اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
(1)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أُسْلُوبٌ غَريبٌ بَدِيعٌ افْتُتِحَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورةُ المُباركةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ فيهِ إِدْخَالٌ للخَوْفِ عَلى نُفُوسِ الْمُنْذَرِينَ، وَإِلْقَاءٌ للرَّوْعِ في قُلُوبِ المُشْرِكِينَ.
وَ "اقْتَرَبَ" مِنَ القُرْبِ بِوَزْنِ "افْتَعَلَ" يُفيدُ المُبَالَغَةَ فِي الْقُرْبِ، أَيِ اشْتَدَّ قُرْبُ وُقُوعِهِ بِهِمْ، فَصِيغَةُ الِافْتِعَالِ هَيَ لِلْمُطَاوَعَةِ، وَتُسْتَعْمَلُ فِي تَحَقُّقِ الْفِعْلِ. يقالُ: قَرُبَ وَاقْتَرَبَ، إِذَا دَنَا، والقُرْبُ ضِدُّ البُعْدِ.
وَفِي إِسْنَادِ فِعْلِ الاقتِرابِ إِلَى يومِ الْحِسَابِ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، فَقَدْ شَبَّهَ حَالَ حُلولِ يومِ حِسَابِهم بِحَالَةِ عَدُوِّ لَهُمْ يَسْعَى لِيَقْتَرِبَ مِنْ دِيَارِهِمْ. فهوَ كالْمُغِيرِ الْمُعَجِّلِ فِي الْإِغَارَةِ عَلَى الْقَوْمِ، فَتَرَاهُ يَجُدُّ فِي السَّيْرِ نَحْوَهُمْ لِبُلوغِ دِيَارِهِمْ، وَهُمْ لاهُونَ عَنْهُ غَافِلُونَ عَنْ تَطَلُّبِهِ إِيَّاهُمْ.
وَالمُرادُ بِالاقْتِرابِ ها هُنَا: هُوَ قِصَرُ المُدَّةِ بَيَنْ هَؤلاءِ النَّاسِ وَبَيْنَ يَوْمِ حِسَابِهِم. وَفِيهِ تَشْبِيهُ هَيْئَةِ يَوْمِ الْحِسَابِ المَعْنَوِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ، بِهَيْئَةٍ مادِيَّةٍ مَحْسُوسَةٍ.
وَالْمُرادُ بِـ "للنَّاسِ" ـ كَمَا رُوِيَ عَنِ الكَلْبِيِّ وَابْنِ عَبَاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، هُمْ كُفَّارُ مَكَّةَ، يَدُلُ عَلَيْهِ بعضُ مَا يَتْلُوهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ، وقولُهُ "للنَّاسِ" هوَ مِنْ إِطْلاقِ اسْمِ الجِنْسِ عَلَى بَعْضِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ النَّاسِ، وَإِنْ كانَ المُشارَ إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَيَدُلُّ عَلى ذَلِكَ مَا بَعْدَهُ مِنَ الآياتِ. تَفْسيرُ المُحَرَّرُ الوَجِيزُ لابْنِ عَطِيَّةَ: (10/122).
وَ "حِسابُهُم" أَخْذُهُمْ بذنوبِهِ، وَعِقَابُهُمْ عَلَى مَا اقْتَرَفوا مِنْ عَمَلٍ سَيِّءٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ" قَالَ: مَا يُوعَدُونَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّهْديدَ بِقُرْبِ هَلَاكِهِمْ وَهَزيمَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَمَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ قَتْلٍ وَخِزْيٍ بَيْنَ قَبائلِ العَرَبِ عَلى يَدِ فئَةٍ قَلِيلَةِ العدَدِ وَالعُدَّةِ مِنَ المُؤمنينَ، وهُمُ الذينَ يَهَابُهُمُ العَربُ كُلُّهُم، وَلهُمُ عَلَيْهِمُ الشَّوْكَةُ وَالعِزُّ والاحْتِرَامُ، لأَنَّهُمْ سَدَنَةُ بَيْتِ اللهِ الحَرامِ المُعظَّمِ عندَهُمْ وَحُمَاتُهُ، وَعِنَدَهُمُ السُّوقُ الأَكْبَرُ والأَهَمُّ عندَ العرَبِ في الجاهِلِيَّةِ، وهُوَ سُوقُ عُكاظٍ الذي يَجْتَمِعُ فِيهِ العَرَبُ جَمِيعًا مِنْ كُلَّ أَصْقَاعِهِم، فَيَتَبَادَلونَ البَضَائِعَ وَالمَنَافِعَ، وَيَتَنَاشَدونَ الأَشْعَارَ، ويَخْتَارُونَ أَحْسَنَها، لِيُعَلِّقونَ خُلاصَةَ مَا أَنْجَبَتْهُ قَرَائِحُهُم على ِدارِ الكَعْبةِ المُشَرَّفةِ، تباهيًا بهِ وتخليدًا لهُ ولقائلِهِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ هَزيمَةَ جَيْشِهِم الجَرَّارِ وفيهِ صَنَاديدُهُم أَمامَ عُصْبَةٍ قليلةٍ فِيها مَنْ كانَ مِنْ عَبِيدِهِم وَمَوَالِيْهِم كانتْ حِسابًا شَديدًا لَهُمْ عَلَى مَا اقْتَرَفَتْهُ أَيديهِمْ، وَخِزْيٌ مَا بَعْدَهُ خِزْيٌ. هَذَا إِذَا أَخَذْنَا بِالْتَأْويلِ الأَوَّلِ للمُرادِ بِـ "للنَّاسِ" المَرْوِيِّ عَنِ الكَلْبيِّ وابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، كما تقدَّمَ آنِفًا، وَهوَ أَنَّ المُرادَ بِـ "للنَّاسِ" كُفَّارُ مَكَّةَ ومُشْرِكو قُرَيْشٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المُرادَ بِـ "حِسَابُهُم" اقْتِرابُ مَوْتِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا مَاتُوا فَإِنَّهُمْ سَيَرَوْنَ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمُ القَبِيحَةِ فِي قُبُورِهِم، لقولِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيما أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ((خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، عَلَيْهِ السَّلاَمُ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ، قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا، لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلاَ يَمُرُّونَ ـ يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولاَنَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلاَمُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي. قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلاَئِكَةٌ، سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ، قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلاَ يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلاَ يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} الآيةَ: 40، مِنْ سُورَةِ الأعْرافِ. فَيَقُولُ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} الآيةَ: 31، مِنْ سُورةِ الحجِّ، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لاَ أَدْرِي، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لاَ أَدْرِي، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لاَ أَدْرِي، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاَعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في: (4/287، رقم: 18733) مِنْ مُسْنَدِهِ، وَأَبو دَاودَ: (3212). وابْنُ مَاجَةَ: (1548). وعَبْدُ اللهِ ابْنُ أَحْمَدَ في زوائدِ مُسْنَدِ أَبيهِ: (4/296، رقم: 18816). والنَّسَائيُّ في السُّنَنِ الكُبْرَى: (2139). والأحاديثُ التي ذكَرتْ ما ينتَظِرُ المُشْركينَ في القَبْرِ كثيرَةٌ، وَذَلِكَ مِنَ الْحِسَابِ.
وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكونَ الْمُرَادَ بِـ "حِسَابُهُم" الْمُؤَاخَذَةُ بِالذَّنْبِ والعقابُ عَلَيْهِ يَوْمَ القيامةِ، والآياتُ والأحاديثُ الدَّلَّةُ على ذلكَ أكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَعَلَيْهِ فَالِاقْتِرَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ أَيْضًا فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لِلنَّاسِ" إِنْ أُبْقِيَتْ عَلَى مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ مِنَ الِاخْتِصَاصِ، فَذِكْرُهَا تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى اللَّامِ الْمُقَدَّرَةِ فِي الْإِضَافَةِ مِنْ قَوْلِهِ: "حِسابُهُمْ" لِأَنَّ التَّقْدِيرَ: حِسَابٌ لَهُمْ. وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ، فَصَارَ قَوْلُهُ "لِلنَّاسِ" مُسَاوِيًا لِلضَّمِيرِ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ "حِسَابُ" فَكَأَنَّهُ قِيلَ: اقْتَرَبَ حِسَابٌ لِلنَّاسِ لَهُمْ، فَكَانَ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا، كَمَا لوْ قُلْتَ: أَزِفَ لِلْرَّجُلِ رَحِيلُهُ، فإنَّ أَصْلَهُ: أَزِفَ الرَّحِيلُ لِلرَّجُلِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُم: لَا أَبَا لَكَ، فإنَّ أَصْلَهُ لَا أَبَاكَ، فَكَانَتْ لَامُ "لَكَ" مُؤَكِّدَةً لِمَعْنَى الْإِضَافَةِ، إِغْنَاءً لَهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّامِ. كما قَالَ أَبو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ:
أَبَا لمَوْت الَّذِي لَا بُدَّ أَنِّي ..................... مُلَاقٍ لَا أَبَاكِ تُخَوِّفِينِي
أَرَادَ: لَا أَبَا لَكِ، فَحَذَفَ اللَّامَ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} فِي: ظَرْفِيَّةِ مَجَازِيَّةِ، دَلَّتْ على شِدَّةِ تَمَكُّنِ وَصْفِ الغفلةِ مِنْهُمْ، أَيْ: وَهُمْ غَافِلُونَ أَشَدَّ الْغَفْلَةِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ مُنْغَمِسُونَ فِيهَا أَوْ مَظْرُوفُونَ فِي مُحِيطِهَا، وذَلِكَ لأَنَّ غَفْلَتَهُمْ عَنْ يَوْمِ الْحِسَابِ مُتَأَصِّلَةٌ فِيهِمْ. فَهُمْ غَافِلُونَ عَنِ اقْتِرَابِ يومِهِ منهُمْ.
