أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ
(24)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} تَقدَّمَ أَنْ ذَكَرْنَا في تَفْسِيرِ الآيَةِ: 21، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبارَكَةِ. أَنَّ "أَمْ" لِلإِضْرابِ والِانْتِقَالِ، وَهِيَ بِمَعْنَى (بَلْ). وَقد جاءَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ تَأْكِيدًا لِجُمْلَةِ {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ} مِنَ الآيَةِ: 21، السِّابقةِ إيَّاها، فَقَدْ أُكِّدَ الْإِضْرَابُ الِانْتِقَالِيُّ بِمِثْلِهِ اسْتِعْظَامًا لِفَظَاعَتِهِ، وَبُنَيَ عَلَيْهِ اسْتِدْلَالٌ آخَرُ نَظِيرٌ للاسْتِدْلالِ الأَوَّلِ الذي بُنِيَ عَلَى الجُمْلَةِ الأُولَى المُؤَكَّدَةِ، فَإِنَّ الجُمْلَةَ الأُولَى بُنِيَ عَلَيْها دَلِيلُ اسْتِحَالَةِ وُجودِ الشَّريكِ لَهُ سُبْحانَهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ، أَمَّا هَذِهِ فَقَدْ بُنِيَ الدَّلِيلُ بِشَهَادَةِ الشَّرَائِع السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ.
قَوْلُهُ: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} المُخاطَبُ سَيِّدُ المُتَّقينَ المُرسَلُ رَحْمَةً للعالمينَ، سيِّدُنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى الله عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعيِنَ، والخِطابُ تَلْقِينٌ مِنَ اللهُ ـ جَلَّ وعَلَا، لِرَسُولِهِ، كَيْفَ يَجَادِلَ المُشْرِكِينَ الَّذينَ يَدَّعُونَ النِّدَّ للهِ، أَوِ الشَّريكَ لَهُ في مُلْكِهِ، أَوْ فِي حَقِّهِ بِالعِبَادَةِ، أَوِ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدِ: أَنْ "هاتُوا بُرْهانَكُمْ"، أَيُّها المُشركونَ، أَيْ: هَاتُوا دَلِيلَكمْ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّابقةِ وَكلامِ المُرْسَلِينَ السَّابقَينَ، عَلَى صِحَّةِ ما تدَّعونَ مِنْ أَنَّ للهِ شُرَكَاءَ في هَذَا أَوْ ذاكَ.
وَالْبُرْهَانُ: هُوَ الدليلُ القَطْعِيُّ الَّذي لا يَرْقَى إِليْهِ الرِّيبَةُ أَوِ الشَّكُّ، وَالْحُجَّةُ البالغَةُ الدَّامِغَةُ، وَالبَيِّنَةُ الجَلِيَّةُ الْوَاضِحَةُ. فَقدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ" يَقُولُ: هَاتُوا بَيِّنَتَكُمْ عَلَى مَا تَقولُونَ.
قوْلُهُ: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} الْإِشَارَةُ بالمُبْتَدَأِ "هَذا" إِلَى مُقَدَّرٍ فِي الذِّهْنِ يُفَسِّرُهُ الْخَبَرُ بعدَهُ "ذِكْرُ مَنْ مَعِي". وَالْمَقْصُودُ مِنَ هَذِهِ الْإِشَارَةِ تَمْيِيزُ هَذا المُقدَّرِ وَإِعْلَانُهُ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الْمُخَاطَبُ الْمُغَالَطَةَ فِيهِ، وَلَا فِي مَضْمُونِهِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ لُقْمَانَ: {هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} الآيةَ: 11، أَيْ أَنَّ كُتُبَ الذِّكْرِ، أَيِ كُتُبَ الأَدْيانِ السَّماويَّةِ هِيَ فِي مُتَنَاوَلِ أَيْديكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ، فَانْظُرُوا ما فِيهَا، واطَّلِعُوا عَلَيْهَا، فَهَلْ تَجِدُونَ فِي واحِدٍ مِنْهَا أَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، لَهُ أَنْدادٌ أَوْ شُرَكَاءُ، أَوْ هَلْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّ اللهَ أَذِنَ بِاتِّخَاذِ آلِهَةٍ مِنْ دونِهِ لتُقرِّبَ عبادَهُ إلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ: {أَلَا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُم} الآيَةَ: 3. أَوْ لِيَكُونُوا لَهُمْ شُفَعَاءَ عِنْدَهُ كَمَا قالَ ـ سُبْحانَهُ، في الآيةِ: 43، مِنْهَا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعَاءَ، قُلْ: أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُون}. وَإِضَافَةُ "ذِكْرُ" ـ هُنَا، إِلَى المَوْصولِ في قولِهِ: "مَنْ مَعِيَ"، هُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَالْمُذَكَّرُونَ بهَذا الْذِّكْرِ هُمُ أَهْلُ مَكَّةَ، أَوِ النَّاسُ كافَّةً، وَهَذِهِ الْمَعِيَّةُ هِيَ مَعِيَّةُ الْمُتَابَعَةِ، أَيْ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالمَقْصودُ بـ "مَنْ" الْمَوْصُولَةِ هِيَ الْأُمَّةُ، أَيْ: هَذَا ذِكْرُ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ مَعِي، عَلى دِيني مِمَّنْ يَتَّبِعُني إِلَى يَوْمِ القِيَامِةِ بِمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلى الطَّاعَةِ، وَالعِقَابِ عَلَى المَعْصِيَةَ. أَيِ الذِّكْرُ الْمُنَزَّلُ لِأَجْلِكُمْ. فَالْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ، وهوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةِ: 10، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبَارَكَةِ: {لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}.
وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الوَاردِ في قَوْلِهِ "ذِكْرُ مَنْ مَعِي" هُوَ الْقُرْآنُ الكَريمُ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ وَعَلا: "هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي"، يَقُولُ: هَذَا الْقُرْآن فِيهِ ذِكْرُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.
وَأَمَّا المُشارُ إِلَيْهِ بـ "الذِّكْرُ" في قَوْلُهُ: "وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" فَإِنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ وَغيرُها. قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما في رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ. كَمَا ذَكَرَهُ الإمامُ البَغَوِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، في تَفْسيرِهِ: (5/314). وَهَذَا القَوْلُ هوَ ما اخْتارَهُ الزَّجَّاجُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ عَبْدُ اللهُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغيرُهُما.
وَعَلَى هَذَا فإنَّ مَعْنَى قولِهِ تَعَالى: "هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ": أَنْ هَذَا القُرْآنُ، وَهَذِهِ الكُتُبُ الَّتي أُنْزِلَتْ قَبْلِي، فَانْظُروا: هَلْ يوجَدُ فِي أَيٍّ مِنَ هَذِهِ الكُتُبِ أَنَّ اللهَ أَقَرَّ بِاتِّخاذِ إِلَهٍ سِوَاهُ؟. وبِهَذَا البَيَانِ فَقدْ بَطَلَ جَوَازُ اتِّخاذِ مَعْبُودٍ سِوَاهُ ـ تَعالى، مِنْ حَيْثُ أَنُّهُ ـ سُبحانَهُ، أَمَرَ بِذَلِكَ عِبادَهُ، أَوْ رَخَّصَ لأَحَدٍ مِنْهُمْ بِهِ.
قالَ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" يَقُولُ: فِيهِ ذِكْرُ أَعْمالُ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَمَا صَنَعَ اللهُ بِهِمْ وَإِلَى مَا صَارُوا. أَخْرَجَهُ عَنْه ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ.
قالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ ـ رَحِمَهُ اللهُ، المَعْنى: قِيلَ لَهُمْ: هَاتُوا بُرْهانَكم بِأَنَّ رَسُولًا مِنَ الرُّسُلِ أَنْبَأَ أُمَّتَهُ بِأَنَّ لَّهُمْ إِلَهًا غَيْرُ اللهِ، فَهَلْ فِي ذِكْرِ مَنْ مَعِيَ، أَوْ ذِكْرِ مَنْ قَبْلِي إِلَّا تَوْحيدِ اللهِ ـ تَعَالَى؟. "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" لهُ: (3/389).
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا قالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ"، أَيْ: حُجَّتُكُمْ عَلَى مَا تَفْعَلونَ، قالَ لِنَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْ لَّهُمْ: "هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ" أَيْ: القُرْآنُ الذي أُنْزِلَ عَلَيِّ، وَ "ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" أَيْ: مَا عِنْدَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، هَلْ فِيهِ شَيْءٌ أَنَّي أَذِنْتُ لِأَحَدٍ، أَوْ أَمَرْتُهُ بِأَنْ يَتَّخِذَ إِلَهًا دُوني؟. وَهَلْ يوجَدُ في ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا أَنِّي أَنَّا اللهُ وَحْدِي لَا شَريكَ لِي؟. فَلَمَّا أُقيمَتِ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ، ذَمَّهُمْ اللهُ ـ تَعَالى، عَلَى جَهْلِهم بِمَواضِعِ الحَقِّ وَتَرْكِهِمْ للتَّأَمُّلِ وَالتَّفَكُّرِ، فَقَالَ: "بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ". يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا المَعْنَى قَوْلُهُ بَعْدَها: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} الآيةِ: 25، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، في الآيةِ: 18، مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِمًا بِالْقِسْطِ}.
وَمِنَ المُفَسِّرينَ مَنْ يَجْعَلُ هَذَا أَيْضًا مِنْ صِفَةِ القُرْآنِ الكَريمِ، يَقُولُ: مَعَنَاهُ: وَخَبَرُ مَنْ قَبْلِي مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ، وَمَا فَعَلَ اللهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَا هوَ فاعِلٌ بِهِمْ فِي الآخِرَةِ. وَهَذَا مَذْهَبُ السُّدِّيِّ كما ذَكَرَهُ عَنْهُ الرازِيُّ في تفسيرِهِ الكبيرِ: (22/158)، وَرَوَى الطَّبَرِيُّ هَذَا المَعْنَى عَنْ قَتَادَةَ في: (17/15) مِنْ تفسيرِهِ. وَنسَبَ الوَاحِدِيُّ للْكَلْبِيِّ مِثْلَهُ.
وَعَلى هَذَا المَعْنَى: فَإِنَّهُ لَمَّا طَالَبَهُمْ بِالْبُرْهانِ عَلى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، أَمَرَهُ أَنْ يَذْكُرَ لَهُمْ بُرْهَانَهُ هُوَ عَلَى ما هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ القُرْآنُ الذي فيهِ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الأُمَّةُ أَحْكامٍ وَأَخْبَارِ الأُمَمِ السَّالِفَةِ.
قوْلُهُ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} الْمُرَادُ أَنَّهُمْ لَا يَتَطَلَّبُونَ عِلْمَ هَذِهِ الحَقِيقَةِ، ولا يَشْغَلونَ عُقولَهُمْ بالتَفَكُّرِ بِهَا، وإِنَّما يَتَكلمونَ بما لا عِلْمَ لهمْ بِهِ، ويَهْرِفونَ بما لا يعرفونَ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةُ التَّفْرِيعِ عَلَى هذِهِ الجُملةِ بِقَوْلِهِ بَعْدَها: "فَهُمْ مُعْرِضُونَ".
وإِنَّمَا أُسْنِدَ هَذَا الْحُكْمُ إِلَى أَكْثَرِهِمْ لَا لِجَمِيعِهِمْ حِينَ قالَ: "بَلْ أَكْثَرُهُمْ"، لِلتَقريرِ بِأَنَّ القَلِيلَ مِنْهُمْ هُمُ الذينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ، وَمَعَ ذَلِكَ فإِنَّهُمْ يَجْحَدُونَهُ، أَوْ للإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ القَلِيلَ مِنْهُمْ هُمُ الذينَ تَهَيَّأَتْ نُفُوسُهُمْ لِقَبُولِ الْحَقِّ. وَتِلْكَ هِيَ الْحَالَةُ الَّتِي تَعْرِضُ لِلنَّفْسِ عِنْدَما تَهُبُّ عَلَيْهَا نَسَمَاتِ التَّوْفِيقِ إِلى الهدايةِ، كَالذي عَرَضَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ عليهِ رُضْوانُ اللهِ تعالى، حِينَ وَجَدَ عِنْدَ أُخْتِهِ لوحًا مَكْتُوبًا فِيهِ سُورَةُ (طَهَ)، فَأَقْبَلَ عَلى قِرَاءَتها، فَمَا أَتَمَّهَا حَتَّى عَزَمَ عَلى الْإِسْلَامِ فآمَنَ.
قوْلُهُ: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أَيْ: هُمْ مُعْرِضُونَ عَنِ النَّظَرِ فِي الْأَدِلَّةِ والحُجَجِ والبراهينِ الَّتِي تَدْعُوهُمْ إِلَى مَعْرِفَتِهَا وَالنَّظَرِ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ" قالَ: عَنْ كِتَابِ اللهِ.
والخُلاصَةُ: أَنَّهُ ـ سُبْحانهُ، يقولُ في هَذِهِ الآية: أَرْسَلْتُ الرُّسُلَ بِالإِخْلاصِ وَالتَّوْحيدِ للهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُم حَتَّى يَقُولُوهُ وَيُقِرُّوا بِهِ، وَالشَّرَائعُ تَخْتَلِفُ، فَفِي التَّوْرَاةِ شَرِيعَةٌ، وَفِي الْإِنْجِيلِ، شَرِيعَةٌ، وَفِي الْقُرْآنِ شَرِيعَةٌ، وحَلَالٌ وَحَرَامٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْإِخْلَاصِ للهِ تَعَالَى، وَتَوحيدِهِ ـ سُبْحانَّهُ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أَمِ: هي المُنْقَطِعَةُ التي بِمَعنى (بَلْ). وَ "اتَّخَذوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فَاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالمَفْعُولِ الثاني لِـ "اتَّخَذُوا"، أَوْ بحالٍ مِنَ فاعِلِ "اتَّخَذُوا"، والتقديرُ: حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزينَ اللهَ، ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "اتَّخَذُوا". وَ "دُونِه" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "آلِهَةً" مَفْعُولُ "اتَّخَذُوا" الأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {قُلْ} قُلْ: فِعلْ أَمْرٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ، وقدْ حُذِفتْ أَلِفُهُ مِنْ وَسَطِهِ لالتِقاءِ السَّاكِنَينِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنَتَ) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرْابِ.
قولُهُ {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} هَاتُوا: فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فَاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. و "بُرْهَانَكُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، وَكَافُ الخِطَابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ عَلامَةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ فَي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ "قُلْ".
قولُهُ: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} هَذَا" الهاءُ: للتَّنْبيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشارةٍ مَبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. وَ "ذِكْرُ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وَهوَ مُضافٌ، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا بيانِيًّا لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "مَعِيَ" مَنْصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ الاعْتِباريَّةِ، وَعَلامةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرهِ لانْشِغَالِ المَحلِّ بالحَرَكَةِ المُناسِبةِ لياءِ المُتَكَلِّمِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ صِلَةِ "مَنْ" المَوْصولَةِ، وهوَ مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" الوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي" مَعْطُوفٌ عَلى "ذِكْرُ مَنْ مَعي" ولهُ ما لَهُ مِنْ إِعرابٍ.
قولُهُ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} بَلْ: حَرْفٌ للإِضْرَابِ. و "أَكْثَرُهُمْ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لَا يَعْلَمُونَ الحقَّ} لَا: نافيَةٌ، وَ "يَعْلَمُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "الحَقَّ" مفعولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ.
قولُهُ: {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْريعٍ. و "هُمْ" ضميرُ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، وَ "مُعْرِضُونَ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطَوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا مُفَرَّعَةٌ عَلَيْها.
قرأَ العامَّةُ: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَّعِيَ} بِإِضافَةِ "ذِكْرُ" إِلَى "مَنْ" إِضَافَةَ المَصْدَرِ إِلى مَفْعُولِهِ، وهوَ كَقَولِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ (ص): {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} الآيَةَ: 24.
وَقُرِئَ "ذِكْرٌ" بِالتَّنْوينِ فِيهِمَا، وَ "مَنْ" مَفْتُوحَةُ المِيمِ، وقد نُوِّنَ المَصْدَرُ وَنُصِبَ بِهِ المَفْعُولُ كَما في قَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ البَلَدِ: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذا مَقْرَبَةٍ} الآيتَانِ: (14 و 15).
وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ "ذِكْرٌ" بِتَنْوينِهِ، وَ "مِنْ" بِكَسْرِ المِيمِ، على أَنَّ ثَمَّ مَوْصُوفًا مَحْذوفًا قامَتْ صِفَتُهُ ـ وَهِيَ الظَّرْفُ، مَقَامَهُ. والتَّقْديرُ: هَذَا ذِكْرٌ مِنْ كِتَابٍ مَعِيَ، ومِنْ كِتابٍ قَبْلِي. أَوْ أَنَّ "مَعِي" بِمَعْنَى "عِنْدِي". وَدُخُولُ "مِنْ" عَلَى "مَع" فِي الجُمْلَةِ نَادِرٌ؛ لِأَنَّهَا ظَرْفٌ لَا يَتَصَرَّف. وَقَدْ ضَعَّفَ أَبُو حاتِمٍ هَذِهِ القَرَاءَةَ، وَلَمْ يَرَ لِدُخُولِ "مِنْ" عَلَى "مَع" وَجْهًا.
وَقَرَأَ طَلْحةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "ذِكْرٌ معي وذكرٌ قبلي" بِتَنْوينِهِمَا دُونَ "مِنْ" فِيهِمَا.
وقرَأَتْ طائفةٌ "ذِكْرُ مَنْ" بالإِضافَةِ لِـ "مَنْ" كَالْعَامَّةِ، و "ذِكْرٌ مِنْ قَبْلُ"، بِتَنْوينِهِ وَكَسْرِ مِيمِ "مِنْ". وَوَجْهُها وَاضِحٌ ممَّا تَقَدَّمَ.
قَرَأَ العامَّةُ: {لَا يَعْلَمُونَ الحَقَّ} بِنَصْبِ "الحَقَّ" عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤكِّدٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَنْصُوبُ أَيْضًا عَلى التَّوْكيدِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ السَّابِقَةِ، كَمَا تَقُولُ: هَذَا عَبْدُ اللهِ الحَقَّ لَا الباطِلَ، فَأَكَّدَ انْتِفَاءَ العِلْم. وَقَرَأَ الحَسَنُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وحُمَيْدٌ "الحَقُّ" بالرَّفْعِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالخَبَرُ مُضْمَرٌ. أَوْ عَلى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقُرِئَ الحَقُّ "بالرَّفْعِ" عَلَى تَوْسِيطِ التَّوْكِيدِ بَيْنَ السَّبَبِ وَالمُسَبَّبِ. وَالمَعْنَى: أَنَّ إِعْراضَهم بِسَبَبِ الجَهْلِ هُوَ الحَقُّ لَا الباطِلُ.