قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ
(53)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} أَيْ: قَالَ قومُ سيِّدِنا إبراهيمَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، رَدًّا عَلَى سُؤالِهِ السَّابقِ الذي قالَ فيهِ: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُون} منكِرًا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. فَأَجَابُوهُ بِأَنَّهُمْ لا يعرفونَ شيْئًا عنْها، إِنَّما مُنْذُ فَتَحُوا أَعْيُنَهم عَلَى هَذِهِ الحياةِ الدُّنْيا، وَجَدُوا آباءَهُمْ يَعْبُدونَ هَذِهِ التَّماثِيلَ فاقتدوا بهم، وفعلوا مثلَ فِعْلِهم مُتَوَهِّمينَ بأَنَّ ذلكَ يُقْنِعُهُ بِعبادتِها، فَقد حَسِبُوا أَنَّهُ مِثْلَهُمْ يُقَدِّسُ ما كانَ يَعَمَلُهُ آبَاؤهُ وَأَجْدادُهُ، وَيَقْتَدِي بِهِمْ، وَيَفْعَلُ فعلَهُم حُبًّا بِهِمْ، واحْتِرامًا لَهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عابِدِينَ"، قَالَ: أَيْ عَلَى دِينٍ، وأَنَّا مُتَّبِعُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (ذَمُّ المَلاهِي)، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبُ الإيمانِ) عَنْ أَميرِ المُؤْمِنينَ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ يَلْعَبُونَ بِالشِّطْرَنْجِ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟. لَئِنْ يَمَسُّ أَحَدُكُمْ جَمْرًا حَتَّى يُطْفَأْ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْهُ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسَلَّمُ عَلَى أَصْحَابِ النَرْدَشِيرِ وَالشِّطْرَنْجِ.
وَالْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا الْكَلْدَانُ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ ـ عَليْهِ السَّلامُ، هِيَ: (بَعْلُ) وَهُوَ أَعْظَمُهَا، وَكَانَ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ الخالِصِ، وَكانَ فِي "عَهْدِ سَمِيرَمِيسَ" رَمَزًا للشَّمْسِ، كما أَنَّهمْ عَبَدُوا أَصنامًا أُخْرَى كانتْ رُمُوزًا لِلْكَوَاكِبِ، كَانَ قَوْمُ نُوحٍ يَعْبُدُونَها، حيثُ بقيتْ إِلَى ما قبلَ البعثةِ المحمديَّةِ، حيثُ حطَّمها النبيُّ محمدٌ ـ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كَ "وَدّ"، وَ "سُوَاع"، وَ "يَغُوث"، وَ "يَعُوقُ"، وَ "نَسْر". وَقَدْ دَلَّتِ الْآثَارُ عَلَى أَنَّهُ كانَ مِنْ أَصْنَامِ الآشُوريينَ ـ إِخْوَانِ الْكَلْدَانِيينِ، صَنَمٌ اسْمُهُ (نَسْرُوخُ) وَهُوَ المعروفُ أَيْضًا بـ "نَسْرٌ" واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالُوا} فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعَةِ، وواوُ الجُماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، والجُمْلَةُ لفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ
قوْلُهُ: {وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} وَجَدْنا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ َعلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" الجَمَاعةِ، و "نا" وَضميرُ جَمَاعَةِ المتكلِّمينَ هَذا مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "آباءَنا" مَفْعولُهُ الأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وَ "نَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ. وَ "لَهَا" اللامُ حرفُ جَرٍّ زائدٍ لَا تَعَلُّقَ لَهُ لِأَنَّهُ زائدٌ فِي المَفْعُولِ بِهِ لِتَقَدُّمِهِ. وَ "عابدينَ" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "وَجَدْنا" مَنْصُوبٌ بِهِ، وعلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، والجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ القولِ لِـ "قالوا".