وَالْغَفْلَةُ عنِ الأَمْرِ: تَعْني الذُّهُولَ عَنْهُ وَعَنْ عِلْمِهِ، والسَّهْوَ وَعَدَمُ الاهتمامِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الأَعْراف: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ} الآيةَ: 146.
وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الشَّيْءِ: صَرْفُ الْفكْرِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِهِ. كَقَوْلِهِ تعالى آمِرًا نبيَّهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ أَنْ يَقومَ بواجبِهِ في تبليغِ رِسالةِ رَبِّهِ ووعْظِ الكافرينَ بها وتَبْصِيرهم بعاقِبةِ أمْرِهِمْ وما ينتظِرُهمْ مِنْ حسابٍ وعقابٍ، ثُمَّ يَدَعُهمْ وَشَأَنَهم، وَلَا يَكْتَرِثُ بأَمْرِهِم، ولا يُكْثِرَ الاهْتِمامَ بِهِمْ فَقَالَ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} الآيَةَ: 63، مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} الآيةَ: 68.
وَإِعْرَاضُهُمْ يَعْنِي إِبَايَتَهُمُ التَّأَمُّلَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ الكَريمِ الَّتِي تُذَكِّرُهُمْ بِالْبَعْثِ للحِسابِ والعِقابِ وَتَسْتَدِلُّ لَهُمْ عَلَيْهِ، إِذًا فَمُتَعَلِّقُ الْإِعْرَاضِ غَيْرُ مُتَعَلِّقِ الْغَفْلَةِ، لِأَنَّ الْمُعْرِضَ عَنِ الشَّيْءِ لَا يُعَدُّ غَافِلًا عَنْهُ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَتْهُمْ دَعْوَةُ الرَّسُولِ الكريمِ ـ عَلَيْهِ أَفضَلُ الصَّلاةِ وأَتَمُّ التَسْليمِ، إِلَى الْإِيمَانِ باللهِ تَعَالَى، وَإِنْذَارِهِمْ بِأَهْوالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ والحِسابِ، اسْتَمَرُّوا عَلَى غَفْلَتِهِمْ عَنِ ذلِكَ اليَومِ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ دَلَائِلِ التَّذْكِيرِ بِهِ. ولذلِكَ كَانَتِ الْغَفْلَةُ عَنِ الْحِسَابِ مِنْهُمْ مُسْتقِرَّةً في نُفُوسِهِمْ بِسَبَبِ تَعْطِيلِهِمْ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَنْتَزِعَ الْغَفْلَةَ مِنْهُمْ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الدَّلَائِلِ الْمُثْبِتَةِ لِلْبَعْثِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفلَةٍ مُعْرِضُونَ" قَالَ: مِنْ أَمِرِ الدُّنْيَا.
قوْلُهُ تَعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} اقْتَرَبَ: فِعلْ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلَى الفَتْحِ. و "لِلنَّاسِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "اقْتَرَبَ"، وَلَا تَخْلُو هَذِهِ اللَّامُ مِنْ أَنْ تَكونَ صِلَةً لَهَا، أَوْ تَأْكِيدًا لِإِضَافَةِ الحِسَابِ إِلَيْهِمْ، كَقولكَ: أَزِفَ للحَيِّ رَحِيلُهُم، فَالْأَصْلُ: أَزِفَ رَحِيلُ الحَيِّ، ثُمَّ أَزِفَ للحيِّ الرَّحيلُ، ثُمَّ أَزِفَ للحيِّ رَحِيلُهُمْ. قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَنَحْوُهُ مَا أَوْرَدَهُ سِيبَوَيْهِ في بابِ "مَا يُثنى فيهِ المُسْتَقِرُّ تَوْكِيدًا. نَحْوَ: عَلَيْكَ زَيْدٌ حَريصٌ عَلَيْكَ، و "فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ"، وَمْنْهُ قَوْلُهُمْ: "لَا أَبَا لَكَ" لِأَنَّ اللَّاَمَ مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى الإِضافَةِ. وهَذَا الوَجْهُ أَغْرَبُ مِنَ الأَوَّلِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان في البحرِ المُحيط: يَعْنِي بِقَوْلِهِ صِلَةٌ لِاقْتَرَبَ، أَيْ: مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ. وَأَمَّا جَعْلُهُ اللَّامَ تَأْكِيدًا لإِضافَةِ الحِسَابِ إِلَيْهِمْ مَعَ تَقَدُّمِ اللَّامِ وَدُخُولِها عَلَى الاسْمِ الظَّاهِرِ، فَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ، وَأَيْضًا فَتَحْتَاجُ إِلَى مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ. وَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُها بـ "حِسَابُهُم"؛ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مَوْصُولٌ، لِأَنَّهُ قُدِّمَ مَعْمُولُهُ عَلَيْهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّوْكيدَ يَكونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ المُؤَكَّدِ، وَأَيْضًا فَلَو أُخِّرَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ لَمْ يَصِحَّ. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُ بِمَا أَوْرَدَ سِيبَوَيْهِ فَالْفَرْقُ وَاضِحٌ، فَإِنَّ "عَلَيْكَ" مَعْمُولٌ لـ "حَريصٌ"، وَ "عَلَيْكَ" المُتَأَخِّرَةُ تَأْكِيدٌ، وَكَذَلِكَ "فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ" يَتَعَلَّقُ "فِيكَ" بـ "رَاغِبٌ"، وَ "فِيكَ" الثَّانِيَةُ تَوْكِيدٌ. وَإِنَّما غَرَّهُ فِي ذَلِكَ صِحَّةُ تَرْكِيبِ حَسَابِ النَّاسِ، وَكَذَلِكَ "أَزِفَ رَحِيلُ الحَيِّ" فاعْتَقَدَ إِذَا تَقَدَّم الظَّاهِرُ مَجْرُورًا باللَّامِ وَأُضيفَ المَصْدَرُ لِضَمِيرِهِ أَنَّهُ مِنْ بابِ "فِيكَ زَيْدٌ رَاغِبٌ فِيكَ"، فَلَيْسَ مِثْلَهَ. وَأَمَّا "لَا أَبَا لَكَ" فَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ، وَفِيها خِلَافٌ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فَيهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّامَ فِيهَا جَاوَرَتِ الإِضافَةَ، وَلَا يُقاسُ عَلَيْها لِشُذُوذِها وَخُرُوجِهَا عِنِ الأَقْيِسَةِ. قالَ السَّمينُ الحَلَبيُّ مُوضِّحًا: مَسْأَلَةُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِمَسْأَلَةِ "لَا أَبا لَكَ"، وَالْمَعْنَى الذي أَوْرَدَهُ صَحِيحٌ. وَأَمَّا كَوْنُها مُشْكِلَةً فَهُوَ إِنَّمَا بَنَاهَا عَلى قَوْلِ الجُمْهُورِ، والمُشْكِلُ مُقَرَّرٌ في بابِهِ، فَلَا يَضُرُّنا القِيَاسُ عَلَيْهِ لِتَقْريرِهِ فِي مَكَانِهِ. وَ "النَّاسِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَ "حِسَابُهُمْ" فاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ، وهو مُضَافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: علامَةُ الجمعِ المُذَكَّرِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} الواوُ: حَالِيَّةٌ، و "هم" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِالخَبَرِ الأَوَّلِ للمُبْتَدَأِ، وَقالَ العُكْبُريُّ إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ الثاني، يَعْنِي في العَدَدِ، وَإِلَّا فَهُوَ أَوَّلٌ فِي الحَقِيقَةِ. وَقَدْ يُقالُ: لَمَّا كانَ فِي تَأْويلِ المُفْرَدِ جُعِلَ المُفْرَدُ الصَّرِيحُ مُقَدَّمًا في الرُّتْبَةِ فَهُوَ ثَانٍ بِهَذَا الاعْتِبَارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفِ حالٍ مِنَ الضَّميرِ في "مُعْرِضُون". و "غَفْلَةٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مُعْرِضُونَ" الخَبَرُ الثاني للمُبْتَدَأِ، مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ: لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحَالِ مِنَ "النَّاسِ".