الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ
(49)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} وَقَالَ فِي الآيَةِ: 18، مِنْ سُورَةِ فاطِر: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْب}، وَقَالَ مِنْ سُورةِ يَس: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} الآيةَ: 11، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ (ق): {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} الآيَةَ: 33، وكلُّ هَذا تَعْريفٌ بِأُولائِكَ المُتَّقُينَ المَذْكُورينَ فِي الآيَةِ الَّتي قَبْلَها، ووَصْفٌ لهم بِأَنَّهُمُ الذِينَ يِتَّعِظُونَ بِمَا في كُتُبِ اللهِ تَعَالَى الَّتي أَنْزَلَها عَلَى رُسُلِهِ المُكَرَّمينَ، وَمَا ذَكَّرَهُمْ بهِ المُرسَلونَ، مِنْ وُجوبِ الإيمانِ باللهِ ـ تَعَالى، الواحِدِ الأَحَدِ، الفَرْدِ الصَّمَدِ، وَوُجوبِ طاعَتِهِ في كُلِّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِمَّا فيهِ صَلاحُ أَمْرِهِم، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ ممَّا يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ أُمُورَ حَيَاتِهِم، وَوُجوبِ اتِّقاءِ غَضَبِهِ وتجَنُّبِ سَخَطِهِ.
قولُهُ: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} ذِكْرُ الاشْفَاقِ مِنَ السَّاعَةِ بَعْدَ الخَشْيَةِ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، هُوَ مِنْ ذِكْرِ الخَاصِّ بَعْدَ العَامِّ، لِكَوْنِهَا أَعْظَمَ المَخْلوقاتِ، وَلِلتَّنْصيصِ عَلَى اتِّصَافِهِمْ بِضِدِّ مَا اتَّصَفَ بِهِ المُسْتَعْجِلُونَ، وَقد جِيءِ بهذِهِ الجُمْلَةِ اسْمِيَّةً، للدَّلَالَةِ عَلى ثَبَاتِ الإِشْفَاقِ وَدَوَامِهِ.
والـ "مُشْفِقُونَ" هُمُ الذينَ تَسْتَشْعِرُ قُلُوبُهُم خَشْيَةَ اللهِ دونَ أَنْ يرَوْنَهُ، فَهُمْ مُغَيَّبُونَ عَنْ رُؤْيَتِهِ، ومعَ أَنَّهُمْ لَمْ يَرُوْهُ، فَهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ ويخشَوْنَهَ، وَيَخَافُونَ قِيامَ السَّاعَةِ، وَيَحذرونَ عَذَابَهُ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَتَراهمْ مُخْبتينَ لَهُ، مُسْتَسْلِمِينَ لِقَضائهِ وَقَدَرِهِ، يَعْمَلُونَ بِطَاعَتِهِ وَيَتَجَنَّبُونَ مَعْصِيَتَهُ اسْتِعْدادًا لِذَلِكَ اليَوْمِ الذي يُحْشَرُونَ فيهِ إِلَيْهِ، وَيَقِفُونَ بيْنَ يدَيْهِ، مُنَتَظِرينَ صَفْحَهُ عَنْهُمْ، آمِلِينَ بِعَفْوِهِ وَكَرِمِهِ.
وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سورةِ (ق): {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} الآيةَ: 33، وكَقَوْلِهِ في الآيةَ: 12، مِنْ سُورَةِ المُلْكِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.
وَالْإِشْفَاقُ: مِنَ الشَّفَقِ: وهُوَ الخَوْفُ، يقالُ شَفِقَ شَفَقًا: إِذَا خَافَ، ومنْهُ قوْلُ الشَّاعِرِ:
فإنِّي ذُو مُحافَظَةٍ لِقَوْمِي ................. إِذَا شَفِقَتْ عَلَى الرِّزْقٍ العِيَالُ
وَالشَّفَقَةُ: الرَّحْمَةُ وَالرِّقَّةُ والخوفُ معًا، وَالاسْمُ مِنَ الإِشْفَاقِ،
كَرَحْمَتِكَ لِوَلَدِكَ، وَحِرْصُكَ عَلَيْهِ، وَحَذَرِكَ مِنْ مَكْرُوهٍ قَدْ يُصيبُهُ. ومنهُ قوْلُ الشَّاعِرِ ابْنِ المُعَلَّى مُعْرِبًا عنْ شَفَقَتِهِ عَلى ابْنَتِهِ:
تَهْوَى حَياتِي وَأَهْوَى مَوْتَها شَفَقًا ........ والمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الحُرَمِ
وقيلَ هو لإِسْحَاقَ بْنِ خَلَفٍ، وَهوَ شَاعِرٌ إِسْلَامِيٌّ قَدِيمٌ، والبيتُ واحدٌ مِنْ أَبياتٍ لَهُ يُعَبِّرُ فيها عَنْ خشيتِهِ مِنَ أَنْ يَمُوتَ تاركًا ابْنَتَهُ خلْفَهُ لِظُلْمِ الفَقْرِ أَوْ جفوةِ أَخٍ أَوْ غِلْظَةِ عَمٍّ، يَقولُ:
إِذَا تَذَكَّرْتُ بِنْتِي حِينَ تَنْدُبُنِي ............ فَاضَتْ لِعَبْرَةِ بِنْتِي عَبْرَتِي بِدَمِ
أُحَاذِرُ الْفَقْرَ يَوْمًا أَنْ يُلِمَّ بِهَا ....... فَيُهْتَكُ السِّتْرُ عَنْ لَحْمٍ عَلَى وَضَمِ
