أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ
(21)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} أَمْ: هيَ المُنْقَطِعَةُ وَمَعْنَاهَا "بَلْ" الَّتي هِيَ للِإِضْرابِ الانْتِقَالِيِّ حَيْثُمَا وَقَعَتْ، أَوْ هِيَ بَمَعْنَى الهَمْزَةِ الَّتِي للإِنْكارِ، والآلِهَةُ المُتَّخَذَةُ مِنْ قِبَلِ المُشْرِكِينَ هِيَ الأَصْنَامُ، وَهِيَ ـ سَوَاءٌ أَكانَتْ مِنْ حَديدٍ أَمْ مِنْ طِينٍ، أَمْ مِنْ حِجَارَةٍ، أَمْ خَشَبٍ، أَمْ مِنْ أَيَّةِ مَادَّةٍ أُخْرَى فقَد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْن أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَمِ اتَّخذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ" يَعْنِي مِمَّا اتَّخذُوا مِنَ الْحِجَارَةِ وَالخَشَبِ. وَهِيَ جَمِيعُها مِنَ الأَرْضِ، وَالأَرضُ هيَ مِلْكُ اللهِ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَتْهُ الآيَةُ الَّتي قَبَلَهَا، وَهِيَ خَلْقٌ مِنْ خلْقِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَبِالْتَّالي فَإِنَّ هَذِهِ الأَصْنامَ الَّتي اتَّخَذَهَا المُشْرِكُونَ آلِهَةً، هِيَ مُلْكٌ لَهُ ـ جلَّ وَعَزَّ، وَعَلَيْهِ فهيَ مِنْ مَخْلُوقاتِ اللهِ ـ تَعَالَى، فَكَيْفَ تَكُونُ آلِهَةً شَريكةً لَهُ في المُلْكِ أَوِ العِبَادَةِ وَهِيَ مِنَ مَوَادِّ الأَرْضِ الَّتي خَلَقَها اللهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ.
قولُهُ: {هُمْ يُنْشِرُونَ} يُنْشِرُونَ: يُحْيُونَ المَوْتَى للبَعْثِ والنُّشُورِ، والحِسابِ والعِقابِ. لِأَنَّ اللهَ سَيُحْيِيكُمْ مِنْ جَديدٍ وَيَبْعَثُكُمْ مِنْ قُبُورِكم، وَيَنْشُرُكُمْ بَعْدَ فناءَكَمْ لِيُحاسِبَكُمْ ويَجْزِيَكمْ عَلَى ما قَدَّمْتُمْ مِنْ عَمَلٍ في حياتِكُمُ الدُّنْيا، فَهَلْ تَسْتَطِيعُ هَذِهِ الأَصْنامُ التي اتَّخَذْتُمُوها آلِهَةً مِنْ دونِ اللهِ، أَنْ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "أَمِ اتَّخذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يَنْشُرُونُ" قَالَ: يُحْيُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَمِ اتَّخذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يَنْشُرُونُ" يَقُولُ: يُنْشِرُونَ الْمَوْتَى مِنَ الأَرْضِ، يَقُولُ: يُحْيُونَهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ.
