وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ
(11)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعالى في الآيةِ: 6، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الكَريمةِ: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها}، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ في الآيةِ: 9، السَّابقةِ منها: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ}.
وَ "كَمْ" تَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْعَدَدِ، ولِذَلكَ فإنَّ فِيها إِيمَاءً إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَثْرَةَ تَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَخَلُّفِ إِهْلَاكِ هَذِهِ الْقُرَى، بلْ إِنَّهُ أَمْرٌ مُحقَّقٌ لا شكَّ فيهِ وَلا رَيْبَ.
وَفي الآيةِ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ مُشْركي مَكَّةَ بالقَصْمِ، بعدَ أَنْ ذَكَرَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، في الآيةِ الَّتي قَبْلَها أَنَّهُ صدَقَ أَنْبياءَهُ وَعْدَهُ بنصْرِهِم وإهلاكِ مُناوِئيهِم وَأَعْدائهِمْ.
وَالقَصْمُ لُغَةً: يَعْنِي الكَسْرَ وَالدَّقَّ، يُقالُ: قَصَمْتُهُ فَانْقَصَمَ. وقالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى قَصَمْنَا: أَهْلَكْنَا، وَأَذْهَبْنَا، يُقالُ: قَصَمَ اللهُ عُمْرَ الكافِرِ، أَيْ: أَذْهَبَهُ. "مَعَاني القُرْآنِ وَإِعْرَابُهُ" لَهُ: (3/386). وَقالَ الجَوهريُّ في (الصِّحاح) تَقُولُ: قَصَمْتُ الشَّيْءَ قَصْمًا، إِذَا كَسَرْتَهُ حَتَّى يَبينَ. وَ: قَصَمَهُ فانْقَصَمَ وتَقَصَّمَ. قالَ الشَّاعِرُ كَعْبُ بْنُ زُهيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
كَأَن لَّمْ يُلاقِ المَرْءُ عَيْشًا بِنِعْمَةٍ ......... إِذَا نَزَلَتْ بِالْمَرْءِ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ
يَعْني الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ "قاصِمَةُ الظَّهْرِ": الدَّاهِيَةَ الدَّهياءَ الشَّديدَةَ، الَّتي تَكْسُرُ عِظامَ صُّلْبِ الرَّجُلِ.
وَ المُرادُ بـ "مِنْ قَرْيَةٍ" مَدَائِنُ كَانَتْ بِالْيَمَنِ: حَضُوراءُ، وَبَيْتُ شِبَام، مَدائِنُ كَثَيرَةٌ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ أَيضًا عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: بَعَثُ اللهُ نَبِيًّا مِنْ حِمْيَرَ يُقَالُ لَهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مَهْدَمٍ فِي زَمَنِ أَرْمِيَاءَ نَبِيِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ عَبْدٌ بِعَصَا فقتلَهُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ، فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَفِيهِمْ أَنْزَلَ اللهُ: "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً" إِلَى قَوْلِهِ: {خَامِدينَ}.
وَقَدْ أَطْلَقَ الْقَرْيَةَ وأَرادَ أَهْلَهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ" قَالَ: هِيَ حُصُونُ بَنِي أَزْدٍ.
وَقَالَ الوَاحِدِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "قَصَمْنا": عَذَّبْنا. انْظُرْ: (التَفْسيرُ البَسيطُ) لَهُ: (15/27).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ" قَالَ: أَهْلَكْنَاهَا.
وَقَالَهُ السُّدِّيُّ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ. انْظُرْ: (التَفْسيرُ البَسيطُ) للواحِدِيِّ: (15/26).
قولُهُ: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} هوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ إبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} الآيَةَ: 19. أَيْ أَنَّ اللهَ يُنْشِئُ بَعْدَهُمْ أُمَّةً مُؤْمِنَةً.
قولُهُ تَعَالَى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} وَكَمْ: الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. وَ "كَمْ" اسْمٌ، لَهُ حَقُّ الصَّدارَةِ في الْكَلَامِ، لِأَنَّ أَصْلَهُ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنِ الْعَدَدِ، وَقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُهُ في الْإِخْبَارِ عَنْ كَثْرَةِ الشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ أَنْ يُسْتَفْهَمَ عَنْهُ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصَمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فَـ "كَمْ" هُنَا خَبَرِيَّةٌ. وَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ قَصَمْنا. وَ "قَصَمْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍ مُتَعلِّقٌ بِتَمْييزٍ لِـ "كَمْ"، و "قَرْيَةٍ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {كَانَتْ ظَالِمَةً} كَانَتْ: فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ للتَأْنيثِ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلَى "قَرْيَةٍ". وَ "ظَالِمَةً" خبرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وَالجُمْلَةُ صِفَةٌ لِـ "قَرْيَةٍ" في محلِّ الجَرِّ، وَلا بُدَّ مِنْ مُضَافٍ مَحْذوفٍ قَبْلَ "قريةٍ" أَيْ: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ بِدَلِيلِ عَوْدِ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ في الآيةِ التي تَلِيهَا: {فَلَمَّا أَحَسُّوا}، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى قَوْلِهِ "قومًا"؛ لِأَنَّهُ لِمْ يَذْكُرْ لَهُمْ مَا يَقْتَضِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} الوَاوُ للعَطْفِ، و "أَنْشَأْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "بَعْدَهَا" بعدَ مَنْصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْشَأْنَا"، وَهُوَ مُضافٌ، و "هَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَ "قَوْمًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَ "آخَرِينَ" صِفَةٌ "قَوْمًا" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ َجَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "قَصَمْنَا" على كونِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.