قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ
(56)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَحَالَ إِبْرَاهيمُ ـ عَلَى نَبِيِّنا وَعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قومَهُ عَلَى النَّظَرِ والاسْتِدْلالِ للتَّعَرُّفِ على رَبِّهِمْ ـ سُبحانَهُ، مِنْ حَيْثُ أَدِلَّة القَوْلِ بأَنَّهُ ـ تباركَتْ أَسْماؤُهُ: "رَبُّ السماواتِ والأَرْضِ" أَي: صاحبُهُمَا الذي خلقَهُما وما فيهِما، وهمُ جميعًا تَحْتَ رِعَايَتِهِ وَسَطْوَةِ رُبُوبِيَّتِهِ، لِأَنَّ إِثْبَاتَ وُجودِ الصَّانِعِ العَظيمِ لَا يُدْرَكُ بِالمُعْجِزَاتِ والخَوَارِقِ، وَإِنَّما بالأَدِلَّةِ العقليَّةِ والحقائقِ. فالمُعْجِزَاتُ تَدُلُّ عَلى صِدْقِ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فيما يُبَلِّغُونَهَ عَنِ رَبِّهمْ، وإِنْ كانَ لَهَا دورٌ مُساعِدٌ في التَّعَرُّفِ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، لِأَنَّهُ دليلُ صِدْقِ الرَّسولِ فيما يُبَلِّغُ عَنْ ربِّهِ، ومِنْ ثمَّ فإنَّها تَفُكُّ العقلَ مِنَ إسارِ القيودِ المادِيَّةِ التي تُكَبِّلُهُ وتشدُّهُ إِلَيْها، فالمعجزةُ بما أَنَّها أمْرٌ خارقٌ للعادَةِ قُوَى العقلِ وَتَفتَحُ أَمَامَها سُبلًا في المعرفةِ غيرَ تلكَ التي اعتادتْ على سلوكِها للوصولِ إلى الحقائقِ واسْتِشْرَافِ أَسْرارِ المُغَيَّباتِ.
قولُهُ: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} صِفَةٌ للخَالِقِ الصَّانِعِ العَظِيمِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، الذي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ، تَعْنِي المُبْتَدِئَ وَالمُخْتَرِعَ. وَمَعْنَى "فَطَرَ" يَفْطُرُ فَطْرًا: اخْتَرَعَ وابتَدَأَ. قَالَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: كُنْتُ لَا أَدْرِي مَا فَاطِرُ السَّمَواتِ حَتَّى أَتَانِي أَعْرَبِيَّانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بِئْرٍ، فَقَالَ أَحَدُهُما: أَنَا فَطَرْتُها. أَيْ: أَنَا ابْتَدَأْتُهَا.
والفَطيرُ مِنَ العَجِينِ ـ وَغَيْرِهِ: خِلافُ الخَمِيرِ، أَيْ الذي لَمْ يَخْتَمِرْ. وَكُلُّ شَيْءٍ تُعُجِّلَ بِهِ ولَمِ يَتِمَّ نُضْجُهُ كَمَا هُوَ المُعْتَادُ، فَهُوَ فَطِيرٌ. لِذَلِكَ قَالُوا: إِيَّاكَ وَالرَّأْيَ الفَطِيرَ.
وفَطَرَ، وأَفْطَرَ الصَّائِمُ: تَنَاوَلَ طعامَ الفُطُورِ، أَوِ الإفطارِ. والاسْمُ مِنْهُ الفِطْرُ. وَرَجُلٌ مُفْطِرٌ غيرُ صائمٍ، وَقَوْمٌ مَفَاطِيرُ. وَرَجُلٌ فِطْرٌ، وَقَوْمٌ فِطْرٌ، أَيْ: مُفْطِرُونَ، وَهُوَ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ. والفَطُورُ: مَا يُفْطَرُ عَلَيْهِ. والفُطْرُ: ضَرْبٌ مِنَ الكَمْأَةِ أَبْيَضُ، وَاحِدَتُهُ فُطْرَةٌ. والفِطْرَةُ: الخِلْقَةُ منْ قَولِكَ: فَطَرَهُ يَفْطُرُهُ فَطْرًا، أَيْ: خَلَقَهُ، ومنهُ قولُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الرُّومِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} الآيةَ: 30. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ هُود: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} الآيةَ: 51، وقالَ مِنْ سورةِ يس: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } الآيةَ: 22، وقالَ: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين} الآيتان: (26 و 27) مِنْ سُورَةِ الزُّخرُف.
والفَطْرُ أَيْضًا: الشَّقُّ. يُقَالُ: فَطَرْتُهُ فَانْفَطَرَ. وانْفَطَرَ نَابُ البَعِيرِ: شَقَّ اللثَّةَ وَطَلَعَ، وَتَفَطَّرَ الشَّيْءُ: تَشَقَّقَ، وَتَمَزَّقَ. وَسَيْفٌ فُطَارٌ: فِيهِ تَشَقُّقٌ، وَعَلَيْهِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ العَبْسِيِّ مِنْ أَبياتٍ يتَهَدَّدُ بِهَا عِمَارَةَ بْنِ زَيادٍ العَبْسِيِّ:
وَسَيْفي كَالْعَقِيقَةِ فَهُوَ كِمْعِي .................. سِلَاحِي لَا أَفَلَّ وَلَا فُطَارَا
قَوْلُهُ: "كِمْعِي" يَعْنِي: ضَجِيعِي.