وَالنَّشْرُ، والنُّشورُ، والإنْشَارُ: إِحْيَاءُ المَيِّتِ. وَقَدْ نَشَرَ اللهُ المَيِّتَ يَنْشُرُهُ نَشْرًا ونُشُورًا وأَنْشَرَهُ: أَحْيَاهُ، وَقَرَأَ الجُمْهُورُ قولَها ـ تَعَالى، في الآيَةِ: 259، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُها ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} "نَنْشُرُهَا" بالرَّاءِ: وَاحْتَجَّ ابْنُ عَبَّاسٍ لهذِهِ القراءةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ (عَبَسَ): {ثُمَّ إذا شاءَ أَنْشَرَه} الآيةَ: 22، قالَ الفَرَّاءُ: مَنْ قَرَأَ كَيْفَ نُنْشِرُها فإِنْشارُها إِحْيَاؤُها، ومَنْ قَرَأَ {كَيْفَ نَنْشُرُهَا} وَهِيَ قِراءَةُ الحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَذْهَبُ بِهَا إِلَى النَّشْرِ وَالطَّيِّ. وَالوَجْهُ أَنْ يُقَالَ: أَنْشَرَ اللهُ المَوْتَى فنَشَرُوا هُمْ، إِذَا حَيُوا، وَأَنْشَرَهُمُ اللهُ: أَحْيَاهُمْ. وَقالَ أَبو ذُؤَيْبٍ الهُذَلِيُّ:
لَوْ كانَ مِدْحَةُ حَيٍّ أَنْشَرَتْ أَحَدًا ........... أَحْيَا أُبُوَّتَكِ الشُّمَّ الأَمادِيحُ
وَالنَّشْرُ: الحَيَاةُ. يُقَالَ: نَشَرَهُ نَشْرًا، وَنُشُورًا، وَأَنْشَرَهُ فَنَشَرَ هُوَ أَيْ: حَيِيَ المَيِّتُ وَعَاشَ بَعْدَ المَوْتِ. وَقالَ الزَّجَّاجُ: نَشَرَهُمُ اللهُ بَعَثَهُمْ، قالَ ـ تَعَالَى مِنْ سُورةِ المُلْك: {وإلَيْهِ النُّشُورُ} الآيةَ: 15، وَمنهُ قولُ الأَعَشَى:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوا ..................... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
وَالنَّشْرُ أَيْضًا: الكَلَأُ إِذَا يَبِسَ فَأَصَابَهُ مَطَرٌ في نِهايةِ الصَّيْفِ فَاخْضَرَّ. فَيُقَالُ: نَشَرَ العُشْبُ، وَنَشَرَتِ الأَرْضُ نَشْرًا. وَالنَّشْرُ أَيْضًا: انْتِشَارُ الوَرَقِ في الشَّجَرِ ومِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كأَنَّ عَلى أَكْتَافِهِمْ نَشْرَ غَرْقَدٍ .......... وَقَدْ جَاوَزُوا نَيَّانَ كالنَّبَطِ الغُلْفِ
والنَّشْرُ أَيضًا: الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ ومِنْ ذَلِكَ قَولُ المُرَقِّشِ:
النَّشْرُ مِسْكٌ والوُجوهُ دَنَا .................... نِيرٌ وأَطرافُ الأَكُفِّ عَنَمْ
وَقالَ أَبو عُبَيْدٍ هُوَ الرِّيحُ مُطْلَقًا، وقِيلَ هوَ رِيحُ فَمِ المَرْأَةِ وأَنْفِها وأَعْطافِهَا بَعْدَ النَوْمِ، ومنهُ قولُ امْرِئِ القَيْس:
كأَنَّ المُدامَ وَصَوْبَ الغَمامِ ................ وَرِيحَ الخُزَامَى وَنَشْرَ القُطُرْ
قولُهُ القُطُرُ: أَيْ العودُ الذي يُتَبَخَّرُ بِهِ.
وَالنَّشْرُ أَيْضًا: نَشْرُ الثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، وهُوَ خِلافُ الطَّيِّ، مِنْ نَشَرَ الثوبَ يَنْشُرُهُ نَشْرًا: بَسَطَهُ، وَيُشَدَّدُ لِلْتَكْثيرِ فيقالُ: نَشَّرَ، ومِنْهُ قولُهُ تعالى مِنْ في الآيَةَ: 52، سُورَةِ المُدَّثِّر: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً}.
وَالنَّشْرُ أَيضًا: نَحْتُ الخَشَبِ، وتَقْطِيعُهُ بالمِنْشارِ، وهو مَجازٌ، تقولُ: نَشَرَ فلانٌ الخَشَبَةَ يَنْشُرُها نَشْرًا.
والنَّشْرُ: التَّفريقُ، وَالقَوْمُ المُتَفَرِّقونَ الذينَ لَا يَجْتَمِعونَ عَلَى أَميرٍ، وتَقولُ: جَاءَ القَوْمُ نَشَرًا "بالتَّحْريكِ" أَيْ: جاؤوا مُتَفَرِّقِينَ، وَرَأَيْتُ القَوْمَ نَشَرًا، أَي: مُنْتَشِرينَ.
وإِذاعَةُ الخَبَرِ نَشْرٌ، وَهوَ بِالْكَسْرِ والضَّمِ فتقولُ: نَشَرَ الأَمْرَ، يَنْشُرُهُ، ويَنْشِرُهُ: إِذا أَذَاعَهُ، أَوْ أَذاعَ بِهِ فَانْتَشَرَ.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ إِشارةٌ إِلَى وُجُوبِ الإيمانِ باللهِ تَعَالى الوَاحِدِ الأَحَدِ الذي خَلَقَ الكَوْنَ بكُلِّ ما فيهِ، وَاتِّقاءِ عَذَابِهِ وَعِقابِهِ، والحَذَرِ مِنْ مخالفةِ أَمْرِهِ، والبُعْدِ عَنْ كلِّ مَا يؤدَّ إلى إِغْضَابِهِ، لأَنَّهُ هوَ الذي سَيُعيدُكمْ إلى الحياةِ مِنْ جديدٍ، وهوَ الذي سيُحاسِبُكمْ وَيُجازيكمْ عَلى أَعْمَالِكُمْ، فَتَسْعَدُونَ بالنَّعيمِ أَوْ تَشْقَوْنَ فِي الجَحيمِ، وَلَيْسَتِ الأَصْنَامُ الَّتِي بِهَا تُشْرِكُونَ، وَلَهَا تَعْبُدون.
وفيها: تَهَكُّمٌ، وَسُخْرِيَةٌ، وَهُزْءٌ بِالمُشْرِكِينَ عَلَى ضَلالَتِهِم، وَعَمَاءِ بَصِيرتِهِم، إِذْ وَصَلَ بِهِمُ الانْحِطاطُ الفِكْرِيُّ والسَّفاهَةُ إِلَى اتِّخاذِ الأَصْنَامَ الصَّمَاءَ البَكْمَاءَ الَّتي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفعَ عَنْ نَفْسِها الضُّرَّ، آلِهَةً بها يُشركونَ، وَلَهَا يَعْبُدونَ.
قولُهُ تَعَالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} أَمِ: هِيَ المُنْقَطِعَةُ بِمَعْنَى "بَلْ"، وَ "هَمْزَةِ" الإِنْكارِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في مَبْحَثِ التَّفسيرِ. وَ "اتَّخَذُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والأَلِفُ هي الفارِقةُ. وَ "آلِهَةً" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، و "مِنَ" حَرْفُ جرٍّ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "اتَّخَذَ" على أَنَّهُ بِمَعْنَى "صَنَعَ". وجَوَّزَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَيَّرَ الَّتي في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} الآيَةَ: 125، قالَ: وَفِيهِ مَعْنَى الاصْطِفاءِ وَالاخْتِيارِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهَا نَعْتٌ أَوَّلُ لِـ "آلِهَةً" أَيْ: مِنْ جِنْسِ الأَرْضِ. وَ "الْأَرْضِ" مَجْرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {هُمْ يُنْشِرُونَ} هُمْ: ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، و "يُنْشِرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: المَوْتَى. وَالجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ. وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، صِفَةٌ ثانيَةٌ لِـ "آلِهَةً".
قرَأَ العامَّةُ: {يُنْشِرون} بِضَمِّ حَرْفِ المُضَارَعَةِ مِنْ "أَنْشَرَ". وَقَرَأَ الحَسَنُ "يَنْشُرُونَ" بِفَتْحِها وَضَمِّ الشِّينِ، يُقالُ: أَنْشَرَ اللهُ المَوْتَى فَنَشَرُوا، وَيَأتي الفِعْلُ "نَشَرَ" لازمًا وَمُتَعَدِّيًا.