وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ
(70)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} المُرَادُ بـ "كَيْدًا" هُنَا هُوَ عَزْمُهُمْ عَلَى إِحْرَاقِ سيِّدِنا إبراهيمَ ـ عليْهِ السَّلامُ، لأَنَّهُمْ دَبَّرُوا ذَلِكَ خُفْيَةً مِنْهُ. حَتَّى لَا يُحاوِلَ الفِرارَ مِنَ الْبَلَدِ فَيفوتَهم الثَّأْرُ مِنهُ لِآلِهَتِهِمْ والِانْتِصَارُ لَهَا، بحَسَبِ ظنِّهِمْ. لأَنَّ الكَيْدَ هُوَ التَّدْبِيرُ في الخَفَاءِ، أَوْ بِلَيْلٍ، وَهُوَ مِنَ الكَيْدُ: الذي هُوَ المَكْرُ، يقالُ: كادَهُ، يَكيدَهَ، كَيْدًا وَمَكِيدَةً، والمُكايَدَةِ، أَيْ المُخَاتَلَةِ، وكادَ لَهُ أَمْرًا: دَبَّرَ لَهُ أَمْرًا، وحاكَ لَهُ مُؤامَرَةً، وهوَ غافلٌ عَنْ ذَلِكَ. وَيُقَالُ: فُلانٌ يَكيدُ بِنَفْسِهِ، أَيْ يَجُودُ بِهَا. وَفِي الحَديثِ الشَّريفِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَهُوَ يَكيدُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: ((جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا مِنْ سَيِّدِ قَوْمٍ، فَقَدْ أَنْجَزْتَ اللهَ مَا وَعَدْتَهُ، وَلَيُنْجِزَنَّكَ اللهُ مَا وَعَدَكَ أَخْرَجَهُ ابْنُ سَعْدٍ: (3/429). وَكُلُّ شَيْءٍ تُعَالِجُهُ فَأَنْتَ تَكَيدُهُ. وَأَيْضًا فَـ: كادَ فَلان أَنْ يَفْعَلُ كَذا، أَي: قَارَبَ يَفْعَلَ كَذا، فَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ المُقَارَبَةِ.
قولُهُ: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} مُبَالَغَةٌ في الخُسْرانِ، أَيْ: فجَعَلْناهُمُ الأَكْثرَ خُسْرانًا. كَأَنَّ خَسَارَتَهُمْ لَا تُدَانِيهَا خَسَارَةٌ، وَكَأَنَّهُمُ قَدِ انْفَرَدُوا بِوَصْفِ الْأَخْسَرِينَ فَلَا يَصْدُقُ هَذَا الْوَصْفُ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَالتَعْرِيفُ هَنَا يُفِيدُ الْقَصْرَ لِلْمُبَالَغَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَسَارَةِ الْخَيْبَةُ. وَهوَ اسْتِعَارَةٌ، تَشْبِيهًا لِخَيْبَةِ قَصْدِهِمْ إِحْرَاقَهُ بِخَيْبَةِ التَّاجِرِ وخسارتِهِ فِي تِجَارَتِهِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} الواوُ: اسْتِئنافيَّةٌ. و "أَرَادُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارِقَةٌ. و "بِهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرَادُوا". أَوْ يَتَعَلَّقُ بِحَالٍ مِنْ "كَيْدًا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "كَيْدًا" مَفْعُولُهُ منْصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "جَعَلْنَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونُ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ ضميرُ المُعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ, والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُوليَّةِ على كونِهِ مَفْعُولَهُ الأَوَّلُ، والميمُ: علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "الْأَخْسَرِينَ" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ: لأنَّهُ جمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَرَادُوا" عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.