مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ
(6)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} جَوَابٌ عَنْ سُؤَالِهِمُ الْأَخِيرِ المذكورِ في الآيةِ التي قبلَها، وهُوَ قَوْلِهُم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُون}. والْمَعْنَى: أَنَّ قومَكَ هَؤلاءِ هُمْ أَشَدُّ فِي الضَّلالِ والعِنَادِ وَالصَّلَفِ الْعُتُوِّ مِنْ الأُمَمِ البائدةِ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ عَلَى أَنْبِيَائِهِمُ وَعَاهَدُوهم بِأَنْ يُؤْمِنُوا إِذا جاءَهمْ بِهَا أَنبياؤُهُم، فَلَمَّا جَاؤوهُمْ بِها نَكَثُوا بِعَهْدِهِم وَخَالَفُوا أَنْبِياءَهم، فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِجُرْمِهِم هَذَا، فَقدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا" أَيْ: أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا إِذا جَاؤُوا قَومَهُمْ بِالْآيَاتِ فَلَمْ يُؤْمِنُوا لَمْ يُنْظَرُوا.
فَلَوْ أَنَّنا أَعْطَيْنَا قوْمَكَ هَؤُلاءِ مَا اقْتَرَحُوهُ عَلَيْكَ، وَمَا سَأَلَوهُ مِنْكَ لَكَانُ قومُكَ أَشَدَّ نَكْثًا مِنْ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، لأَنَّهُم أَشَدُّ أُولَئِكَ الأُمَمِ عِنَادًا لِرَسُولِهِمْ، وَعُتُوَّا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، وَقَدْ جَرَتْ سُنَّتُنا في خَلْقِنا أَنْ نُهْلِكَ الأُمَّةَ الَّتِي تُكَذِّبُ بِالآياتِ الَّتِي تَسْأَلُهَا، هلاكَ اسْتِئْصالٍ، وَهَذَا لَنْ يكونَ في هَذِهِ الأُمَّةِ لأَنَّها الأُمَّةُ الأَخِيرَةُ، ورِسَالَتَنَا إِلَيها هي الرِّسالةُ الأخيرةُ، فإِذا اسْتُؤْصِلَتْ لَمْ يَبْقَ مُؤمِنٌ عَلَى وَجْهِ الأَرضِ إِلى قيامِ السَّاعَةِ وهذا بخلافِ ما اقَتضَتْهُ حِكْمَةُ اللهِ تعالى وَقَضَتْ بهِ.
قَالَ الْحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: (إِنَّهُمْ لَمْ يُجَابُوا لِأَنَّ حُكْمَ الله تَعَالَى أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بَعْدَ الْإِجَابَةِ إِلَى مَا اقْتَرَحَهُ مِنَ الْآيَاتِ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، وَقَدْ مَضَى حُكْمُهُ ـ سُبْحانَهُ، فِي أُمَّةِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خاصَّةً بِخِلافِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجِبْهِمْ إِلى مَا سَأَلُوا.
قولُهُ: {أَهْلَكْنَاهَا} مِنَ الهُلْكِ، يُقالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكًا، وَهَلْكًا، وهَلاكًا، إِذا مَاتَ، قالَهُ أَبو عُبَيْدٍ. وَرَجُلٌ هَالِكٌ مِنْ قَوْمٍ هُلَّكٍ، وَهُلَّاكٍ، وهَلْكَى، وفي الشَّاذِّ "هَوَالِك". وَقَدِ اسْتَعْمَلَ الإمامُ الأَعْظَمُ أَبو حنيفةَ النُّعمانُ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُ، "الهَلَكَةَ" في جُفُوفِ النَّبَاتِ وبَيُودِهِ. والهالِكُ: المُهْلَكُ، يُقالُ: هَلَكَ الشَّيْءَ وهَلَّكَهُ وأَهْلَكَهُ، قالَ الشَّاعِرُ الرَّاجِزُ العَجَّاجُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ:
ومَهْمَهٍ هالِكِ مَنْ تَعَرَّجا ........................ هائِلَةٍ أَهْوالُهُ مَنْ أَدْلَجَا
يَعْني بِـ "هَالِك": مُهْلِك، وهيَ لُغَةُ تَميمٍ.
قولُهُ: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} يَنْفِي الحَقُّ ـ تَباركَ وَتَعَالى، أَنْ يكونَ منْهمْ إيمانٌ، وذَلِكَ لِسابقِ عِلْمِهِ فيهِم. والمَعْنَى: لَا يُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ وإِنْ أَتَتَهُمْ بِالآيَةِ الَّتي يَقْتِرحونَ عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ، كَمَا لَمْ يُؤْمِنْ أُولَئِكَ المُتَقَدِّمونَ مِنَ الأُمَمِ؛ لِأَنَّ سُؤالَ الآيةِ إِنَّما كانَ منْهم سُؤَالَ مُكابَرَةٍ وَعِنَادٍ، وَلَيْسَ سُؤَالَ اسْتِهْداءٍ وَاسْتِرْشادٍ.
وَمَعْنَى "لَا يُؤْمِنونَ": لا يُصَدِّقونَ، لأَنَّ الإيمانَ هوَ التَّصْديقُ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَفَهُمْ يُؤْمنُونَ" قَالَ: يُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ؟. وَفي هَذا الاسْتِفهامِ إِنْكارٌ لِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
وَقدْ جاءَ في سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كَانَ مَا تَقولُ حَقًا، وَيَسُرُّكَ أَنْ نُؤْمِنَ، فَحَوِّلْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ ـ علَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ كَانَ الَّذِي سَأَلَكَ قَوْمُكَ، وَلكِنَّهُ إِنْ كَانَ، ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا، لَمْ يُنْظَرُوا، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتَ بِقَوْمِكَ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((بَلْ أَسْتَأْني بِقَومِي)). فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: "مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ".
قوْلُهُ تَعَالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ} مَا: نَافِيَةٌ. وَ "آمَنَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، والتاءُ: لِتَأْنِيثِ الفاعِلِ. و "قَبْلَهُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرفيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "آمَنَتْ"، وهوَ مُضافٌ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ لتَذْكيرِ الجَمعِ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ زَائِدٍ، "قَرْيَةٍ" مَجْرُورٌ بِهِ لَفْظًا، مَرْفوعٌ بالفاعِلِيَّةِ مَحَلًا، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْريرِ كُفْرِهِمْ وَاسْتِبْعَادِ إِيمانِهِمْ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَهْلَكْنَاهَا} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "هَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُوليَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "قَرْيَةٍ" عَلَى المَحَلِّ.
قولُهُ: {أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ الإِنْكارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلى مَحْذوفٍ، وَالفاءُ: عاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، وَ "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رفعِهِ ثَباتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُمْلةُ خَبَرُ المُبتَدَأِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلى تِلْكَ الجُمْلةِ المَحْذوفَةِ، والتَّقْديرُ: أَتِلْكَ القَريَةُ المُهْلَكَةُ لَمْ يُؤْمِنُوا فَهُمْ يُؤْمِنُون؛ أَيْ: فَهَؤُلاءِ يُؤْمِنُونَ لَوْ أُجِيبُوا إِلى ما سِئِلُوا وَأُعْطُوا مَا اقْتَرَحُوا، وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.