لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} بُرْهانٌ عَقْلِيٌّ عَلَى اسْتِحالةِ تَعَدُّدِ الآلِهَةِ، لاسْتِحَالَةِ التَّوَافُقِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا أَنْ يَتَنَازَلَ أَحَدُهُما للآخَرِ، وَلَا يَكُونُ التَنَازُلُ إِلَّا بِسَبَبِ الضَّعْفِ والقُصُورِ، ومَنْ كانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَيْسَ بإِلَهٍ، فَكُلُّ أَمْرٍ، أَوْ حُكْمٍ، صَدَرَ عَنِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لَمْ يَسْلَمْ مِنْ خِلافٍ. وَهَذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المُؤْمِنُونَ: {مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ} الْآيَةَ: 91، وَهَذِهِ هِيَ عَادَةُ مُلُوكُ الأَرْضِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "لَو كَانَ فيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ" قَالَ: لَو كَانَ مَعَهُمَا آلِهَة إِلَّا اللهُ "لَفَسَدَتَا".
وَفي هَذَا اسْتِدْلَالٌ عَلَى بُطْلَانِ عَقِيدَةِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ زَعَمُوا أَنَّ اللهَ جَعَلَ آلِهَةً شُرَكَاءَ لَهُ فِي تَدْبِيرِ الْخَلْقِ، أَيْ أَنَّهُ بَعْدَ أَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَقَامَ فِي الْأَرْضِ شُرَكَاءَ لَهُ، وَلِذَلِكَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي التَّلْبِيَةِ فِي الْحَجِّ: "لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ"، وَذَلِكَ مِنَ الضَّلَالِ الْمُضْطَرِبِ الَّذِي وَضعه لَهُم أَئِمَّةُ الْكُفْرِ بِجَهْلِهِمْ وَتَرْوِيجِ ضَلَالِهِمْ عَلَى عُقُولِ الدَّهْمَاءِ.
وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ اسْتِدْلَالٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وُجُودِ آلِهَةٍ غَيْرَ اللَّهِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَكُونُوا يُنْكِرُونَ أَن الله هُوَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ الزُّمَرِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} الآية: 38، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} الآيَة: 9.
إِذًا فَالآيَةُ مُسُوقَةٌ لِإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ لَا لِإِثْبَاتِ وُجُودِ الصَّانِعِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، وَلَا لِإِثْبَاتِ انْفِرَادِهِ بِالْخَلْقِ إِذْ لَا نِزَاعَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهَا مُنْتَظِمَةٌ عَلَى مَا يُنَاسِبُ اعْتِقَادَهُمُ الْبَاطِلَ لِكَشْفِ خَطَئِهِمْ وَإِعْلَانِ بَاطِلِهِمْ.
فَـ "إِلَّا" هَهُنَا صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا بِمَعْنَى "غَيْر"، أَيْ كَالَّتي في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ هُودٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} الآيةَ: 36، أَيْ لَنْ يُؤْمِنَ غَيْرُ مَنْ قدْ آمَنَ، فَيَكونُ مَعْنَى الآيةِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غَيْرُ اللهِ لَفَسَدَتَا، فَامْتَنَعَ أَنْ يُوجَدَ فِيهِمَا شَريكٌ للهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. والإِعْرابُ فِيها مُتَعَذَّرٌ، فَجُعِلَ عَلَى مَا بَعْدَهَا.
وللوَصْفِ بِهَا شُرُوطٌ مِنْهَا: تَنْكيرُ المَوْصُوفِ، أَوْ قُرْبُهُ مِنَ النَّكِرَةِ بِأَنْ يَكُونَ مُعَرَّفًا بـ "أَلْ" التي للجِنْس. وَمِنْها أَنْ يَكونَ جَمْعًا صَريحًا كما في الآيَةِ هُنَا، أَوْ مَا في قُوَّةِ الجَمْعِ كَما هوَ في قَوْلِ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ:
لَوْ كانَ غَيْرِي ـ سُلَيْمَى، اليَوْمَ غَيَّرَهُ ..... وَقْعُ الحَوَادِثِ إِلَّا الصَارِمُ الذَّكَرُ
فَقولُهُ: إِلَّا الصَّارِمُ" صِفَةٌ لِـ "غَيْرِي" لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الجَمْعِ. وَمِنْها أَنْ لا يُحْذَفَ مَوْصُوفُها بِعَكْسِ "غَيْر". وَقَدْ أَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزّبيدي ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أخُوه ......................... لَعَمْرُ أبيكَ إلاَّ الفرقدانِ
أَيْ: وكلُّ أَخٍ غَيْرُ الفَرْقَدَيْنِ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ. وَقَدْ وَقَعَ الوَصْفُ بـ "إِلَّا" كَمَا وَقَعَ الاسْتِثْنَاءُ بـ "غير"، وَالأَصْلُ فِي "إِلَّا" الاسْتِثْناءُ، وَفِي "غير" الصِّفَةُ. وَقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: واعْلَمْ أَنَّ "إِلَّا" و "غَيْر" يَتَقَارضانِ.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ اسْمُ الجَلالَةِ عَلى البَدَلِ مِنْ "آلِهَة" لِفَسَادِ المَعْنَى. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الرَّفْعِ عَلَى البَدَلِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ "لَوْ" بِمَنْزِلَةِ "إِنْ" فِي أَنَّ الكَلامَ مَعَهَا مُوجَبٌ، وَالبَدَلُ لَا يُسُوَّغُ إِلَّا في الكلامِ غَيْرِ المُوجَبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ هُودٍ: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ} الآيةَ: 81، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَعَمَّ العَامِّ يَصِحُّ نَفْيُهُ وَلَا يَصِحُّ إيجابُهُ. إِذًا فَقَدْ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ المَانِعَ صِنَاعِيًّا مُسْتَنِدًا إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ إِيجابِ أَعَمِّ العَامِّ. وَالأَحْسَنُ مِنْ هَذَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو البَقاءِ العُكْبُريُّ مِنْ جِهَةِ المَعْنَى فَقَالَ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، لِأَنَّ المَعْنَى يَصِيرُ إِلَى قَوْلِكَ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا اللهُ لَفَسَدَتا، أَلَّا تَرَى أَنَّكَ لَوْ قُلْتَ: مَا جاءَني قَوْمُكَ إِلَّا زَيْدٌ، أَيْ عَلَى البَدَلِ لَكَانَ المَعْنَى: جَاءَني زَيْدٌ وَحْدَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الوَجْهَ الذي رَدَّ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَقِيلَ: يَمْتَنِعُ البَدَلُ لِأَنَّ قَبْلَهَا إِيجابًا. وَقَدْ مَنَعَ أَبُو البَقَاءِ النَّصْبَ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ فَاسِدٌ فِي المَعْنَى، وَذَلِكَ أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: لَوْ جَاءَني القَوْمُ إِلَّا زَيْدًا لَقَتَلْتُهُمِ. فيكونُ مَعْنَاهُ: أَنَّ القَتْلَ امْتَنَعَ لِكَوْنِ زَيْدٍ مَعَ القَوْمِ. فَلَوْ نُصِبَتْ فِي الآيَةِ لَكَانَ المَعْنَى: إِنَّ فَسَادَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ امْتَنَعَ لِوُجُودِ اللهِ تَعَالَى مَعَ الآلِهَةِ. وَفي ذَلِكَ إِثْبَاتُ وُجُودِ إِلَهٍ مَعَ اللهِ. وَإِذا رُفِعَتْ عَلَى الوَصْفِ لَا يَلْزَمُ مِثْلُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ المَعْنَى: لَوْ كَانَ فِيهِمَا غَيْرُ اللهِ لَفَسَدَتَا. ثُمَّ إِنَّ "آلِهَة" هُنَا نَكِرَةٌ، وَالجَمْعُ إِذَا كانَ نَكِرَةً لَمْ يُسْتَثْنَ مِنْهُ عِنْد جَمَاعَةٍ مِنَ المُحَقِّقينَ؛ إِذْ لَا عُمُومَ لَهُ بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِيْهِ المُسْتَثْنَى لَوْلا الاسْتِثْناءُ.
وهذا الوجهُ الذي عَناهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالعُكْبُريُّ أَبو البَقاءِ، وأَجَازَهُ أَبُو العَبَّاسِ المُبَرِّدُ وَغَيْرُهُ، أَمَّا المُبَرِّدُ فإِنَّهُ قالَ: جَازَ البَدَلُ لِأَنَّ مَا بَعْدَ "لَوْ" غيرُ مُوجَبٍ في المَعْنَى. والبَدَلُ فِي غَيْرِ الوَاجبِ أَحْسَنُ مِنَ الوَصْفِ. وَفِي قولِهِ هَذا نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مَا ذَكَرَهُ العُكْبُرِيُّ مِنْ فَسَادِ المَعْنَى.
وَقَالَ ابْنُ الضَّائِعِ مُتَّبِعًا بِذَلِكَ أَبا العَبَّاسِ الْمُبَرِّدَ: لَا يَصِحُّ المَعْنَى عِنْدِي إِلَّا أَنْ تَكُونَ "إِلَّا" فِي مَعْنَى "غيْر" الَّتِي يُرادُ بِهَا البَدَلُ، أَيْ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ عِوَضَ وَاحِدٍ، أَيْ بَدَلَ الوَاحِدِ الذي هُوَ اللهُ لَفَسَدَتَا. وَهَذَا هوَ المَعْنَى الذي أَرَادَهُ سِيبَوَيْهِ فِي المَسْأَلَةِ الَّتي جاءَ بِهَا تَوْطِئَةً.
وقال الشَّلَوْبين فِي مَسْأَلَةِ سِيبَوَيْهِ "لَوْ كَانَ مَعَنا رَجُلٌ إِلَّا زَيدٌ لَغُلِبْنا" إِنَّ المَعْنى: لَوْ كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ مَكَانَ زَيْدٍ لَغُلِبْنَا، فـ "إِلَّا" بِمَعْنَى "غير" الَّتِي بِمَعْنَى "مكان". وَهَذَا أَيْضًا جُنُوحٌ مِنْ أَبي عَلِيِّ إِلَى البَدَلِ. وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الضائِعِ مِنَ المَعْنَى المُتَقَدِّمِ مُسَوِّغٌ لِلْبَدَلِ. وَهُوَ جَوَابٌ عَمَّا أَفْسَدَ بِهِ أَبُو البَقاءِ وَجْهَ البَدَلِ، إِذْ مَعْنَاهُ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّهُ قَريبٌ مِنْ تَفْسيرِ المِعْنَى وَلَيْسَ مِنْ تَفْسيرِ الإِعْرابِ.
وَ "لَفَسَدَتَا": لَخَرِبَتَا وَهَلَكَ كُلُّ مَنْ فِيهِمَا، لِوُجُودِ التَّمَانُعِ بَيْنَ الآلِهَةِ، فَلَا يَجْري أَمْرُ العَالَمِ بانْتِظامٍ. وَوَجْهُ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَتِ الْآلِهَةُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ إِلَهٍ مُتَّصِفًا بِصِفَات الإِلَهِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ آثَارُهَا، وَهِيَ الْإِرَادَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَالْقُدْرَةُ التَّامَّةُ عَلَى التَّصَرُّفِ في الكونِ، أَمَّا التَّعَدُّدُ فيَقْتَضِي اخْتِلَافَ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِرَادَاتِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَوَتْ تَعَلُّقاتُ إِرَادَاتِ الْآلِهَةِ لَكَانَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ عَبَثًا، لِلِاسْتِغْنَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ إِذَا حَدَثَ كَائِنٌ فَإِنْ كَانَ حُدُوثُهُ بِإِرَادَةِ مُتَعَدِّدِينَ لَزِمَ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرَيْنِ عَلَى مُؤَثِّرٍ وَاحِدٍ، وَهَذا مُحَالٌ، وَذَلِكَ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِ عِلَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ كاملتينِ عَلَى مَعْلُولٍ وَاحِدٍ. فَلَا جَرَمَ إِذًا أَنَّ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ مُتَعَلِّقَاتِ تَصَرُّفَاتِهَا اخْتِلَافًا بِالْأَنْوَاعِ، أَوْ بِالْأَحْوَالِ، أَوْ بِالْبِقَاعِ، فَالْإِلَهُ الَّذِي لَا تَنْفُذُ إِرَادَتُهُ فِي بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ لَيْسَ بِإِلَهٍ بِالنِّسْبَةِ إِلَى تِلْكَ الْمَوْجُودَاتِ الَّتِي أَوْجَدَهَا غَيْرُهُ مِنَ الآلِهَةِ.
وَلَا جَرَمَ أَيْضًا أَنْ تَخْتَلِفَ مُتَعَلِّقَاتُ إِرَادَاتِ الْآلِهَةِ بِاخْتِلَافِ مَصَالِحِ رَعَايَاها أَوْ أَحْوَال تَصَرُّفَاتِهِمْ، فَكَلٌّ يَغَارُ عَلَى مَا تَحْتَ سُلْطَانِهِ. فَقد ثَبَتَ أَنَّ التَّعَدُّدَ يَسْتَلْزِمُ اخْتِلَافَ الْإِرَادَاتِ وَحُدُوثَ الْخِلَافِ.
