وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ
(29)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} الضَّمِيرُ هنا يَعُودُ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْذينَ هُمْ عِبَادُ اللهِ المُكَرَّمُونَ، المَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى مِنَ الآيةِ: 26، السَّابقةِ: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}. وَالْمَعْنَى أَنَّهَ لَوِ ادَّعى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ إِلَهٌ مَعَ اللهِ، أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، أَوْ ادَّعى التَصَرُّفَ في أَيَّ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الرُّبوبِيَّةِ، أَوْ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بأَيٍّ مِنْ صِفَاتِ الأُلوهِيَّةِ، لَكَانَ جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ، بِرَغْمِ كَرَامَتِهِ عَلَى اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ" الْآيَةَ، قَالَ: إِنَّمَا كَانَت هَذِه خَاصَّةً لِإِبْلِيسَ. وَأَخرج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاك ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ" يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَة "إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ" قَالَ: وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، إِلَّا إِبْلِيسَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ وَشَرَّعَ الْكُفْرَ. وَنَسَبَ بعضُهُم مِثْلَ ذَلِكَ القَوْلِ إِلَى السُّدِّيِّ والكَلبيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: وَهَذَا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ مِنَ المَلائِكَةِ، فإِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ ذَلِكَ لِلْمَلائِكَةِ الذينَ هَبَطُوا مَعَهُ إِلَى الأَرْضِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ المَلائِكَةِ، قَالَ: هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّهْديدِ، وَمَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ المَلائِكَةِ ذَلِكَ.
وَقَدْ ضَعَّفَ ابْنُ عَطِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، هَذا القولَ، قالَ فِي تَفْسيرِهِ الوَجِيزِ: لِأَنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَرِدْ قَطُّ أَنَّهُ ادَّعَى رُبُوبِيَّةً. "المُحَرَّرُ الوَجِيزُ فِي تَفْسِيرِ الكِتَابِ العَزيزِ" لَهُ[size=37]:[/size] (10/140).
والأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ السِّيَاقَ فِي المَلائِكَةِ، والمَعْنَى عَلَى سَبِيلِ الفَرَضِ: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَلكنْ يَسْتَحِيلُ في حَقِّ المَلائكةِ الكِرامِ قَوْلُهُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أَيْ فَذَلِكَ القائلُ المفترضُ مِنَ الملائكةِ المُكَرَّمينَ "نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ". قالَ القُرطُبيُّ: وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ وَإِنْ أُكْرِمُوا بِالْعِصْمَةِ فَهُمْ مُتَعَبِّدُونَ، وَلَيْسُوا مُضْطَرِّينَ إِلَى الْعِبَادَةِ كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما، بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هُوَ أَفْضَلُ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ.
قوْلُهُ: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أَيْ كَمَا جَزَيْنَا هَذَا بِالنَّارِ فَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الْوَاضِعِينَ الْأُلُوهِيَّةَ وَالْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِمَا. وَقدْ تقدَّمَ غيرَ مَرَّةٍ أَنَّ الظُّلمَ هُوَ الشِّرْكُ بلْهُ أَعظَمُ الظُّلمِ لقولِهِ تَعَالَى حاكيًا وصِيَّةَ لُقْمَانَ، لِابْنِهِ: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} الآيةَ: 13، مِنْ سورةِ لُقْمَانَ.
وهَذِهِ الآيةُ الكريمةُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ اللهِ ـ تعالى، الْخَالِصَةَ لِعَظَمتِهِ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنْهَا لِأَحَدٍ غيرِهِ، وَلَوْ مَلِكًا مُقَرَّبًا، أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ آلِ عُمرانَ مُخَاطِبًا سَيِّدَ الْخَلْقِ ـ صَلَوَاتُ ربِّي عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} الآيةَ: 64. ثمَّ قولُهُ بعدَها في السُّورَةِ ذاتِها: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} الآيتانِ: (79 و 80).
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ. و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازِمٍ، مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ أَوْ هُمَا معًا. و "يَقُلْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتٍرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ" الشَّرطيَّةِ. و "مِنْهُمْ" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ فاعِلِ يَقُلْ.
قولُهُ: {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} إِنِّي: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، للتَّوكيدِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ". و "إِلَهٌ" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ بِها. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "إِلَهٌ"، أَوْ يِتَعَلَّقُ بِـ "إِلَهٌ" لِأَنَّهُ بِمَعْنَى مَعْبُودٍ، و "دُونِهِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" هَذِهِ مِنِ اسْمِها وخبرِها في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "يَقُلْ".
قوْلُهُ: {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ شَرطِ "مَنْ" وُجُوبًا، وَ "ذَلِكَ" ذَا: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالابْتِدَاءِ. وَيجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ النَّصْبِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ هَذَا الظَّاهِرُ. وَالمَسْأَلَةُ مِنْ بِابِ الاشْتِغَالِ. وَفِي هَذَا الوَجْهِ إِضْمَارُ عَامِلٍ مَعَ الاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، فَهُوَ مَرْجُوحٌ والأَوَّلُ أَحْسَنُ، وَالفَاءُ وَمَا فِي حَيِّزِهَا فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ عَلَى كونِها جَوَابًا للشَّرْطِ. وَ "نَجْزِيهِ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (نَحنُ) يعودُ عَلَى الذَّاتِ المُقدَّسَةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ أَوَّلُ. وَ "جَهَنَّمَ" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِاسْمِ الإشارةِ "ذلك"، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ جَوَابًا لِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ. وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، أَوْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {يَعْلَمُ} عَلَى كَوْنِهَا صِفَةً سَابِعَةً.
قوْلُهُ: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} كَذَلِكَ: الكافُ حَرْفُ جَرٍّ للتَّشْبيهِ، وَ "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ المَصْدَرِ، أَيْ: جَزَاءً مِثْلَ ذَلِكَ الجَزَاءِ، أَوْ نَجْزِي الجَزَاءَ حَالَ كَوْنِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ الثانيَةُ، للخِطابِ. وَ "نَجْزِي" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلَى الياءِ. وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ "نَحْنُ" يَعُودُ عَلى الذَّاتِ المُقدَّسَةِ. وَ "الظَّالِمِينَ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لِأَنُّهُ جَمْعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوِينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. والجُمْلةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {نَجْزِي} بِفَتْحِ النُّونِ. وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلمِيُّ المُقْرِئُ بِضَمِّها.