بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ
(40)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} قال ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: فَجْأَةً. "تَنْويرُ المِقْبَاسِ مِنْ تفسيرِ ابْنِ عبّاسٍ": (ص: 202). أَيْ: تباغتُهُمُ القِيَامَةُ، أَوِ العُقُوبَةُ، أَوِ النَّارُ فَتُصِيبُهُمُ الحيرَةُ، وإذا أتت العقوبة فجأةً كانَتْ أَنْكَى وَأَشَدَّ، وسُنَّةُ اللهِ ـ تَعَالَى فِي الانْتِقامِ أَنْ يُبَاغِتَ المُجْرِمَ حالَ انْغِمَاسِهِ فِي النِّعْمَةِ والمِنَّةِ.
وَالبَغْتُ، وَالبَغْتَةُ: الفَجْأَةُ، قالَ تعالى في كِتابهِ العَزيزِ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون} الآيةَ: 44، مِنْ سورةِ: الأَنْعَامِ، وقالَ مِنْ سُورةِ الأَعْرَافِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون} الآيةَ: 95، وقالَ مِنْ سورةِ يوسُفَ: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُون} الآيةَ: 107، أَي: فجأَةً، وَقَالَ يَزيدُ بْنُ ضَبَّةَ الثَّقَفِيُّ:
ولكنَّهم ماتُوا ولم أَدْرِ بَغْتَةً ........... وأَفْظَعُ شيءٍ حينَ يَفْجَؤُكَ البَغْتُ
وقد بَغَتَه الأَمرُ يَبْغَتُه بَغْتاً فَجِئَه، وباغَتَهُ مُباغَتةً، وَبِغَاتًا: فاجَأَهُ فجأَةً. وقوله عز وجل فأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أَي فَجْأَة والمُباغَتةُ المُفاجأَة، وبَغَتَاتُ العَدُوِّ: فَجَآتُهُ.
و "فَتَبْهَتُهُمْ" فَتُدْهِشُهُمْ، وتُحَيُّرهم، وَبَهِتَ الرَّجُلُ ـ بكسْرِ الهاءِ، وَبَهُتَ ـ بضَمِّها، فهوَ مَبْهوتٌ: إِذَا دَهِشَ وَتَحيَّرَ، وَالأَفْصَحُ أَنْ يقالَ: "بُهِتَ"، لِقَولِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورةِ البقرةِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} الآية: 258. أَي: فأُلْجِمَ ودهشَ وتحيَّرَ ولمْ يَجْدْ جوابًا.
قولُهُ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنَ الخَلَاصِ مِنْها أَوِ الإفلاتِ بِوِسَاطَةٍ أَوْ حِيلَةٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ يَعودُ عَلى النَّاسِ.
قولُهُ: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} وَلَا هُمْ يُؤَخَّرونَ، أَوْ يُمْهَلونَ، لِيَسْتَريحُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ، أَوْ يُعْطونَ فُرصَةً أُخْرَى ليَسْتَدْركوا مَا فَاتَ، وَفِيهِ تَذْكِيرٌ بِإِمْهَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ الحَيَاةَ الدُّنْيا هِيَ الفُرْصَةُ الأُولَى والأَخِيرَةِ للمَرْءِ ليُؤمِنَ ويجِدَّ ويجْتهِدَ وَيَعْمَلَ في مَرْضاةِ رَبِّهِ ـ تَباركَ وتعالى، ويَتَزَوَّدَ مِنها لِحَيَاتِهِ الأُخْرَى.
والإنظارُ: التأْخيرُ والإمهالُ، وهو مُشْتقٌّ مِنْ "نَظَرَ" مِنْ باب "نَصَرَ". والنَّظِرَة كَفَرِحَةٍ: التَّأْخِيرُ كما في قولِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 280، مِنْ سُورَةِ البَقَرةِ في صَبَرِ الدائنِ عَلى المَدينِ وتأخيرِ موْعِدِ السَّدادِ: {وإِنْ كانَ ذو عُسْرةٍ فنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة}. يُقَالُ: أَنْظَرَ فلانٌ فلانًا: إِذا أَخَّرَهُ وأَمْهَلَهُ، وقد طلبَ إبليسُ مِنَ اللهِ ـ تعالى ذَلِكَ فقالَ: {قالَ رَبِّ فَأَنْظِرني إِلَى يَوْمِ يُبعَثون} الآيةَ: 36، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ، أَيْ: أَخِّرْنِي، فقالَ اللهُ تَعَالَى: {فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظرْينَ} الآية: 37، مِنْ نفسِ السُّورَةِ، أَيْ المُؤَخَّرينَ. وَفِي صحيحِ البُخَارِيِّ وغيرِهِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ اليمانِ، وأبي مَسْعودٍ البَدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَا: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((مَاتَ رَجُلٌ، فَقِيلَ لَهُ، قَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَوَّزُ عَنْ الْمُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنْ الْمُعْسِرِ، فَغُفِرَ لَهُ)). أَيْ: أُمْهِلُهُ. مُسْنَدُ أَحْمَد: (4/118، رقم: 17105)، وصحيحُ البُخَاريِّ: (3/1272، رقم: 3266)، وصحيحُ مُسْلِمٍ: (3/1195، رقم: 1560)، وسُنَنُ ابْنِ مَاجَهْ: (2/808، رقم: 2420). وَالمُنَاظِرُ: المِثْلُ وَالشَّبيهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