قولُهُ: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أَكَّدَ سَيِّدُنا إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لأَبيهِ وقومِهِ أَنَّهُ جادٌّ فيما ادَّعاهُ مِنْ أَنَّهُمْ عَلَى ضَلَالٍ هُمْ وآباؤُهُمْ، وأَنَّ رَبَّهُمْ الذي يَسْتَحِقُّ العِبَادَةَ هُوَ اللهُ الواحِدُ الأَحَدُ الذي خلقَ السَّماواتِ والأرضَ، وأَنَّهُ يَشْهَدُ بِذَلِكَ شاهدةَ حقٍّ، وهوَ واحِدٌ مِنْ أُولَئِكَ المُؤمنينَ بهَذِهِ الحقيقةِ، الشَّاهدينَ عَلَيْهَا.
ويَجوزُ أَنْ يَكونَ قَوْلُهُ "وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ" إِعْلَامًا لَقَوْمِهِ بِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ إلَيْهِمْ لِإِقَامَةِ دِينِ اللهِ القائمِ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ ـ تَعَالى، وإِفْرادِهِ بالعِبادةِ، فَرَسُولُ كُلِّ أُمَّةٍ هُوَ شَهِيدٌ عَلَيْهَا، كَمَا هُوَ واضِحٌ في قَولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا} الآيةَ: 41.
وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكونَ قولُهُ: "وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ" للتَّأْكِيدِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَسَمِ، وَمِنْ ذلِكَ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:
شَهِدَ الْفَرَزْدَقُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ .................... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي} بَلْ: حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وإِضْرَابٍ. وَ "رَبُّكُمْ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وهُوَ مُضافٌ، وَكافُ الخِطَابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتَذْكيرِ الجَمْعِ. و "رَبُّ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وَهوَ مُضافٌ، وَ "السَّمَاوَاتِ" مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ. و "وَالْأَرْضِ" الواوُ: للعَطْفِ، وَ "وَالْأَرْضِ" مَعْطوفٌ عَلَى السَّمَواتِ مَجْرورٌ مِثْلُهُ، و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصُولٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ. صِفَةً لِـ "رَبُّ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَنْصُوبَ المَوْضِعِ عَلَى القَطْعِ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالَ".
قَوْلُهُ: {فَطَرَهُنَّ} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ. و "هُنَّ" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، يَعُودُ عَلَى السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان الأنْدَلُسِيُّ في تفسيرِهِ "البَحْرُ المُحيطُ": وَلَمَّا لَمْ تَكُنِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ تبلُغُ فِي العَدَدِ الكَثِيرِ مِنْهُ جَاءَ الضَّمِيرُ ضَمِيرَ القِلَّةِ. قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ في تفسيرِهِ "الدُّرُّ المَصونُ": إِنْ عَنَى لَمْ يَبْلُغْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَمُسَلَّمٌ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، بَلِ المُرَادُ المَجْمُوعُ. وَإِنْ عَنَى لَمْ يَبْلُغِ المَجْمُوعُ مِنْهُمَا فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ يَبْلُغُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، وَهُوَ فِي حَدِّ جَمْعِ الكَثْرَةِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ نَقُولَ: إِنَّ الأَرْضَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَلَيْسَتْ بِسَبْعٍ كَالسَّمَاءِ ـ عَلَى مَا رَآهُ بَعْضُهُمْ، فَيَصِحُّ لَهُ ذَلِكَ وَلَكِنَّه غَيْرُ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: يَعُودُ هَذا الضَّميرُ عَلَى التَّماثيلِ. قَالَ الزَّمَخْشرَيُّ في "الكشافِ": وَكَوْنُهُ للتَّماثيلِ أَثْبَتُ لِتَضْلِيلِهمْ، وَأَدْخَلُ فِي الاحْتِجَاجِ عَلَيْهِم. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَطَرَهُنَّ عِبَارَةٌ عَنْهَا كَأَنَّها تَعْقِلُ، وَهَذِهِ مِنْ حَيْثُ لَهَا طَاعَةٌ وَانْقِيَادٌ، وَقَدْ وُصِفَتْ في مَوَاضِعَ بِوَصْفِ مَنْ يَعْقِلُ. وَقالَ غَيْرُهُ: "فَطَرَهُنَّ" أَعَادَ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا صَدَرَ مِنْهُنَّ مِنَ الأَحْوَالِ الَّتي تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ قَبيلِ مَنْ يَعْقِلُ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَخْبَرَ بِقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ فُصِّلَتْ: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} الآيةَ: 11. وَقَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ)).
قَالَ السَّمينُ: كَأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ وَهَذَا القائِلَ تَوَهَّما أَنَّ "هُنَّ"، مِنَ الضَّمَائرِ المُخْتَصَّةِ بِالمُؤَنَّثاتِ العَاقِلَاتِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ العَلَاقاتِ وَغَيْرِهَا. قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ التَّوْبة: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} الآيَةَ: 36، ثُمَّ قَالَ بعدَ ذَلِكَ: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ}. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "أَنَا" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "الشَّاهِدِينَ"، و "ذَلِكُمْ" ذا: اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ، والميمُ علامةُ الجَمعِ المُذكَّرِ. و "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّرٍ لِلْمُبْتَدَأِ، وَيجوزُ أنْ يتعلَّقَ بـ "الشَّاهِدينَ" اتِّسَاعًا، أَوْ عَلَى البَيَانِ. وَ "الشَّاهِدِينَ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا.