وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ
(34)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} يَقُولُ ـ تَعَالَى: مَا خَلَّدْنَا قَبْلَكَ أَحَدًا مِنْ بَنِي آدَمِ. يَعني أَنَّ مَصيرَهُ مصِيرَ مَنْ مَضَى قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَمِنْ بَنِي آدَمَ فِي المَوْتِ.
وَأَخْرَج ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ، فَجَاءَ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُسَجَّى، فَوَضَعَ فَاهُ عَلَى جَبِينِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَّ يُقَبِّلُهُ، وَيَبْكِي، وَيَقُولُ: بِأَبي وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا، وَطِبْتَ مَيْتًا. فَلَمَّا خَرَجَ مَرَّ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَمُوتُ حَتَّى يَقْتُلَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ، وَحَتَّى يُخْزِيَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ.
قَالَ: وَكَانُوا قَدِ اسْتَبْشَرُوا بِمَوْتِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعُوا رُؤُوسَهُمْ، فَقَالَ أَبو بَكْرٍ: أَيُّهَا الرَّجُلُ أَرْبِعْ عَلَى نَفْسِكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ مَاتَ، أَلَمْ تَسْمَعِ اللهَ يَقُولُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} الآيَةَ: 30، مِنْ سُورةِ الزُّمَرِ. وَقَالَ: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ" قَالَ: ثُمَّ أَتَى الْمِنْبَرَ فَصَعِدَهُ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَهَكُم الَّذِي تَعْبُدُونَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ إِلَهُكُم الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَإِنَّ إِلَهَكُمْ لَمْ يَمُتْ. ثُمَّ تَلَا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} الآيَةَ: 144، مِنْ سورةِ آلِ عِمْرَانَ، حَتَّى خَتَمَ الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَ. وَقَدِ اسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ بذَلِكَ، وَاشْتَدَّ فَرَحُهُمْ، وَأَخَذَتِ الْمُنَافِقينَ الكآبَةُ. قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما: فَوَ الَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَكَأَنَّمَا كَانَتْ عَلَى وُجُوهِنَا أَغْطِيَةٌ فَكُشِفَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ) عَنِ السيِّدَةِ عَائِشَةَ، أَمِّ المُؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأَرْضَاهَا، قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ مَاتَ، فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: وانَبِيَّاهُ، وَاخَلِيلاهُ، وَاصَفِيَّاهُ. ثُمَّ تَلَا: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ" الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
وَ "الخُلْدُ" اسْمٌ مِنَ الخُلودِ، وَهُوَ البَقَاءُ الدائِمُ فِي مَكانٍ لَا يبارحُهُ، قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبي سُلْمَى:
لِمَنِ الدِّيارُ غَشِيتَها بالفَرقْد ......... كالَوحْيِ فِي حَجَرِ المَسيلِ المُخْلِدِ
مِنْ خَلَدَ يَخْلُدُ خُلْدًا وَخُلودًا، وَالآخِرَةُ دارُ الخُلْدِ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِبَقَاءِ أَهْلِها، وَمِنْ أَسْمَاءِ الجَنَّةِ، أَوِ الجِنَانِ: الخُلْدُ.
والخُلْدُ أَيْضًا: السِّوارُ وَالقُرْطُ. يقالُ خَلَّدَ فلانٌ جارِيَتَهُ إِذَا حَلاَّها بالخِلَدَةِ، وَجَمْعُها: خِلَدٌ وَخِلَدَةٌ: وهِ جَماعَةُ الحُلِيِّ.
والخِلْدُ: الفَأْرةُ العَمْيَاءُ، وَهِيَ ضَرْبٌ مِنَ الجُرْذَان تَعِيشُ تَحْتَ سَطْحِ الأَرْضِ، لَيْسَ لَهَا عُيُونٌ، وَتُحِبُّ رَائحَةَ البَصَلِ. وَاحِدُهَا خِلْدٌ وَخِلْدَةٌ، وَالجَمْعُ خِلْدَانٌ. وَالخَلْدُ: الزَّبَابَةُ.
والخَلَدُ: البَالُ، والقَلْبُ، والنَّفْسُ، وَجَمْعُهُ أَخْلادٌ، يُقَالُ: وَقَعَ في خَلَدِي كَذا وكذا، أَيْ: في رُوعِي وَقَلبْي.
و "خَلَدَ يَخْلِدُ خَلْدًا"، كَ "ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَربًا" وَخُلُودًا أَيْضًا: إذا أَسَنَّ الرَّجُلُ وَأَبْطَأَ عَنْهُ الشَّيْبُ، وَكَأَنَّمَا خُلِقَ لِيَخْلُدَ. فإِذَا بَقِيَ لَهُ ـ عَلَى الكِبَرِ، سَوَادُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، قِيلَ إِنَّهُ لَمُخْلِدٌ. وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ تَسْقُطْ أَسْنَانُهُ، قيلَ لَهُ ذلكَ، وَهُوَ مَجازٌ.
وأَخْلَدَ بِصَاحِبَهِ: لَزِمَهُ. وأَخْلَدَ إِلَيْهِ: إذا مَالَ إلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ، وهوَ مِنَ المَجَاز. وَيُقالُ ـ أيْضًا: خَلَدَ ـ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وهوَ قَليلٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 3، مِنْ سُورةِ الهُمَزَةِ: {أَيَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} مَعْناهُ: عَمِلَ عَمَلَ مَنَ لَا يَظُنَّ أَنَّهُ يَمُوتُ، وذلكَ لِيَسارِهِ وكَثْرَةِ مالِهِ ومتاعِهِ. وَقدْ سَوَّى الزّجَاجُ بَيْنَ خَلَّدَ وأَخْلَدَ.
والخَوالِدُ: الجِبَالُ، والحِجَارَةُ، والصُّخُورُ لِطُولِ بَقائِهَا بَعْدَ دُرُوسِ الأَطْلالِ، وَأَثَافِيُّ المَوقِدِ أَيْضًا لِطولِ بَقَائِهَا فِي مَوَاضِعِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ:
ذَكَرَ الرَّبَابَ وَذِكْرُهَا سُقْمُ .................. فَصَبَا ولَيْسَ ِلمَنْ صَبَا حِلْمُ
وإِذَا أَلَمَّ خَيَالُها طُرِفَتْ ...................... عَيني فماءُ شُؤُونِها سَجْمُ
كاللُّؤلُؤِ المَسْجُورِ أُغْفِلَ فِي ................. سِلْكِ النِّظَام فَخَانَهُ النَّظْمُ
وَأَرَى لَهَا دارًا بِأَغْدِرَةِ السِّيـ ..................... ـدَانِ لم يَدْرُسْ لَهَا رَسْمُ
إِلَّا رَمَادًا هامِدًا دَفَعَتْ ........................ عَنْهُ الرِّياحَ خَوالِدٌ سُحْمُ
وَقالوا فُي تَفْسيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الواقِعَةِ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} الآيةَ: 17، أَيْ: مُقَرَّطُونَ بالْخَلَدَةِ، وَهِيَ جَمَاعَةُ الحَلْيِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
ومُخَلَّدَاتٌ باللُّجَيْنِ كأَنَّمَا ..................... أَعْجَازُهُنَّ أَقاوِزُ الكُثْبانِ
قولُهُ: "أَقاوِزُ" جَمْعُ قَوْزٍ، وَهُوُ الكَثِيبُ الصَّغِيرُ مِنَ الرَّمْلِ، شَبَّهَ بِهَا أَرْدَافَ النِّساءِ.
قولُهُ: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} اسْتِفْهَامٌ إِنْكارِيٌّ، وَالمَعْنَى: إِنْ مِتَّ أَفَهُمُ الخَالِدونَ؟. أَيْ: لَا يَخْلُدونَ، فإنَّ مَوْضِعَ الاسْتِفْهامِ هوَ قَوْلُهُ: "فَهُمْ"، وَلَكِنَّهُ قُدِّمَ إِلَى أَوَّلِ الكلامِ. والمَقصودُ بهذا قولُ مُشْركي مَكَّةَ المَذْكورُ في الآيةِ: 30، مِنْ سُورَةِ: الطُّور: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُون}. فَقِيلَ لَهُمْ: إِنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ فَأَنْتُمْ أَيضًا تَمُوتونَ.
وفي هَذِهِ الآيَةِ المُباركةِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ شَرْطٌ واسْتِفْهامٌ، أُجِيبَ الشَّرْطُ. فَتَكونُ هَمْزَةُ الاسْتِفْهامِ قَدْ دَخَلَتْ فيِ هَذِهِ الآيَةِ عَلَىَ جُمْلَةِ الشَّرْطِ. وَالجُمْلَةُ المُقْتَرِنَةُ بالفَاءِ جَوابُ الشَرْطِ، وَلَيْسَتْ مَصَبَّ الاسْتِفْهامِ، وَزَعَمَ يُونُسُ بْنُ حبيبٍ أَنَّ الاسْتِفْهَامَ مُنْصَبٌّ عَلَى الجُمْلَةِ المُقْتَرِنةِ بِالفاءِ، وَأَنَّ الشَّرْطَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الاسْتِفْهَامِ وَبَيْنَها، وَجَوابُهُ مَحْذوفٌ. وَلَيْسَ بِشَيْءٍ إِذْ لَوْ كَانَ كَمَا قالَ لَكَانَ التَّرْكيبُ: أَفَإِنْ مِتَّ هُمُ الخَالِدونَ، بَغَيْرِ فَاءِ. وكأَنَّ ابْنَ عَطِيَّةَ نَحَا مَنْحَى يُونُسَ بْنِ حبيبٍ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَأَلِفُ الاسْتِفْهَامِ داخِلَةٌ فِي المَعْنَى عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ.
وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرِ اللهُ لَهُمُ الْإِسْلَامَ، واتِّباعَ خيْرِ الأَنامِ محمدٍ ـ عليْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِمَّنْ كانوا يترَبَّصونَ بالنَّبيِّ الموتَ، سَيَمُوتُونَ قَبْلَ مَوْتِ النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا يَشْمَتُونَ بِهِ فَإِنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَهْلَكَ اللهُ رُؤُوسَ الَّذِينَ عَانَدُوهُ وَهَدَى بَقِيَّتَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ" طَرِيقَةُ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ أَنَّكَ تَمُوتُ كَمَا قَالُوا وَلَكِنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ، وَهُمْ بِحَالِ مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مُخَلَّدُونَ فَأَيْقَنُوا بِأَنَّهُمْ يَتَرَبَّصُونَ بِكَ رَيْبَ الْمَنُونِ مِنْ فَرْطِ غُرُورِهِمْ، فَالتَّفْرِيعُ كَانَ عَلَى مَا فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنَ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ، أَيْ مَا هُمْ بِخَالِدِينَ حَتَّى يُوقِنُوا أَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَوْتَكَ. وَفِي الْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَرَى مَوْتَهُ مِنْهُم أَحَدٌ.
أَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ جُرَيْجٍ قَالَ: لَمَّا نَعَى جِبْرِيلُ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَفْسَهُ قَالَ: يَا رَبُّ فَمَنْ لِأُمَّتِي؟. فَنَزَلَتَ: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} الْآيَةَ.
وذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ فِي تفسيرِهِ "الكَشْفُ وَالبَيَانُ" (3/29 ب)، وَالبَغَوَيُّ: (5/318). أَنَّ سَبَبَ نُزولِ هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ، قَوْلُ المُشْركينَ مِنْ قُريشٍ عَنْ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: بِأَنَّهُ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونُ.
وَقالَ مُقاتلٌ: إِنَّ سَبَبَ نُزولِها قولُ بَعْضَ المُسْلَمِينَ: إِنَّ مُحَمَّدًا ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لَنْ يَمُوتَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَلَّدٌ، فَأَنْكَرَ عليهِمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَتْ.
وقِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ طَعَنُوا عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ بَشَرٌ، وَأَنَّهُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمُوتُ، فَكيْفَ يَصِحُّ إِرْسَالُهُ. فَنَزَلَتْ. وَلَيْسَ في هَذِهِ الأَقْوَالِ جميعِها مَا هُوَ صحيحٌ يُعْتَمَدِ عَليْهِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} وَمَا: الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "ما" نَافِيَةٌ. و "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ. وَ "لِبَشَرٍ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالمَفْعُولِ الثاني لـ "جَعَلَ"، و "بَشَرٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "بَشَرٍ"، وَ "قَبْلِكَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "الْخُلْدَ" المَفْعُولُ الأَوَّلُ لِـ "جَعَلَ" مَنْصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسوقَةٌ لِتَقْريرِ عَدَمِ خُلُودِ البَشَرِ، ليسَ لها مَحلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {أَفَإِنْ مِتَّ} أَفَإِنْ: الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ الإِنْكَارِيِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، وَالفاء: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ. و "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جَازِمٍ. و "مِتَّ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ، هوَ تاءُ الفاعِلِ، والتاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والجملةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ، عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} فَهُمُ: الفاءُ: راَبِطَةٌ لِجَوَابِ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا. و "هُمْ" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "الخالِدونُ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مَرْفُوعٌ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنَّ" الشَّرْطِيَّةِ، عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا، وَهِيَ عَلَى نِيَّةِ التَقْديمِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الكَلامِ: أَفَهُمُ الخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ، والتَّقْديرُ: أَيَبْقَى هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ حَتَّى يَشْمَتُوا بِمَوْتِهِ، فَإِنْ مِتَّ يَا رسُولَ اللهِ، فَهُمُ الخَالِدونَ فِي الدُّنْيا بَعْدَكَ، كَمَا تقدَّمَ فِي مَبْحَثِ التَّفْسيرِ، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ، جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "فَهُمُ الْخَالِدُونَ" اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ. والتقديرُ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. وَتَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ جَوازُ حَذْفِ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهَا، وَهُوَ عِنْدَ الْأَخْفَشِ قِيَاسِيٌّ مَعَ "أَمْ"، وَدُونَهَا ذِكْرُ الْجَوَابِ أَمْ لَا، فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ دُونَ "أَمْ" وَدُونَ ذِكْرِ الْجَوَابِ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ .... وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
يَعْنِي: أَوْ ذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ. وَمنْهُ قَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيِّ:
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ ......... فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يَعْنِي: أَهُمْ هُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ دُونَ "أَمْ" مَعَ ذِكْرِ الْجَوَابِ، قَوْلُ الشاعِرِ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرَا .............. عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
يَعْنِي: أَتَحُبُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَهُوَ مَعَ "أَمْ" كَثِيرٌ جِدًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ التَّمِيمِيِّ:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ..... شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ
يَعْنِي: أَشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ ............. وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ
فَوَاللهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ ............. بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يَعْنِي: أَبِسَبْعٍ. وَمنهُ أَيضًا قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
كِذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ......... غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا
يَعْنِي: أَكْذَبَتْكَ عَيْنُكَ.
كَمَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْأَخْطَلِ هَذَا، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخَلِيلَ قَائِلًا: إِنَّ "كَذَبَتْكَ" صِيغَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّ "أَمْ" هي بِمَعْنَى "بَلْ". فَفِي الْبَيْتِ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ يُسَمَّى "الرُّجُوعَ".
قَرَأَ الجمهورُ: {أَفَإِنْ مُتَّ} بِضَمِّ المِيمِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ "مِتَّ" بِكَسْرِها، فَقِيلَ هُمَا لُغَتَانِ.