تَهْوَى حَيَاتِي وَأَهْوَى مَوْتَهَا شَفَقًا ....... وَالْمَوْتُ أَكْرَمُ نَزَّالٍ عَلَى الْحُرَمِ
أَخْشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ أَوْ جَفَاءَ أَخٍ ..... وَكُنْتُ أَخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أَذَى الْكَلِمِ
ورَجُلٌ "شَفِقٌ" كَ "كَتِفٍ": خائِفٌ، والجَمْعُ شَفِقُونَ. وَالشَّفَقُ: النَّاحِيَةُ يُجْمَعُ عَلَى أَشْفاقٍ، والشَّفَقُ والشَّفَقَّةُ حِرْصُ النَّاصِحِ عَلَى صَلاحِ المَنْصُوحِ، وهوَ مُشْفِقٌ وَشَفِيقٌ قالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَورٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
حَمَى ظِلَّهَا شَكْسُ الخَلِيفَةِ خائِفٌ .......... عَلَيْها عُرَامَ الطَّائِفِين شَفِيقُ
وَ "شَفَقَ" وَ "أَشْفَقَ" حاذَرَ، والإِشفاقُ: عِنايَةٌ مخْتَلِطَةٌ بخَوْفٍ لأَنَّ المُشْفِقَ يُحبُّ المُشْفَقَ عَلَيْهِ وَيَخافُ مَا يَلْحَقُهُ قالَ اللهُ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 28، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وقالَ هُنَا فِي هَذِهِ الآيةِ: "وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ"، وقالَ مِنْ سُورَةِ المُؤْمِنُونَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُون} الآيَةَ: 57، وقالَ مِنْ سُورَةِ الشُّورى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} الآيةَ: 18، وَقالَ تَعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} الآيةَ: 27، مِنْ سُورةِ المَعَارِجِ. فإِذا عُدِّيَ فعلُ الإشفاقِ بحرْفِ الجَرِّ "مِنْ" كانَ مَعْنَى الخَوْفِ فِيهِ أَظْهَرُ، وإِذَا عُدِّيَ بـ "عَلَى" كانَ مَعنَى العِنايَةِ فيهِ أَظْهَرَ، يقولُ الشَّاعرُ الجاهِليُّ تَأَبَّطَ شَرًّا:
وَلَا أَقُولُ إِذَا مَا خُلَّة صَرمَتْ .......... يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ شَوْقٍ وإِشْفَاقِ
والإِشْفَاقُ ـ أَيْضًا، وَالتَّشْفِيقُ: التَّقْلِيلُ، وَعَطاءٌ مُشْفَقٌ، وَمُشَفَّقٌ: أَيْ مُقَلَّلٌ، وَمِنَ المَجَازِ قَوْلُ الكُمَيْتِ الأَسَديِّ:
مَلِكٌ أَغَرُّ مِنَ المُلُوكِ تَحَلَّبَتْ ............... للسَّائِلِينَ يَداهُ غَيْرُ مُشَفِّقِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِـ {الْمُتَّقِينَ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا، أَوْ بَدَلًا مِنْهَا، أَوْ بَيَانًا لَهَا. وَيجوزُ أَنْ يُعْرَبَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، تقديرُهُ: هُمُ الَّذينَ. وَيجوزُ أَنْ يُعرَبَ في محلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنَ الفَاعِلِ، والتقديرُ: يَخْشَوْنَهُ غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ وهوَ ما رَجَّحَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَ "يَخْشَوْنَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. وَ "رَبَّهُمْ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ وَهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، وَالميمُ علامةُ الجمعِ المُذَكَّرِ. و "بِالْغَيْبِ" البَاءُ: حَرْفُ جَرٍّ بِمَعْنَى "في" مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ فَاعِلِ "يَخْشَوْنَ"؛ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ غَائِبِينَ وَمُنْفَرِدينَ عَنِ النَّاسِ، أَوْ يتعلَّقُ بِحَالٍ مِنَ مَفْعُولِهِ. وَ "الغَيْبِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مُشْفِقونَ"، وَ " السَّاعَةِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "مُشْفِقُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفوعٌ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ السَّابقةِ عَلَى كَوْنِها صِلَةً للاسْمِ الموصولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ "يَخْشَوْنَ".