وَلَمَّا كَانَ التَّمَاثُلُ فِي حَقِيقَةِ الْإِلَهِيَّةِ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ فِي قُوَّةِ قُدْرَةِ كُلٍّ مِنَ الآلِهَةِ، وَكَانَ مُقْتَضِيًا تَمَامَ الْمَقْدِرَةِ عِنْدَ تَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ بِالْقَهْرِ لِلضِّدِّ، بِأَنْ لَا يَصُدَّهُ شَيْءٌ عَنِ اسْتِئْصَالِ ضِدِّهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ بِغَزْوِ ضِدِّهِ، وَإِفْسَادِ سُلْطَانِهِ ومُلْكِهِ، تَعَيَّنَ أَنَّهُ كُلَّمَا تَوَجَّهَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ إِلَى غَزْوِ ضِدِّهِ أَنْ يُهْلِكَ كُلَّ مَا هُوَ تَحْتَ سُلْطَانِهِ، فَلَا يَزَالُ يَفْسُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ كُلِّ خِلَافٍ، وهوَ ما نَصَّتْ عليْهِ الآيةُ: 91، مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ، قالَ تَعَالَى: {وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ}.
إِذًا فَقدْ دَلَّتْ مُشَاهَدَةُ دَوَامِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض عَلى انْتِظامِهِما فِي مُتَعَدِّدِ الْأَحْوَالِ عَلَى امْتِدادِ الْعُصُورِ عَلَى أَنَّ لَهَا إِلَهًا وَاحِدًا. فَأَمَّا لَوْ فُرِضَ التَّفَاوُت فِي حَقِيقَة الْإِلَهِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي رُجْحَانَ بَعْضِ الْآلِهَةِ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ أَدْخَلُ فِي اقْتِضَاءِ الْفَسَادِ، إِذْ تَصِيرُ الْغَلَبَةُ لِلْإلهِ الأَقْوَى مِنْهُمْ، فَيَجْعَلُ الْكلَّ تَحْتَ سَطْوَتِهِ، وَيُفْسِدُ عَلَى كُلِّ ضَعِيفٍ مِنْهُمْ مَا هُوَ فِي حَوْزَتِهِ، فَيَكُونُ الْفَسَادُ أَسْرَعَ.
فَالْفَسَادُ إذًا: هُوَ اخْتِلَالُ النِّظَامِ، وَانْتِفَاءُ النَّفْعِ مِنَ الْأَشْيَاءِ. فَفَسَادُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هُوَ أَنْ تَصِيرَا غَيْرَ صَالِحَتَيْنِ وَلَا مُتَناسِقَتَيْنِ ولا مُنْتَظِمَتَيْنِ، فَيُبْطَلَ الِانْتِفَاع بِمَا فِيهِمَا. فَمِنْ صَلَاحِ السَّمَاءِ نِظَامُ كَوَاكِبِهَا، وَانْضِبَاطُ مَوَاقِيتِ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، وَنِظَامُ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ فيها. وَمِنْ صَلَاحِ الْأَرْضِ مَهْدُهَا لِلسَّيْرِ، وَإِنْبَاتُهَا الشَّجَرَ وَالزُّروعَ، وَاشْتِمَالُهَا عَلَى الْمَرْعَى وَالْحِجَارَةِ وَالْمَعَادِنِ وَالْأَخْشَابِ، وَفَسَادُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ بِبُطْلَانِ نِظَامِهِ الصَّالِحِ.
وَالمُرَادُ بضميرِ التَّثْنِيَةِ في "فَسَدَتا" هُوَ وَالأَرْضُ والسَّمَاءُ، فَمَا زَالَ الحَديثُ عَنْهُما، لأَنَّهُما الظَّرْفانِ لِكُلِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وأُبَيٍّ وَأُمِّ المُؤمِنينَ السَّيِّدَةِ حَفْصَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَعَنْهُمْ أَجْمَعِينَ: "لَوْ كانَ فِيهِنَّ آلِهَةٌ لَفَسَدْنَ".
فَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنَى لَمْ تُوجَدَا أَصْلًا، لِأَنَّ المَعْروفَ في المُلُوكِ أَنَّ مَا بَناهُ أَحَدُهُما وَأَثْبَتَهُ نَقَضَهُ الآخَرُ وأَزالَهُ وَأَفْنَاهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ المَعنى أَنَّ مَنَافِعُ الأَوَّلِ للخَلْقِ لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِمَنَافِعِ الثاني؛ إِذْ يَمْنَعُ كُلٌّ مَنْهُمَا مَنَافِعَ الآخَرِ، فإِذَا اتَّصَلَتْ المَنَافِعُ، دَلَّ هَذا أَنَّ الصانِعَ وَاحِدٌ والتَّدْبِيرَ لِوَاحِدٍ لَا لِعَدَدٍ مِنَ الآلِهَةِ.
وَيجوزُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كانَ ثَمَّةَ أَكْثَرُ مِنْ إِلَهٍ لَوَجَبَ أَنْ يَخْرَجَ تَدْبِيرُهُمْ عَلى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ عَامٍ حتَّى يَنْتَظِمَ الوُجودُ وَيَسْتَمِرَّ، فَإِذَا اتَّسَقَ التَّدْبِيرُ وَجَرَى الأَمْرُ فِي كُلِّ عَامٍ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ؛ دَلَّ هذا أَنَّهُ تَدْبِيرُ وَاحِدٍ لَا عَدَدٍ؛ إِذْ لَوْ كَانَ تدبيرَ عَدَدٍ لَاخْتَلَفَ كُلَّ عامٍ وَلَمْ يَتَّسِقَ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَا جَرَى عَلَى نِظامٍ وَاحِدٍ أَيْضًا.
قولُهُ: {فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} يُسَبِّحُ اللهُ ـ تَبَارَكتْ أَسْماؤُهُ، نَفْسَهُ المُقدَّسَةَ، ويُنَزِّهُهَا عَنْ كلِّ مَا لا يَلِيقُ بِهَا، لأَنَّهُ لا يَقْدِرُ قَدْرَهُ غيرُهُ، ولا يَعْرِفُهُ سِواهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفونَ" يُسَبِّحُ نَفْسَهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، إِذَا قِيلَ عَلَيْهِ الْبُهْتَانُ. وفيهِ حَفزٌ لَنَا عَلى تَسْبِيحِهِ، وَتَعْليمٌ لِعِبَادِهِ كَيْفَ يُسَبِّحونَهُ وينزهونَهُ وَيَذْكُرونَهُ تَفضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ، وَتَشْريفًا لَهُمْ بِذَلِكَ، ورفعًا لَهُمْ إلى مقامِ الملائكةِ الكِرامِ المُسَبِّحينَ، وَلِيَجْزِيَهمْ عَلَيْهِ النَّعيمَ المُقيمَ، أَلهَمَنَا اللهُ كَمَا أَلْهَم عِبَادَهُ المُسَبِّحينَ، وَرَفعَنا إِلَى مَقَامِهِمْ في عِلِّيِينَ، بجوارِ سَيِّدِ المُرسَلينَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا} لَوْ: حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جازِمٍ. و "كَانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ. و "فِيهِمَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ كانَ مُقَدَّمًا عَلَى اسْمِها، و "هما" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "آلِهَةٌ" اسْمُ "كان" المُؤَخَّرُ، مَرْفوعٌ بها، وَالجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لَوْ"، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "إِلَّا" اسْمٌ بِمَعْنَى "غَيْر"، مبنيٌّ في محلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "آلِهَةٌ"، وَلَكنَّ إِعْرابَها ظَهَرَ فِيمَا بَعْدَهَا؛ لِكَوْنِهَا عَلَى صُورَةِ الحَرْفِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ اسْتِثْنائيَّةً لِأَنَّ مَفْهُومَ الاسْتِثْنَاءِ فَاسِدٌ هُنَا، إِذْ حَاصِلُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ لِمْ يُسْتَثْنَ اللهُ مِنْهُمْ لَمْ تَفْسُدَا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ مُجَرَّدَ تَعْدَّدِ الآلِهَةِ يُوجِبُ لُزُومَ الفَسَادِ مُطْلَقًا. و "اللهُ" صِفَةٌ لــ "آلِهَةٌ" مَرْفوعَةٌ مثْلُها.
قولُهُ: {لَفَسَدَتَا} اللامُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "لَوْ" و "فسدتا" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَالتاءُ عَلامَةُ تَأْنِيثِ الفَاعِلِ، وَ "الألف" ضَميرٌ المُثَنَّى مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "لَوْ" الشَّرْطِيَّةِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ "لَوْ" الشَّرْطِيَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قَوْلُهُ: {فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا} الفَاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَ "سُبْحَانَ" مَنْصوبٌ على المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةِ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا، والتَقْديرُ: سَبِّحُوا اللهَ سُبْحَانًا عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وهوَ مُضافٌ. وَلَفْظُ الجِلالَةِ "اللهِ" مَجْرُورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المَقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَة مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَ "رَبِّ" صِفَةٌ لاسْمِ الجَلالَةِ مَجْرورةٌ مِثْلُهُ، وهوَ مُضافٌ. و "الْعَرْشِ" مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "عَمَّا" هو "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالمَفْعُولِ المُطْلَقِ "سُبْحَانَ"، وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ.
قَوْلُهُ: {يَصِفُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَمَفْعُولُهُ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ: "اللهِ"، وَالجُمْلَةُ صِلَةٌ لِلموصولِ الحَرفيِّ "مَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "مَا يَصِفُونَ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ "عَنْ".