قولُهُ تَعالَى: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} بَلْ: حَرْفُ إِضْرَابٍ وَانْتِقَالٍ وَابْتِدَاءٍ، وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اسْتِدْراكٌ مُقَدَّرٌ قَبْلَهُ نَفْيٌ، تَقْديرُهُ: إِنَّ الآياتِ لَا تَأْتي عَلَى حَسَبِ اقْتِرَاحِهِمْ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْديرُ: لَا تَأْتيهِمُ الآياتُ عَلَى حَسَبِ اقْتِراحِهِمْ، بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً، فَيَكونُ الظَّاهِرُ أَنَّ الآياتِ تَأْتي بِغْتَةً، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُرادًا قَطْعًا. وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكونَ التَّقْديرُ: بَلْ تَأْتِيهِمُ السَّاعَةُ أَوِ النَّارُ فَلَيْسَ مُطابِقًا لِقَاعِدَةِ الإِضْرَابِ. وَ "تَأْتِيهِمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازم، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لثِقَلِها عَلى الياءِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جَوَازًا، تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلَى النَّارِ، وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى الحِينِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى السَّاعَةِ. وَقِيلَ: يَعُودُ عَلَى السَّاعَةِ الَّتي يُصَيِّرُهُمْ فِيهَا إِلَى العَذَابِ. وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَعُودُ عَلَى الوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى النَّارِ الَّتي وُعِدُوهَا، وَفِيهِ تَكَلُّفٌ واضِحٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبَ عَلَى المَفْعُوليَّةِ، وَالميمُ: عَلَامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. و "بَغْتَةً" مَنْصُوبٌ عَلى الحالِ مِنْ فَاعِلِ "تَأْتيهِمْ" وَلَكِنْ بِتَأْويلِهِ بِمُشْتَقٍّ، والتقديرُ: حَالَةَ كَوْنِهَا بَاغِتَةً فاجِئَةً، أَوْ هوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ؛ لِأَنَّ البَغْتَةَ نَوْعٌ مِنَ الإِتِيَانِ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَيسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {فَتَبْهَتُهُمْ} الفَاءُ: هي حَرْفٌ للعَطْفٍ، وَ "تَبْهَتُهم" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا، تَقْديرُهُ (هِيَ) يَعُودُ عَلَى النَّارِ، أَوْ عَلَى مَا عَادَ ضَمِيرُ الفاعِلِ قَبْلَهُ ـ كما تقدَّمَ بيانُهُ، وَالهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والميمُ: لتَذْكيرِ الجَمْعِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "تَأْتيهم" على كونِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} فَلَا: الفاءُ: حَرْفٌ للعَطْفِ كَالَّتي قبلَها. وَ "لا" نَافِيَةٌ. وَ "يَسْتَطِيعُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "رَدَّها" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وَ "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطوفةٌ عَلَى جملةِ "فتبهَتُهم" الَّتي قبلَها عَلَى كَوْنِها مَعْطوفَةً أَيْضًا على جملةِ "تأْتيهم" المُسْتَأْنَفةِ فلا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "لا" نافِيَةٌ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، وَ "يُنْظَرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَبنيٌّ للمَجْهولِ، مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ نائبًا عَنْ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَسْتَطِيعُونَ" على كونِها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {بَلْ تأتيهِمْ} وَقَدْ تَقدَّمَ بيانُ عَودِ الضَّميرِ في مَبْحَثِ الإعراب. وَقَرَأَ الأَعْمَشُ: "بَلْ يَأْتيهم" بِيَاءِ الغَيْبَةِ، وَكَذَلِكَ "فيَبْهَتُهُمْ" قَرَأَهُ بالياءِ أَيْضًا. فَأَمَّا قِرَاءَةُ الجُمْهُورِ بالتَّاءُ فَقَدْ تَقَدَّمَ توْجيهُها، وأَمَّا قراءةُ الأَعمشِ بِالياءُ فَإِنَّهُ لُغَةٌ فِيها، وَقِيلَ: إِنَّهُ يَجُوزُ فِي كُلِّ مَا عَيْنُهُ حَرْفُ حَلْقٍ. وَلَقَدْ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلى الحِينِ أَوْ عَلَى الوَعْدِ. وَقَالَ بَعْضُهم: هُوَ عائدٌ عَلَى النَّارِ، وَإِنَّما ذَكَّرَ ضَمِيرَهَا لِأَنَّهَا في مَعْنَى العَذَابِ، ثُمَّ رَاعَى لَفْظَ النَّارِ فَأَنَّثَ الضَّميرَ في قَوْلِهِ: "رَدَّها".