خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ
(37)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} قَيلَ: الْمُرَادُ بِـ "الْإِنْسَانِ" هُنَا آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْ آدَمَ نَظَرَ فِي ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ جَوْفَهُ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ؛ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ".
وَقَالُوا أَيْضًا: لَمَّا نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ، لَمْ تَبْلُغْ رِجْلَيْهِ حَتَّى اسْتَعْجَلَ، وَأَهْوَى إِلَى عُنْقُودٍ مِنْ عِنَبِ الجَنَّةِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ، وَأَرَادَ الوُثُوبَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ عَجَلَانَ في ذَلِكَ، وَقَدْ أَوْرَثَ أَوْلَادَهُ العَجَلَةَ. قَالهُ عِكْرِمَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فيما نَقَلَهُ الإمامُ السُّيُوطِيُّ في "الدُّرُّ المَنْثُورُ": (5/630)، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وابْنِ المُنْذِرِ. وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضًا: (17/26) عنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، نَقَلَهُ السُّيُوطِيُّ فِي "الدُّرُّ المَنْثُورُ": (5/630)، عَنِ ابْنِ جَريرٍ، وَابْنِ أَبي حاتمٍ. وَرَوَاهُ الطَّبَرِيُّ: (17/26)، مُسْنَدًا للسُّدِّيِّ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ. وَنَسَبَهُ المَاوَرْدِيُّ في "النُّكَتُ وَالعُيْونُ": (1/447)، للكَلْبيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، خُلِقَ فِي آخِرِ النَّهَارِ مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ، فَلَمَّا أَحْيَا اللهُ رَأْسَهُ اسْتَعْجَلَ وَطَلَبَ تَتْمِيمَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ، آخِرَ النَّهَارِ، فَلَمَا أَحْيَا الرُّوحُ رَأْسَهُ، وَلَمْ تَبْلُغْ أَسْفَلَهُ، قَالَ: يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. رواهُ الثَّعْلَبِيُّ في تَفْسِيرِهِ: (3/29 ب)، والطَّبَرِيُّ: (17/26)، وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي "الدُّرُّ المَنْثُورُ" عَنِ ابْنِ شَيْبَةَ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَابْنِ أَبي حَاتِمٍ وَابْنِ المُنْذِرِ، وَأَبِي الشَّيْخِ فِي "العَظَمَةِ"، واخْتارَهُ قُطْرُبٌ، فَقَالَ: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" أَيْ: مِنْ سُرْعَةِ الأَمْرِ فِي خَلْقِهِ.
وَروَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ": (2/24)، عنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" أَيْ: خُلِقَ عَجُولًا. وَهَذَا هوَ الذي اخْتارَهُ جَمِيعُ أَهْلِ اللُّغةِ والمَعَانِي. فَالإِنْسَانُ هَهُنَا اسْمٌ للجِنْسِ. قالَ الفَرَّاءُ: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" كَأَنَّهُ قالَ: بَنَيْتُهُ وَخَلَقْتُهُ مِنَ العَجَلِـ وَعَلَى العَجَلَةِ. أُنْظُرْ: "مَعَاني القُرْآنِ" لهُ: (2/203). وَقَالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: خُوطِبَتِ العَرَبُ بِمَا تَعْقِلُ، وَالعَرَبُ تَقُولُ لِلَّذي يُكْثِرُ الشَّيْءَ: خُلِقْتَ مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ: أَنْتَ مِنْ لَعِبٍ، وَخُلِقْتَ مِنْ لَعِبٍ، تُريدُ المُبَالَغَةَ بِوَصْفِهِ بِاللَّعِبِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا المَعْنَى قَوْلُهُ ـ تَعَالَى مِنْ سورةِ الإسْراءِ: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} الآيةَ: 11، "مَعَانِي القُرْآنِ وَإعْرابُهُ" لهُ: (3/392)، مَعَ بعضِ التَّقْديمِ وَالتَّأْخِيرِ. وَقَالَ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" أَيْ: مِنْ شَأْنِهِ العَجَلَةِ. وَهَذِهِ الَأقْوالُ الثَّلاثَةُ هِيَ الَّتي يُعوِّلُ عَلَيْهَا أَهْلُ التَّفْسيرِ وَالمَعَاني.
وَمِنَ العُلماءِ مَنْ قَالَ: الْعَجَلُ هُنَا: هُوَ الطِّينُ، وَهِيَ لُغَةُ حِمْيَرٍ، وَقَدِ اسْتَشْهَدوا لِذَلِكَ بِقَولِ الشَّاعِرِ المُخَضْرَمِ الشَّمَّاخ بْنِ ضِرارٍ المَازِنِيِّ الذُّبْيَانِيِّ الغَطَفَانِيِّ:
والْنَبْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ ....... وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ
قولُهُ "النَّبْعُ" هُوَ نَوْعٌ مِنَ الشَّجَرِ تُتَّخَذُ مِنْهُ القِسِيُّ، يَنْبُتُ في الجبالِ بَيْنَ الصُّخُورِ الصَّمِّاءِ، وَيَعْنِي الشَّاعِرُ بِقَوْلِهِ: بَيْنَ الْمَاءِ وَالعَجَلِ: بَيْنَ المَاءِ وَالطِّينِ. وَبناءً عَلَيْهِ فإِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: خُلِقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةِ: 61، مِنْ سُورَةِ الإِسْراءِ أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أَمَرَهُ رَبُّهُ بالسُّجودِ لآدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ: {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} الآيةَ: 7.
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ هُوَ أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ مِنْ طَبْعِهِ الْعَجَلُ وَعَدَمُ التَّأَنِّي، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ مِنَ الآيَةِ نفسِها: "فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ"، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ في الآيَةِ الَّتي تَلِيهَا: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وَاضِحُ الدَّالَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَجَلِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الطِّينُ، وإِنَّما اسْتِعْجَالُ نَفاذِ وَعِيدِ اللهِ فِي المُسْتَهْزِئِينَ مِنَ المُشركينَ، وَالْعَرَبُ إِذَا قَالُوا: خُلِقَ فُلانٌ مِنْ كَذَا، فإِنَّما يَقُولُونَهُ عَلَى سبيلِ الْمُبَالَغَةِ، وهُوَ كَقَوْلِهِمْ: خُلِقَ فَلَانٌ مِنْ كَرَمٍ، فَإِنَّ مُرادَهُمُ المبالغةُ بوصْفِهِ بِالكَرَمِ، كَما في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} الآيةَ: 54، وَذَلِكَ عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الإِسْرَاءِ: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} الآية: 11، أَيْ: وَمِنْ عَجَلَتِهِ دُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِالشَّرِّ. فَقَدَ رُوِيَ أَنَّ المُشْركينَ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللهِ وَآيَاتِهِ الْمُلْجِئَةَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ، وَيَقُولُونَ: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}. فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالى: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" لِلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: لَيْسَ مُسْتَغْربًا مِنْكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوا، فَإِنَّكُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ طَبْعُكُمْ فيكُمُ وَسَجِيَّةٌ. ثُمَّ وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُرِيهِمْ آيَاتِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَسْتَعْجِلُوا بِقَوْلِهِ: "سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ"، وَكَمَا قَالَ مِنْ سُورةِ فُصِّلت: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} الآيةَ: 53.
كَمَا أَنَّ ذِكْرَ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الآيةِ التي قَبْلَها هَيَّجَ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ مَا جَعَلَهَمْ يَوَدُّونَ أَنْ يُعَجَّلَ بِنُزُولِ الْوَعِيدِ بِالْمُكَذِّبِينَ وَالمُسْتَهْزِئِينَ، فَخَاطَبَهُم رَبُّهُمْ أَنْ تَرَيَّثُوا وَلَا تَسْتَعْجِلُوا، لِأَنَّهُ هُوَ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ بعَذابِهم، وَمَا فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ للمُسْلمينَ وَلِلدِّينِ. فقَدْ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي مَعْرِضِ تَفْسِيرِهِ لِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ هَاهُنَا إِنما هِيَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الآيةِ التي قبلَها وَقَعَ فِي النُّفُوسِ الرَّغْبَةُ بِسُرْعَةُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وتمَنَّتِ النُّفوسُ ذَلِكَ وَاسْتَعْجَلَتْهُ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: "خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ" لِأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لَا يُؤَخِّرُ. وَلِهَذَا قَالَ ـ تَعَالَى في الجُمْلَةِ التي بعدَها مِنْ نفسِ الآيَةِ: "سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ".
