بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ
(5)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} بَلْ: هِيَ هُنَا لِلإضْرابِ الانتقاليِّ وليسَتْ للإضْرابِ الإِبطاليِّ، وَهَذَا إِضْرَابُ انْتِقَالٍ مِنْ حِكَايَةِ قَوْلِ فَرِيقٍ مِنْهُمْ: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} الْآيَةَ: 3، السَّابقةِ، إِلَى حِكَايَةِ قَوْلٍ آخَرَ مِنْ أَقْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنَّ مَا يُخْبِرُ عَنْهُ وَيَحْكِيهِ هُوَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا فَيَحْكِيهَا، فَالضَمِيرُ في "قالُوا" يعودُ لِجَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ لَا لِخُصُوصِ الْقَائِلِينَ الْأَوَّلِينَ.
و "الْأَضْغَاثُ" جَمْعُ ضِغْثٍ بِكَسْرِ الضَّادِ، وَهُوَ الْحِزْمَةُ مِنْ أَعْوَادٍ، أَوْ عُشْبٍ، أَوْ حَشِيشٍ مُخْتَلِطٍ يابِسُهُ بالرَّطِبِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى الْأَخْلَاطِ مُطْلَقًا. وفي التنزيلِ العزيزِ قالَ تَعَالَى فِي الآيةِ: 44، مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ: {قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ}. فَأَضْغَاثُ الأَحْلامِ: الرُّؤْيا الَّتي لَا يَصِحُّ تَأْويلُها لاخْتِلاطِهَا. وَضَغَثَ الحَديثَ ك "مَنَعَ" يَضْغَثُه ضَغْثًا: إِذا خَلَطَهُ بعْضَهُ في بَعْضٍ، وَهُوَ مَجازٌ. والضَّغْثُ: الْتِبَاسُ الشَّيْءِ بَعْضِه بِبَعْضٍ. والضَّاغِثُ في أَلْعابِ الصِّبيانِ: هوَ الذي يَخْتَبِئُ في الخَمَرِ لِيُفْزِعهم بِصَوْتٍ يُرَدِّدُهُ. وَضَغَثَ الشَّيْءً: عَرَكَهُ لِيَخْتَلِطَ. و "ضَغَثَ" الثَّوْبَ: غَسَلَهُ وَلَمْ يُنَقِّهِ فبقِيَ مُلْتَبِسًا. وَتَقُولُ: ضَرَبَه بضِغْثٍ، بكَسْرِ الضَّادِ.
وقد أَرادوا بِقولُهُم: "أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ" أَنَّ كلَّ مَا يُخْبِرُ بِهِ رُسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مِنْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمِنْ أَخْبَارِ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ وَيَوْمِ الْقِيَامَةِ إنَّما هيَ أَحْلَامٌ يَرَاهَا. وَرُوِيَ عَنِ الْيَزِيدِيِّ قولُهُ: الْأَضْغَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ.
في هَذِهِ الآيِةِ الكَريمةِ يُخْبِرُنَا اللهُ تَعَالَى عَنْ تَعَنُّتِ أُولئكَ الكَفَرَةِ، وَإلْحَادِهِمْ، واخْتِلاَفِهِمْ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ القُرْآنَ الكَريمَ، وحَيرَتِهِمْ في ذَلِكَ وَضَلاَلِهِمْ عَنْهُ، فَهم يَقولُونَ: هُو سِحْرٌ تَارَةً، وتَارَةً يَقولُونَ هوَ أَضْغَاثَ أَحْلاَمٍ، أَيْ أَحْلاَمًا مُخْتَلَطَةً يَرَاهَا مُحَمَّدٌ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في نَوْمِهِ وَيَرْوِيهَا. كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَحَادِيثُ طَسْمٍ أَوْ سَرَابٌ بِفَدْفَدِ ........ تَرَقْرَقَ لِلسَّارِي وَأَضْغَاثُ حَالِمِ
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ"، أَيْ: فِعْلُ الأَحْلامِ، إِنَّمَا هِيَ رُؤْيا رَآهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم عَن السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْله تَعَالى: "بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ" قَالَ: أَبَاطِيلُ أَحْلَامٍ.
وَهَذَا الخَبَرُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ في الآيةِ: 3، قَبْلَها: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أَيْ أَنَّهم قَدْ قالوهُما جَمِيعًا، إِلَّا أَنَّهُمْ خَلَطُوا مِنْ جِهَةِ الحَيْرَةِ الَّتي دَخَلَتْ عليْهم فِي أَمْرِ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وَسَلامُهُ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا قِصَّتُهُ، فَأَعْلَمَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، رَسُولَهُ الكريمَ بِذَلِكَ.
قولُهُ: {بَلِ افْتَرَاهُ} ويَجْعَلُونَ القُرْآنَ الكَريمَ مُفْتَرَى عَلَى اللهِ تَارَةً أُخرى، اخْتَلَقَهُ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَسَبَهُ إِلى اللهِ تَعَالَى. فإنَّ مَعْنَى "افْتَرَاهُ": اخْتَلَقَهُ وَافْتَعَلَهُ مِنْ عَنْدِ نَفْسِهِ. فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ وَهِيَ إِضْرَابُ انْتِقَالٍ فِيمَا يَصِفُونَ بِهِ الْقُرْآنَ. وَالْمَعْنَى: بَلِ افْتَرَاهُ وَاخْتَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَحْلَامٍ، أَيْ هُوَ كَلَامٌ مَكْذُوبٌ.
قَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: أَخَذُوا يَنْقُضُونَ أَقْوالَهُمْ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ، فَمَرَّةً يَقُولونَ: هَذِهِ أَحْلامٌ، وَمَرَّةً يَقُولونُ: هَذَا شِعْرٌ، وَمَرَّةً: هَذَا مُفْتَرى. "مَعَاني القُرْآنِ وَإِعْرابُهُ" لهُ: (3/384). وعَلَيْهِ فإنَّ مَعْنَى "بَلْ": الإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِنَقْضِهِمْ قَوْلَهُمْ فِي القُرْآنِ، وانْتِقالِهِمْ عَمَّا قالوهُ أَوَّلًا إِلِى آخِرٍ.
وَقالَ المُبَرِّدُ: ("بَلْ" لَهَا مَوْضِعَانِ فِي الكَلامِ، يَجْمَعُهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَنَقُّلُ مِنْ خَبَرٍ إِلَى خَبَرٍ، وَمِنْ أَمْرٍ إِلَى أَمْرٍ، وَقَدْ يَكونُ الانْتِقالُ رَغْبَةً عَنِ الأَوَّلِ، إِمَّا غَلِطَ القائلُ فَاسْتَثْبَتَ وَتَرَكَ الأَوَّلَ، وَإِمَّا نَسِيَ فَذَكَرَ. وَقَدْ يَكونُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرٍ انْتَقَلَ إْلَى آخَرَ عَلَى أَنَّ الأَوَّلَ مُصَحَّحٌ مَفْروغٌ مِنْهُ، وَالَّذي يَأْتي مِنْ عِنْدِ اللهِ لَا يَكونُ إِلَّا الانْتَقالُ مِنْ خَبَرٍ إَلَى خَبَرٍ، وكِلاهُمَا مُحْكَمٌ). انْظُرْ: "حُروفُ المَعَاني وَالصِّفَات" للزَّجَّاجِيِّ: (ص: 29)، و "الأُزْهِيَةُ فِي عِلْمِ الحُروفِ" للهَرَوِيِّ: (ص: 229 ـ 230)، و "رَصْفُ المَبَاني فِي شَرْحِ حُرُوفِ المَعاني" للمَالِقِيِّ: (ص230)، و "مُغْنِي اللَّبِيبِ" لِابْنِ هِشَامٍ: (1/ 130 ـ 131).
قولُهُ: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} وَيَقُولُونَ إِنَّهُ شِعْرٌ تَارَةً أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ" كُلُّ هَذَا قَدْ كَانَ مِنْهُ.
