الموسوعةُ القرآنيةُ (فيضُ العليم مِن معاني الذكْر الحكيم) سورةُ (الأنبياء) الآية: 77
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ
(77)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} قدْ يكونُ النَّصْرُ بالمَنْعِ مِنْ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِ أَيْدِي خُصومِهِ الكافرينَ مِنْ قومِهِ، فَتَطَالهُ بِأَذًى، أَيْ: مَنَعْنَاهُ مِنْ أَنْ يَقْتُلَهُ قَوْمُهُ وَيُهْلِكُوهُ، فَالنَّصْرُ: هوَ المَنْعُ أي: مَنَعْنَاهُ وَعَصَمْنَاهُ، وَمِثْلُهُ قولُهُ تعالى في الآيَةِ: 29، مِنْ سُورةِ غَافر: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جَاءَنَا}، فَلَمَّا ضُمِّنَ مَعْنَاهُ تَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُم} الآيَةَ: 13، أَيْ: لَا مَانِعَ لَهُمْ. ويجوزُ أَنَّ "نَصَرَ" هنا مُطاوِعُهُ "انْتَصَرَ"، فَتَعَدَّى تَعْدِيَةَ مَا طَاوَعَهُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهُوَ "نَصَرَ" الذي مُطاوِعُهُ "انْتَصَرَ". وَسَمِعْتُ هُذَلِيًّا يَدْعُو عَلَى سَارِقٍ: "اللَّهُمَّ انْصُرْهُمْ مِنْهُ، أَيْ: اجْعَلْهُمْ مُنْتَصِرينَ مِنْهُ". وَلَمْ يَظْهَرُ فَرْقٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى التَّضْمِينِ المَذْكُورِ؛ فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "مُنْتَصِرينَ مِنْهُ" أَيْ: مُمْتَنِعِينَ، أَوْ مَعْصُوْمينَ مِنْهُ. ويجوزُ أَنَّ "مِنْ" هنا بِمَعْنَى "عَلى" أَيْ: عَلَى القَوْمِ. فَقدْ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ عَلَى الْقَوْمِ، فـ "مِنَ" هُنَا بِمَعْنَى "عَلَى". وَهِيَ قِراءَةُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَدْ قَرَأَ: (وَنَصَرْنَاهُ عَلَى القَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، وَالمَعْنَى أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ قدْ أَظْفَرَهُ بِهِمْ. وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آل عِمْران: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} الآيةَ: 126، وَقَدْ كَانَ لِنبيِّ اللهِ نوحٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، الأَمْرَانِ جَمِيعًا: المَنْعُ، والظَّفَرُ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في تفسيرِ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا مِنْ صِفَاتِهِمُ الشائنةِ، وَنُفُسِهِمُ الخَبيثَةِ، وَأَعْمَالِهِمُ المُخزيةِ، والتي كانَ أَشْنَعَها إِتْيَانِهِمُ الذُّكْرانَ مِنَ العَالَمِينَ.
قولُهُ: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أَيِ: الصَّغِيرَ مِنْهُمْ وَالْكَبِيرَ، حَتَّى أَنَّهُ لَمْ يَنْجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَبدًا.
وَقدْ تَرَكتْ قِصَّةُ غَرَقِ قَوْمِ نُوْحٍ وَغَرقِ أَهْلِ سَبَأِ بِانْهَيارِ سَدِّ مَأْرِبَ، في نُفُوسِ عَرَبِ الجَزيرَةِ العَرَبِيَّةٍ، خشيَةً وَرَهْبَةً مِنَ المَاءِ، فَصَارُوا يَبْتَعِدُونَ عنهُ، وإذا اضْطُرُوا إلى التعاملِ مَعَهُ كانوا على حَذَرٍ شَديدٍ مِنْهُ، وقد توسَّعنا في هَذا الموضوعِ في كِتَابِنَا (البَحْرُ في الأَدَبِ العَرَبي)، عِنْدَمَا تَحَدَّثْنا عَنْ كيفيَّةِ تعامُلِ العَرَبِ في العَصْرِ الجاهليِّ، وصَدَى ذَلِكَ في أَدَبِهِمْ وأَشعارهِمْ، لِمَنْ أَرَادَ المَزيدَ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ} الواوُ: حَرْفٌ للعَطْفِ، و "نَصَرْناهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعظِمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، وَ "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ. "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "نَصَرْنا" وَقَدْ عُدِّيَ "نَصَر" بِـ "مِنْ" لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْمَنْعِ وَالْحِمَايَةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ: {إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ} الآيةَ: 65، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِـ "عَلَى" لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى نَصْرٍ قَوِيٍّ تَحْصُلُ بِهِ الْمَنَعَةُ وَالْحِمَايَةُ فَلَا يَنَالُهُ الْعَدُوُّ بِشَيْءٍ. وَأَمَّا نَصْرُهُ عَلَيْهِ فَلَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْمُدَافَعَةِ وَالْمَعُونَةِ. وَ "القومِ" مجرورٌ بِحَرفِ الجَرِّ. و "الَّذينَ" اسمٌ موْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ صِفَةً لـ "القومِ". والجُملةُ الفعليَةُ هَذِهِ مَعْطوفةٌ على جُمْلَةِ قولِهِ {اسْتَجَبْنَا} مِنَ الآيةِ الَّتي قَبلَهَا، عَلَى كَوْنِها في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ.
قوْلُهُ: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} كَذَّبُوا: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وَوَاوُ الجَماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالأَلِفُ للتَّفْريقِ. وَ "بِآيَاتِنَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "كَذَّبُوا". و "آيَاتِنَا" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ التَّعظيمِ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. والجُملةُ صلةِ الاسْمِ المَوصولُ "الذينَ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ} إنَّهم: "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكِيدِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ، اسمُهُ، والميمُ: علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. وَ "كانوا": فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسمُها، والألِفُ للتَّفريقِ. و "قومَ" خَبَرُها مَنْصُوبٌ بِهَا، مُضافٌ، وَ "سَوْءٍ" مَجْرُورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ "إِنَّ" في مَحَلِّ الرَّفعِ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإِعرابِ.
قولُهُ: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} الفاءُ: حرفٌ للعَطْفِ، وَ "أَغْرَقْنَاهُمْ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهَ، و "نا" التعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ النَّصْبِ على المَفعولِيَّةِ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "أَجْمَعينَ" مَنْصوبٌ على الحالِ مِنْ ضميرِ المفعولِ بِهِ أَوْ تَأْكيدٌ لَهُ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، لكونِها مَعْطُوفةً عَلَى جُمْلَةِ "كانوا" على كونِها صلةَ الاسْمِ المَوْصولِ.
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا}، وَقَرَأَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (وَنَصَرْنَاهُ عَلَى القَوْمِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، وقدْ تقدَّمَ توجِيهُ القراءَتَيْنِ في مَبْحَثِ التَّفْسِيرِ.