قولُهُ: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} أَيْ: سَأُريكمْ نَقْمِي وَحُكْمِي، وَاقْتِدَارِي عَلَى مَنْ عَصَانِي، فلا تَستعجِلوا ذَلِكَ مِنِّي فإِنَّ لي فِي تأخيرِ ذَلِكَ، وتأجيلِهِ إلى الأجَلِ الذي قطَعتُهُ حكَمًا لا يَعْلَمُها أَحَدٌ غَيْرِي، وَسَتَعْلَمُونَها عندما تَرَوْنَ ما أَفعلُ بِهِمْ، وَكَيْفَ أَنْتَقِمُ مِنْهُمْ. فانْتَظِروا ذَلِكَ اليَوْمَ ولا تَستَعِجِلوا تنفيذَ ذلِكَ الوَعِيدَ، واللهُ أعلمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} خُلِقَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، مَبْنِيٌّ للمَفعولِ. و "الْإِنْسَانُ" مَرْفوعٌ بالنِّيابَةِ عِنِ فَاعِلِهِ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالفِعْلِ "خُلِقَ" عَلَى المَجَازِ أَوِ الحَقِيقَةِ المُتَقَدِّمَيْنِ، أَوْ بِحَالٍ مِنْ فاعِلِهِ "الإنسانُ"، وَ "عَجَلٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وقَد ذَهَبَ أَبُو عَمْرِو بْنُ العَلَاءِ ـ رَحِمَهُ اللهُ، إِلَى أَنَّ هَذا مِنْ بابِ القَلْبِ، وَالأَصْلُ فِيهِ: خُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإِنْسانِ، وذلكَ لِشِدَّةِ صُدورِهِ مِنْهُ وَمُلازَمَتِهِ لَهُ. يُؤَيَّدُهُ فيما ذهَبَ إِلَيْهِ قَرَاءَةُ عَبْدِ اللهِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: خُلِقَ العَجَلُ مِنَ الإِنْسَانِ. ومِنَ الشِّعْرِ قولُ تَميمِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ مُقْبِلٍ:
حَسَرْتُ كَفِّيْ عن السِّربالِ آخُذُهُ ........ فَرْدًا يُجَرُّ عَلى أَيْدِي المُفَدِّينا
يُريدُ: حَسَرْتُ السِّرْبالَ عَنْ كَفِّي.
وَمِثْلُهُ قولُهُمْ: عَرَضْتُ النَّاقَةَ عَلَى الحَوْضِ. وَقَوْلُهُمْ: إِذَا طَلَعَتِ الشِّعْرَى اسْتَوَى العُوْدُ عَلَى الحِرْبَاءِ. إِلَّا أَنَّ بَعْضَهُمْ يَحصُرُ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ. الثاني: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ المُبَالَغَةِ، وأَنَّهُ لَا قَلْبَ فِيهِ، فَقَدْ جَعَلَ ذاتَ الإِنسانِ كَأَنَّها خُلِقَتْ مِنْ نَفْسِ العَجَلَةِ، دَلَالَةً عَلَى شِدَّةِ اتِّصافِ الإِنْسانِ بِهَا، وَأَنَّها مَادَّتُهُ الَّتي خُلِقَ مِنْهَا. فهوَ كَقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَسْتُ مِنْ دَدٍّ، وَلاَ الدَدُّ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنَ البَاطِلِ وَلاَ البَاطِلُ مِنِّي)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: البُخَارِيُّ فِي "الأَدَبِ المُفْرَدِ": (برقم: 785)، والبَزَّارُ في مُسْنَدِهِ: (ج 3، برقم: 2402)، والطَّبَرانِيُّ في مُعجَمِهِ "الأَوْسَطِ: (ج/1/، بِرَقَم: 415)، والعَقِيلِيُّ: (4/427)، وَابْنُ عَدِيٍّ فِي "الكامِل": ( 7/2698)، والدولأْبي في "الكُنَى": (1/179)، والبَيْهَقِيُّ: (10/217)، مِنْ طُرُقٍ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} سَأُرِيكُمْ: السِّينُ حَرْفُ اسْتِقْبالٍ. و "أُريكم" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" ضميرُ المُعظِّمِ نفسَهُ سُبْحانَهُ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفُعولٌ بِهِ أَوَّلُ، والميمُ: علامةُ تذْكيرِ الجَمعِ. و "آيَاتِي" مَفْعُولُهُ الثاني، مَنْصوبٌ، وَعَلَامَةُ نَصْبِهِ فتْحَةٌ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، وَلَأَنَّ الرُّؤيَةَ هُنَا بَصَرِيَّةٌ فَقد تَعَدَّى فِعْلُها بالهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِتَأْكِيدِ العَجَلَةِ، وَعَاقِبَتِها الَّتي هِيَ رُؤْيَةُ العَذَابِ.
قولُهُ: {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} فَلَا: الفَاءُ: عَاطِفَةٌ. و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَسْتَعْجِلُونِ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وَعَلامَةُجَزْمِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والنُّونُ الثانيةُ هَذِهِ هي نونُ الوِقايَةِ، وَيَاءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذُوفَةُ، اجْتِزاءً عَنْهَا بِكَسْرَةِ نُونِ الوِقَايَةِ، وذلكَ رِعَايَةً للفاصِلَةِ، هيَ في مَحَلَّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "أُريكمْ"، على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {خُلِقَ} بالبِنَاءِ للمَفْعُولِ (المَجْهُولِ). وَ {الإِنسانُ} مَرْفوعًا لِقِيامِهِ مَقامَ الفَاعِلَ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدُ، وَابْنُ مُقَسِّم "خَلَقَ" مَبْنِيًّا للفَاعِلِ. و "الإِنسانَ" بالنَّصْبِ عَلَى المَفعوليَّةِ.