ثُمَّ انْتَقَلُوا فَقَالُوا هُوَ شاعِرٌ أَيْ كَلَامُهُ شِعْرٌ، فَحَرْفُ (بَلْ) الثَّالِثَةِ إِضْرَابٌ مِنْهُمْ عَنْ كَلَامِهِمْ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِاضْطِرَابِهِمْ وَهَذَا الِاضْطِرَابٌ ناشِئٌ عَنْ تَرَدُّدِهِمْ مِمَّا يَنْتَحِلُونَهُ مِنَ الِاعْتِلَالِ عَنِ الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ شَأْنُ الْمُبْطِلِ الْمُبَاهِتِ أَنْ يَتَرَدَّدَ فِي حُجَّتِهِ كَمَا قِيلَ: الْبَاطِلُ لَجْلَجٌ، أَيْ مُلْتَبِسٌ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "بَلْ" الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ مِثْلَ "بَلْ" الْأُولَى لِلِانْتِقَالِ فِي حِكَايَةِ أَقْوَالِهِمْ. وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ قَالُوا افْتَرَاهُ بَلْ قَالُوا هُوَ شَاعِرٌ، وَحُذِفَ فِعْلُ الْقَوْلِ لِدَلَالَةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِمَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْكِيُّ كَلَامَ جَمَاعَاتٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَحَلَتْ كُلُّ جَمَاعَةٍ اعْتِلَالًا.
قولُهُ: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} دَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ عَلَى فِعْلِ الْغَائِبِ لِمَعْنَى إِبْلَاغِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ، أَيْ فَقُولُوا لَهُ: ائْتِنَا بِآيَةٍ، وَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ من ضمير فَلْيَأْتِنا أَيْ حَالَةُ كَوْنِ هَذَا الْبَشَرِ حِينَ يَأْتِي بِالْآيَةِ يُشْبِهُ رِسَالَتَهُ رِسَالَةَ الْأَوَّلِينَ، وَالْمُشَبَّهُ ذَاتٌ وَالْمُشَبَّهُ بِهِ مَعْنَى الرِّسَالَةِ وَذَلِكَ وَاسِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ الشاعِر الجاهليًّ النَّابِغَةُ الذُّبيانيُّ:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ...... عَلَى وَعِلٍ مِنْ ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ: وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزيدُ مَخَافتي عَلَى مَخَافَةِ وَعِلٍ. فَإِنُ مَعَنَى هَذِهِ الجملةِ مِنَ الآيَةِ الكَريمَةِ: أَوْ حَالَةِ كَوْنِ الْآيَةِ كَمَا أُرْسِلَ بهِ الْأَوَّلُونَ مِنَ المُرْسَلِينَ.
لقَدْ حَاوَلُوا التَخَلُّصَ مِمَّا أَوْقَعُوا أنفُسَهُمْ فِيهِ مِنْ حَرَجٍ بِأَنْ طَلَبُوا بَدَلَ القُرْآنِ المُعْجِزةِ خَارِقَةً أُخْرَى مِنَ مِثْلِ الخَوَارِقِ التِي جَاءَ بِهَا الأَنْبِياءُ الأَوَّلُونَ ـ عَليْهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ: كَالنَاقَةِ لِصَالِحٍ، وَالعَصَا لِمُوسَى، وَإِحْياءِ المَوْتَى لِعِيسَى ـ عليهِمُ السَلامُ، مُعْجِزَةً كَتِلْكَ الَّتِي أَثْبِتَتْ النُبُوَّةَ للأَنْبِيَاءِ السابقينَ، بحيثُ لاَ تَتْرُكُ مَجَالًا لأَحَدٍ أَنْ يُنَازِعَ ويجادلَ فِيها، وكَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الرَسُولَ إِذَا جَاءَهُم بِمُعْجِزَةٍ خَارِقَةٍ آمَنُوا بِهِ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "فَلْيَأْتِنا بِآيَة كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} كَمَا جَاءَ مُوسَى وَعِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ وَالرُّسُلُ.
كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللهُ عَنْهُمْ صَدَرَتْ مِنْ طَائِفَةٍ مُتَّفِقَةٍ لَا يَثْبُتُونَ عَلَى قَوْلٍ، بَلْ تَارَةً يَقُولُونَ هُوَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً شَاعِرٌ، وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لَا يَثْبُتُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ. وَقَدْ رَدَّ اللهُ تَعَالى عَلَى كُلٍّ الْأَقْوَالِ والدَّعَاوَى الْبَاطِلَةِ فِي كِتَابِهِ العزيزِ، فَقَالَ مِنْ سورةِ يونُسَ: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآيتان: (37 ـ 38)، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآيةَ: 13، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ يوسُف: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الآيةَ: 111، وذلكَ فِي رَدِّ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ افْتَرَاهُ. وَقَالَ مِنْ سُورةِ الواقعةِ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} الآيةَ: (36)، وَقالَ مِنْ سُورةِ الحاقَّةِ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} الآياتِ: (41 ـ 47)، وَذَلِكَ رَدًّا على دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ. وَرَدَّ عَنْ نَبِيَّهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ تُهْمةَ الجنونِ فَقالَ مِنْ سُورَةِ المُؤمنونِ: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} الآيةَ: 70، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ سَبَأ: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} الآيةَ: 46، وَقالَ منْ سُورَةِ التَكْوير: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} الآيةَ: 22، وَقَالَ فِي رَدِّ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ: {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} الآيةَ: 29، مِنْ سورةِ الطُّور. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ إِبْطَالَ كُلِّ مَا ادَّعَوْهُ فِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفي الْقُرْآنِ الذي أُنْزِلَ عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ قَالُوا} بَلْ: حَرْفُ إِضْرابٍ وَانْتِقَالٍ، وَلَيْسَتْ للإِضْرابِ والإِبْطالِ. وَ "قَالُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ والألِفُ فارقةٌ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنْ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ} أَضْغَاثُ: خَبَرٌ لِمْبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَّقْديرُ: مَا أَتَى بِهِ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ، وهوَ مُضافٌ، و "أَحْلَامٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقَولُ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {بَلِ افْتَرَاهُ} بَلْ: حَرْفٌ للإِضْرابِ كَسَابِقَتِهَا. وَ "افْتَرَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى الفتْحِ المُقدَّرِ على آخرِهِ منعَ مِنْ ظهورِهِ التَّعَذُّرُ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْب مفعولٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قَالُوا".
قَوْلُهُ: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} بَلْ: حَرْفُ إِضْرَابِ كما تقدَّمَ. و "هُوَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، و "شَاعِرٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالُوا" أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ} الفاءُ: هيَ الفَصِيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِنْ لَمْ يَكُنِ الأَمْرُ كَمَا قُلْنَا، بَلْ كَانَ رَسُولًا، وَأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فَأَقُولُ لَكُمْ: "لِيَأْتِنَا بِآيَةٍ"، وَاللَّامُ: لَامُ الأَمْرِ. و "يَأْتِنَا" فِعْلُ أَمْرٍ مَجْزُومٌ بِلامِ الأَمْرِ، وعلامةُ َزْمِهِ حَذْفُ حرفِ العلَّةِ مِن آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و "نا" ضميرُ جَماعَةِ المُتَكَلِّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. و "بِآيَةٍ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَأْتِنَا"، و "آيَةٍ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ لِـ "قَالُوا".
قوْلُهُ: {كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَشْبِيهٍ، وَيَجُوزُ فيها أَنْ تَكونَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِـ "آيَةٍ" أَيْ: بِآيَةٍ مِثْلِ آيَةِ إِرْسَالِ الأَوَّلِينَ، وعَلَيْهِ فَـ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ. أَوْ تَكونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ والتَّقديرُ: إِتْيانًا مِثْلَ إِرْسالِ الأَوَّلِينَ. وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِالكافِ، والجَارُّ والمَجْرُورُ صِفَةٌ لِـ "آيَةٍ"؛ والتَقديرُ: بِآيَةٍ كَائنَةٍ كَالآيَةِ الَّتي أُرْسِلَ بِهَا الأَوَّلونَ، أَوْ الكافُ: اسْمٌ بِمَعْنَى "مِثْل"، فِي مَحَلِّ الجَرِّ، صِفَةً لِـ "آيَةٍ"، وهيَ مُضافٌ، وَ "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ، فِي مَحَلِّ الجَرِّ، بالإِضافَةِ إِلَيْهِ؛ والتقديرُ: بِآيَةٍ مِثْل الآيَةِ الَّتي أُرْسِلَ بِهَا الأَوَّلونَ. و "أُرْسِلَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ، و "الْأَوَّلُونَ" نائِبٌ عَنْ فاعِلِهِ مَرْفوعٌ بِهِ وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالِمِ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ فِي الاسْمِ المُفْرَدِ، وَالجُمْلَةُ صِلَّةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، والعائدُ مَحْذُوفٌ، والتَّقْديرُ: أُرْسِلَ بِهَا الأَوَّلُونَ.