لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ
(13)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {لَا تَرْكُضُوا} أَي: لا تَفِرُّوا مِنْ قَدَركُم، ولا تَهْرُبوا مِنْ عُقوبَتِكمْ وعَذابكمْ، وانْتِقامِ اللهِ مِنْكُمْ، الذي طالَمَا حَذَّرَكُمْ مِنْهُ نَبِيُّكُمْ، فهوَ لا مَحَالَةَ مُدْركُكُم، ونازلٌ بِسَاحَتِكُمْ، فَإِنَّهُ لَا مَفَرَّ لكمْ مِنْهُ.
فقدَ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والطَّبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "لَا تَرْكُضُوا" قَالَ: لَا تَفِرُّوا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم عَنِ الرَّبيعِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانُوا إِذَا أَحَسُّوا بِالْعَذَابِ، وَذَهَبَتْ عَنْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَعْدِ مَا أَنْذَرُوهُمْ، فَكَذَّبُوهُمْ، فَلَمَّا فَقَدُوا الرُّسُلَ، وأَحَسُّوا بِالْعَذَابِ، أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى الْإِيمَانِ، وَرَكَضُوا هَارِبِينَ مِنَ الْعَذَابِ، فَقِيلَ لَهُمْ: "لَا تَرْكُضُوا". فَعَرَفُوا أَنَّهُ لَا مَحيصَ لَهُمْ.
وَأَخْرَجَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، في قَوْلِهِ: "لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ"، قالَ: يَعْني مَنْ نَزَلَ بِهِ العَذَابُ في الدُّنْيا مِمَّنْ كانَ يِعْصِي اللهَ ـ تَعَالَى، مِنَ الأُمَمِ.
فَيَجوزُ أَنْ يَكونَ قِيلَ لَهُمْ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ مَلَكٍ كريمٍ مِنَ المَلائِكَةِ المُكَرَّمينَ بِأَمَرٍ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، أَوْ هوَ قوْلُ أَحَدِ المُؤْمِنِينَ باللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ، وَتَوْبِيخًا لَّهُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ القَوْلُ بِلِسَانِ الحَالِ، أَوْ أَنَّهُ قُذِفَ ذَلِكَ في رَوْعِهم.
قولُهُ: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أَيْ: عُودوا إِلى ما كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ عَيْشٍ مُتْرَفٍ مُنَعَّمٍ مَلِئٍ بالخَيْراتِ والمَلَذَّاتِ، والأَطَايِبِ والشَّهَواتِ الَّتي أَسْكَرتْكُمْ، فَبِهَا فُتِنْتُمْ، وإِلَيْها سَعَيتُمْ، وَعَلَى اقْتِنَاصِهَا حَرَصْتُمْ، وَبِهَا لَهوْتُمْ وَبَطِرْتُمْ، فَشَغَلَتْكُمْ عَمَّا فيهِ صَلاحُ أَمْرِكمْ في دُنْياكم وآخِرتِكم، وَأَنْسَتْكمْ ذِكْرَ مَوْلاكُمْ ومَلِيكِكُم.
وَالْإِتْرَافُ: إِعْطَاءُ التَّرَفِ، وَهُوَ النَّعِيمُ وَرَفَهُ الْعَيْشِ، مِنَ التَّرَفِ الذي هُوَ التَّنَعُّمُ، والتُّرْفةُ: النَّعْمةُ وَسَعَةُ العَيْشِ، والتَّتْريفُ حُسْنُ الغِذاءِ، وَالمُتْرَفُ: مُنَعَّمَ البَدَنِ المُدَلَّلُ الذي أَبْطَرَتْهُ النِّعْمَةُ ـ أَيْ أَطْغَتْهُ. وَالمُتْرَفُ المُتَنَعِّمُ المُتَوَسِّعُ في مَلاذِّ الدُّنْيا وشَهَواتِها وَفِي الحَديثِ أَنَّ إِبْراهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فُرَّ بِهِ مِنْ جَبَّارٍ مُتْرَفٍ. فقدْ أَخرجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، والطَّبريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللهِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فُرَّ بِهِ مِنْ جَبَّارٍ مُتْرَفٍ، فَجُعِلَ فِي سَرَبٍ، وَجُعِلَ رِزْقُهُ فِي أَطْرَافِهِ، فَجَعَلَ لَا يَمَصُّ أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ إِلَّا وَجَدَ فِيهَا رِزْقًا، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ السَّرَبِ أَرَاهُ اللهُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ، فَأَرَاهُ شَمْسًا وَقَمَرًا وَنُجُومًا وَسَحَابًا وَخَلْقًا عَظِيمًا، وَأَرَاهُ مَلَكُوتَ الْأَرْضِ، فَأَرَاهُ جِبَالًا وَبُحُورًا وَأَنْهَارًا وَشَجَرًا وَمِنْ كُلِّ الدَّوَابِّ، وَخَلْقًا عَظِيمًا". وَالتُّرْفَةُ: الطعامُ الطَّيِّبُ. فَمَعْنَى "وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومَساكِنِكُمْ" الآيَةَ. أَيِ ارْجِعُوا إِلَى مَا أُعْطِيتُمْوهُ مِنَ الرَّفَاهِيَةِ، وَإِلَى مَسَاكِنِكُمْ.
قوْلُهُ: {وَمَسَاكِنِكُمْ} وَارْجِعُوا أَيْضًا إِلَى مَساكِنِكُمْ الفارهَةِ الَّتي بِعَرَقِكُمْ قَدْ بَنَيْتُمُوها، وَقُصُورِكُمْ الَّتي بِجِدِّكمْ وجُهْدِكُم كُنْتُمْ شَيَّدْتُموها، وبالحَريرِ والدِّيباجِ كَسَوتُموها، وبالرِّياشِ فَرَشْتُمُوهَا، وبالنَّفَائسِ وَالنَّفِيسِ زيَّنتموها، فكيفَ تَرَكْتُموهَا، وأَنْتُمْ بِهَا مُسْتَمْتِعُونَ مُنَعَّمونَ، فَلَطَالَمَا كُنتمْ بِهَا تتفاخَرونَ، فأَينَ تَذْهبونَ؟.
وأَخْرجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، والطَّبريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ: فِي قَوْلِهِ: "وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ" يَقُولُ: ارْجِعُوا إِلَى دُنْيَاكُمُ الَّتي أُتْرِفْتُمْ فِيهَا. وَأَخْرجَ الطَبريُّ أَيْضًا فِي رَوَايةٍ أُخْرَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ مِنْ دُنْيَاكُمْ.
قوْلُهُ: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} اخْتَلَفَ العلماءُ أَهْلُ التَّأْويلِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الجُمْلةِ، فَقَالَ البَعْضُ مِنْهم مَعْنَاهُ: لَعَلَّكُمْ تَفْقَهُونَ بِالْمَسْأَلَةِ وَتَفْهَمُونَها. فقَدْ أَخْرَجَ الطَبَرِيُّ عَنِ ابْنِ أَبي نَجيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قَوْلِهِ: "لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ" أَنَّهُ قَالَ: تَفْقَهُونُ.
وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، أَيْضًا عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ مِثَلَ قولِهُ الأَوَّلِ.
وَقالَ آخَرُونَ: بَلِ المَعْنَى: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ مِنْ دُنْيَاكُمْ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ وَالاسْتِهْزَاءِ. فقَدْ أَخْرَجَ الطَبَرِيُّ أَيضًا عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ: "لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ" اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ. وأَخْرجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، والطَّبريُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ: فِي قَوْله: "لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ": مِنْ دُنْيَاكُمْ شَيْئًا، اسْتِهْزَاءً بِهِمْ.
قولُهُ تَعَالى: {لَا تَرْكُضُوا} لا: ناهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَرْكُضُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَّاهِيَةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذِفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفْعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ، والتَّقْديرُ: وَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَرْكُضُوا، وُجُمْلَةُ القَوْلِ المَحْذوفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "ارْجِعُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فَارِقَةٌ. وَ "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ارْجِعُوا"، و "مَا" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَوْلِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "لَا تَرْكُضُوا".
قولُهُ: {أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} أَتْرِفْتُمْ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ نائِبًا عَنْ فاعِلِهِ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. و "فِيهِ" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُتْرِفْتُمْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "وَمَسَاكِنِكُمْ" الواوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، وَ "مَسَاكِنِكُمْ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَا"، مَجْرُورٌ مثلُهُ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ، لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ، أَوْ هي صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجَرِّ إِنْ أُعْرِبتْ "ما" نَكِرَةً مَوصوفةً، وَالعائِدُ، أَوِ الرَّابِطُ هو الضَّميرُ في "فيهِ".
قولُهُ: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} لَعَلَّ: خرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذكَّر. و "تُسْأَلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مبنيٌّ للمهولِ، مرفوعٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنِّيابَةِ عنْ فاعِلِهِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لَعَلَّ"، وُجُمْلَةُ "لَعَلَّ" مُسْتَأْنَفةٌ اسْتِئنافًا بيانِيًا مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.