قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ
(66)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} لَمَّا قَالُوا فِي الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ} انْتَهَزَ الفُرْصَةَ خَليلُ الرَّحْمَنِ إِبْراهِمُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، لِيَبْنِي حُجَّتَهُ عَلَى قولِهِم هَذا لأَنَّهُ اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بعجْزِ هَذِهِ الأصنامِ عنِ النُّطقِ وهوَ أَدْنَى العَمَلِ، فَمَنْ عَجَزَ عَنِ الكلامِ فهو عَنِ الأفعالِ أَعْجَزُ، وَعَلَيْهِ بَنَى الخليلُ حُجَّتَهُ الدَّالَةَ عَلى بُطْلانِ أُلُوهِيَّةِ الأَصْنَامِ، وأَنْ لَا نَفْعَ مِنْهُمْ البتَّةَ.
قولُهُ: {مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ} لا يَنْفَعُكُمْ: قَالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَقُولُ لَا يَرْزُقُكُمْ، وَلَا يُعْطِيكُمْ شَيْئًا. و "لَا يَضُرُّكُمْ" قَالَ: يَقُولُ: إِذَا لَمْ تَعْبُدوهَا لَمْ يَضُرُّكُمْ هَذا شيئًا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلُ الكَلْبِيِّ أَيْضًا، أَيْ: لَا تَنْفَعُكُمْ عِبادَتُهُم، وَلَا يَضُرُّكُمْ إِنْ تَرَكْتُمْ عِبادَتُهُم.
فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الأَصْنامُ التي اتَّخَذْتُموها آلهَةً لَكُمْ تَعْبُدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ ـ تَعَالى، لَا تَنْطِقُ وَلَا تَنْفَعُ شَيْئًا، وَلَا تَضُرُّ، فَلِمَ تَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى؟.
لَقَدْ أَنْكَرَ إِبْراهيمُ الخليلُ عَليْهِمْ عِبَادَتَهُمْ لِهَذِهِ الأَصْنَامِ بَعْدَ أَنِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى النَّفْعِ أَوِ الضَرَرِ، ولا تَسْتَطيعُ التَّصَرُّفَ في شَيْءٍ، وَهَذا مِمَّا يَتنَافَى مَعَ صِفَاتِ الأُلُوهِيَّةَ.
قولُهُ تَعَالى: {قَالَ} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ التَّوْبِيخِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَالفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ. وَ "تَعْبُدونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ عَطْفًا عَلَى تِلْكَ المَحْذوفَةِ، وَالتَّقْديرُ: قالَ أَتَعْلَمُونَ عَدَمَ نُطْقِهَا فَتَعْبُدونَ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ الوَاوِ في "تَعْبُدونَ"؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزينَ اللهَ ـ تَعالى، و "دُونِ" مَجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، ولَفْظُ الجَلالةِ "اللهِ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا بِهِ لِـ "تَعْبُدونَ".
قَوْلُهُ: {لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا} لَا: نافِيَةٌ، وَ "يَنْفَعُكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَا". وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "شَيْئًا" مَنْصوبٌ على المَفْعُوليَّةِ المُطْلَقَةِ، أَوْ مفعولٌ ثانٍ لـ "يَنْفَعُ". والجُملةُ صِلَةُ "مَا" الموصولةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {وَلَا يَضُرُّكُمْ} الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "لا يَضُرُّكُمْ" معطوفٌ عَلَى "لا يَنْفَعُكُمْ"، ولَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ.