وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ
(50)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} وَقالَ في الآيَةِ: 92، مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه}، ثُمَّ قَالَ في الآيَةِ: 155، مِنْهَا: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وقالَ أَيضًا: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} الآيةَ: 29، مِنْ سورةِ (ص). وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: المَعْنَى هَذَا القُرْآنُ ذِكْرٌ لِمَنْ تَذَكَّرَ بِهِ، وَعِظَةٌ لِمَنِ اتَّعَظَ. مَعَانِي القُرْآنِ وإعرابُهُ لهُ: (3/395).
والْإِشَارَةُ بـ "هذا" إِلَى الْقُرْآنِ العظيمِ لِأَنَّ حُضُورَهُ فِي الْأَذْهَانِ، وَفِي التِّلَاوَةِ بِمَنْزِلَةِ حُضُورِ ذَاتِهِ. وَوَصْفُهُ بِـ "ذِكْرٌ" لِأَنَّ لَفْظَ الذِّكْرِ جَامِعٌ لِما تَقَدَّمَ مِنْ أَوْصَافٍ.
فَقد وَصْفَهُ هنا بِأَنَّهُ "مُبَارَكٌ" لأًنَّهُ كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ؛ فَفِيهِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَخَيْرُ الْآخِرَةِ، فهوَ جامِعٌ لِكُلَّ نَوَاحِيَ الْخَيْرِ، فإِنَّ الْبَرَكَةَ تَعْنِي الزِّيَادَةَ في الْخَيْرِ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ خَيْرٌ فهوَ مِنْ جِهَةِ البَلَاغَةِ كنزُ اللَّطَائِفِ الْبَلَاغِيَّةِ، وَالذُّرْوَةُ مِنْ جِهَةِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَساليبِ البَيَانِ، وأَفْانَينِ نَظْمِ الْكَلَامِ، وقد عَجَز الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، برغمِ تَحَدِّي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ، لكِنَّهم لَمْ يَسْتَطيعُوا إلى ذلكَ سبيلًا. وَذلكَ لِحُسْنِ أَلْفَاظِهِ، وَسُهُولَةِ تِلَاوَتِهِ، وَسُرْعَةِ حِفْظِهِ، وَهُوَ أَيْضًا خَيْرٌ كلُّهُ لجهةِ ما فيهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَشَرِيعَةٍ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ مَا جَاءَ بِهِ وَقدِ اهْتَدَتْ بِهِ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ عَلى مَدَى الْأَزْمَانِ، وَانْتَفَعَ بِهِ المُؤْمِنُونَ وغيرُ المؤمنينَ مِنَ الناسِ أَجْمَعِينَ.
وَزَادَهُ تَشْرِيفًا بِإِسْنَادِ إِنْزَالِهِ إِلَى ضَمِيرِ جَلَالَتِهِ. وَسُمِّيَ الْوَحْيُ بِهِ إِلَى الرَّسُولِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، إِنْزَالًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْإِنْزَالُ مِنْ رِفْعَةِ الْقَدْرِ، إِذِ اعْتُبِرَ هَذا الكتابُ مُسْتَقِرًّا فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ حَتَّى نَزَلَ بهِ جبريلُ ـ عليْهِ السَّلامُ إِلَى هَذَا الْعَالَمِ.
قوْلُهُ: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} اسْتِفْهامٌ تَعْجِيبِيٌّ تَوْبِيخِيٌّ مِنْ إِنْكَارِهِمْ صِدْقَ هَذَا الْكِتَابِ الكَريمِ، وَمِنِ اسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْكَارِ وإِصْراِرهِمْ عَلَيْهِ، وهو تَفْريعٌ عَلَى الْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ السَّابِقَةِ. وَجِيءَ في الخِطابِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ لِيَتَأَتَّى جَعْلُ الْمُسْنَدِ اسْمًا دَالًّا عَلَى الِاتِّصَافِ فِي زَمَنِ الْحَالِ، وَجَعْلُ الْجُمْلَةِ دَالَّةً عَلَى الثَّبَاتِ فِي الْوَصْفِ، وَفَاءً بِحَقِّ بلاغة النّظم البَديعِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "هذا" الهاءُ: للتَّنْبِيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. وَ "ذِكْرٌ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ. و "مُبَارَكٌ" صِفَةٌ أُولَى لِـ "ذِكْرٌ" مرفوعةٌ مِثْلُهُ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وهي مَسُوقَةٌ لِخِطَابِ أَهْلِ مَكَّةَ، وَمُحَاوَرَتِهِمْ حَوْلَ القُرْآنِ الكَريمِ، الَّذي أَنْزَلَهُ اللهُ بِلِسَانِهِمْ، عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ خَبَرُوا خُلُقَهُ، وَيَعْرِفونَ مَوْقِعَهُ مِنْهُمْ، وَنَسَبَهُ وَشَرَفَهَ فيهِمْ.
قولُهُ: {أَنْزَلْنَاهُ} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، فَاعِلُهُ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ في محلِّ الرَّفعِ على كونِها صِفَةً ثانِيَةً لِـ "ذِكْرٌ".
قوْلُهُ: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ الإنكاريِّ التَّوبِيخِيِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، والفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ. و "أَنْتُم" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ لِجَمَاعَةِ المُخاطَبينَ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "لَهُ" اللامُ حلافُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "مُنْكِرُونَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْف الجَرِّ. وَ "مُنْكِرُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ، والنُّونُ عوضٌ عَنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْميَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتقديرُ: أَأَنْتُمْ عَالِمُونَ، أَنَّ شَأْنَهُ كَشَأْنِ التَّوْراةِ، فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرونَ، وَالجُمْلَةُ المَحذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