَمَّا وَجَدُوا أَنْفُسَهُمْ في مَوْقِفٍ لَا مَفَرَّ لَهْمْ منهُ، تَحَسَّرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وما كانَ مِنْهم مِنْ إِجْرامٍ ورَاحُوا يدعونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالهلاكِ، وَيُقَرِّعُونَها، وَيُبِّخُونها، ويَلُمُونَها عَلى مَا أَوَقَعَهُمْ بِهِ عِنَادُهَا وَصَلَفُها وَشَهَواتُها، مُنَادِينَ عَلَيْها بالوَيْلِ والثُّبورِ، وسُوءِ العِقابِ، وأَشَدِّ العذابِ.
والوَيْلُ كلمةُ نُدْبةٍ وبؤْسٍ، وشَقاءٍ وَعَذابٍ، مِثْلُ: "وَيْحَ"، يُقَالُ: وَيْلَهُ، وَوَيْلَكَ، ووَيْلِي ووَيْلاهُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الأَعْشَى في مُعَلَّقَتِهِ الَّتي مَطْلِعُها قولُهُ:
وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ............. وهلْ تُطيقُ وَداعًا أَيُّها الرَّجُلُ
إِلى أَنْ يَقُولَ:
قَالتْ هُرَيْرَةُ لَمَّا جِئْتُ زَائِرَهَا .......... وَيْلِي عَلَيْكَ وَوَيْلي مِنْكَ يَا رَجُلُ
وَ "الوَيْلُ": هُوَ الهلاكُ والقُبْحُ وَحُلولُ الشَّرِّ، وَ "الْوَيْلَةُ": البَلِيَّةُ وَالفَضِيحِةُ، وَ "وَاوَيْلَتَاهُ": وافَضِيحَتاهُ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} الآيَةَ: 49، قالَ المُفَسِّرُونَ: أَيْ قَالُوا: وَافَضِيحَتَنا، وَقالَ مَالِكُ بْنُ جَعْدَةَ التَّغْلِبِيُّ:
لِأُمِّكَ وَيْلَةٌ وَعَلَيْكَ أُخْرَى ....................... فَلَا شَاةٌ تُنِيلُ وَلَا بَعِيرُ
وَيُقَالُ: "وَيْلٌ لَهُ" عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ، كَما يُقَالُ: "وَيْلًا لَهُ"بالنَّصْبِ عَلَى المَصْدَرِ، وَلَا فِعْلَ لهَذِهِ الكَلِمَةِ.
قَوْلُهُ: {إِنَّا كُنَّا ظالِمِيْنَ} اعْتِرافٌ مِنْهُمْ بالذَّنْبِ، وَإِقْرارٌ ِبأَنَّهُمْ كانُوا ظالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ، فقدْ ظَلَمُوهَا بِأَنْ أَوْردوها مَوَارِدَ الهَلَاكِ لَمَّا كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وعَصَوهُ وَأَشْرَكُوا بِهِ، وكَذَّبوا نَبِيَّهُمْ وناصَبُوهُ العِدَاءَ، وآذَوا المُؤْمِنِينَ، وأَكَلُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بالباطِلِ، وَأَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ، مُؤَكِّدينَ ذَلِكَ بِـ "إِنَّ"، وَ بِـ "كُنَّا" لِأَّنَّ هَذَا الفِعْلَ يَدُلُّ عَلى الاسْتِمْرَارِ، وقدْ جاءَ اليَوْمُ الذي عليهِمْ أَنْ يَدْفَعُوا ثمَنَ ذلكَ كُلِّهِ. وقدْ كانَ لهذا الإقرارِ بالذَّنْبِ وقتُهُ، لكنَّ هذا الوقتَ فاتَ. فحسْبُهُمْ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصيرُ.
قالوا ذَلِكَ لَمَّا قَالَتْ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: {لَا تَرْكُضُوا} وَنَادَتْ يَا لِثَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ! وَلَمْ يَرَوْا شَخْصًا يُكَلِّمُهُمْ، عَرَفُوا أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ بِقَتْلِهِمُ النَّبِيَّ الَّذِي بُعِثَ فِيهِمْ، فقدْ ذَكَرَ القُرطُبيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَهلِ التَّفْسيرِ وَالْأَخْبَارِ: أَنَّ المُرَادَ بهَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ أَهلُ حَضُوراءَ الذينَ سَبَقَ أَنْ أَشَرنا إلى قِصَّتِهِمْ، وَأَنَّ نَبِيًّا اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مَهْدَمٍ، بُعِثَ إِلَيْهِمْ، وَلَيْسَ بِشُعَيْبٍ صَاحِبِ مَدْيَنَ، وَقَبْرُ شُعَيْبٍ هَذَا بِالْيَمَنِ بِجَبَلٍ يُقَالُ لَهُ ضَنَنُ، كَثِيرُ الثَّلْجِ، لِأَنَّ قِصَّةَ حَضُورَ قَبْلَ مُدَّةِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَبَعْدَ مِئِينَ مِنَ السِّنِينَ مِنْ مُدَّةِ سُلَيْمَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنَّ أَهْلَ حَضُوراءَ قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ، وَقَتَلَ أَصْحَابُ الرَّسِّ فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ نَبِيًّا لَهُمُ اسْمُهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ، وَكَانَتْ حَضُوراءُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ، فَأَوْحَى اللهُ إِلَى "أَرِمْيا" أَنِ ايتِ "بُخْتَ نَصَّرَ" فَأَعْلِمْهُ أَنِّي قَدْ سَلَّطْتُهُ عَلَى أَرْضِ الْعَرَبِ، وَأَنِّي مُنْتَقِمٌ بِكَ مِنْهُمْ، وَأَوْحَى اللهُ إِلَى أَرْمِيَا أَنِ احْمِلْ مَعْدَ بْنَ عَدْنَانَ عَلَى الْبُرَاقِ إِلَى أَرْضِ الْعِرَاقِ، كَيْ لَا تُصِيبَهُ النِّقْمَةُ وَالْبَلَاءُ مَعَهُمْ، فَإِنِّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ صُلْبِهِ نَبِيًّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ اسْمُهُ "مُحَمَّدٌ" ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَحَمَلَ "مَعْدَ" وَهُوَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَكَانَ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ كَبِرَ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً اسْمُهَا "مُعَانَةَ"، ثُمَّ إِنَّ "بُخْتَ نَصَّرَ" نَهَضَ بِالْجُيُوشِ، وَكَمَنَ لِلْعَرَبِ فِي مَكَانٍ ـ وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ الْمَكَامِنَ فِيمَا ذَكَرُوا، ثُمَّ شَنَّ الْغَارَاتِ عَلَى حَضُورَاءَ فَقَتَلَ وَسَبَى وَخَرَّبَ الْعَامِرَ، وَلَمْ يَتْرُكْ بِحَضُورَاءَ أَثَرًا، ثُمَّ انْصَرَفَ راجعًا إِلَى السَّوادِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {قَالُوا} فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلفُ للتَّفْريقِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قَوْلُهُ: {يَا وَيْلَنَا} يا: حَرْفٌ لنِدَاءِ البَعيدِ. و "وَيْلَنَا" منصوبٌ على النِّداءِ مُضافٌ، و "نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قالوا".
قَوْلُهُ: {إِنَّا كُنَّا ظالِمِيْنَ} إنَّا: هِيَ "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكيدِ، و "نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "كُنَا" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" الدَّالَّةُ عَلى جَمَاعَةِ المُتَكَلِّمِينَ، وقدْ حُذِفَتْ أَلِفُ "كان" لالتقاءِ سَاكِنَيْنِ، وَ "نَا" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ". وَ "ظالمينَ" خبرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ اليَاءُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجَمْلَةُ خَبَرُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" في محلِّ النَّصْبِ بـ "قالوا".