لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ
(17)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} هَوَ تَقْريرٌ لِمَعْنَى الآيَةِ التي قبلَهَا بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَضْمُونِها، وَخِطَابٌ للمُشْرِكِينَ عَلَى حَسَبِ فُهُومِهِم، وَعَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ؛ وَإِلَّا فَالَّذي لَا يَعْتَريهِ سَهْوٌ ـ وهُوَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالى، كَيْفَ يَسْتَميلُهُ لَهْوٌ؟!.
وَاللَّهْوُ كُلُّ مَا يُلْهَى بِهِ مِنْ صاحِبَةٍ وَوَلَدٍ وَغَيْرِهِ، أَيْ: يُشْتَغَلُ بِهِ. وَقالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا"، قَالَ: لَعَبًا. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ.
وأَصْلُ اللَّهْوِ التَّرْويحُ عَنِ النَّفسِ بِمَا لَا حِكْمَةَ فِيهِ، واشْتِغالُ المَرْءِ بِمَا لا نَفْعَ فيهِ، وَقَدْ تقدَّمَ شرحُهُ بِالتَّفصيلِ غَيْرَ بَعِيدٍ عِنْدَ تَفْسِيرِ الآيَةِ الثالِثَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الكَريمَةِ المُبارَكَةِ، وَهُوَ قوْلُهُ تَعَالى: {لاهِيَةً قلوبُهُمُ وأَسَرُّوا النَّجْوَى الذينَ ظَلَمُوا}. وَظَاهِرُ الآيةِ الكريمةِ أَنَّهُ رَدٌّ عَلَى مَنِ ادَّعَى للهِ ـ تَعَالى وَعَزَّ، الزَّوْجَ والوَلَدَ، لِقَوْلِهِ في الجُمْلةِ الَّتِي تَلِيهَا: "لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا".
فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مولى عبدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا" قَالَ: اللَّهْوُ الْوَلَدُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا" قَالَ: النِّسَاءُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: اللَّهْوُ بِلِسَانِ الْيَمَنِ الْمَرْأَةُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا"، قَالَ: نِسَاءً.
وَالسَّبَبَ فِي تَرْكِ اتِّخَاذِ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وَانْتِفَائِهِ عَنْ أَفْعَالِهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، أَنَّ الْحِكْمَةَ تَصْرِفُ عَنِهُما، وَإِلَّا فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى اتِّخَاذِهِ إِنْ كُانَ فَاعِلًا لِأَنِّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَلَا يَتَأَتّى هَذَا إِلَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: اللَّهْوُ هُوَ اللَّعِبُ، وَأَمَّا مَنْ فَسَّرَهُ بِالْوَلَدِ وَالْمَرْأَةِ فَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ الإلهِيَّةُ.
قَوْلُهُ: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} مِنْ لَدُنَّا: مِنْ عِنْدِنا، فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا"، قَالَ: مِنْ عِنْدِنَا، وَالخَلْقَ لَدَيْنَا كَثِيرٌ، فَلَا حاجَةَ لَنَا فِي اتِّخاذِ زَوْجٍ وَوَلَدٍ لِنَلْهُوَ بِهِما. وَ "لَدُنْ" اسْمُ ظَرْفٍ مُخْتَصٍّ مُضَافٍ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَة "نَا"، أَيْ: لَوْ أَنَّنَا أَردْنا أَنْ نَلْهُوَ بِشَيْءٍ، لَلَهَونا بِمَخْلُوقٍ مِنْ مَخْلُوقاتِنَا الَّتِي فِي السَّماءِ، فَإِنَّهَا أَشْرَفُ الْأَمَاكِنِ وأَشَدُّ اخْتِصَاصًا بِاللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ جَعَلَ مَنْ فيهَا مِنَ الملائكةِ عِبَادًا لَهُ مُخْلِصِينَ {لَا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ويفعلونَ مَا يُؤْمَرُونَ} الآيةَ: 6، مِنْ سُورَةِ: التَّحْريم، وَ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} الآيَةَ: 50، مِنْ سُورةِ: النَّحْلِ. وَلِذَلِكَ عُبِّرَ عَنْهَا بَاسِمِ الظَّرْفِ الْمُخْتَصِّ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا"، يَقُولُ: لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ وَلَدًا لَاتَّخَذْتُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا" قَالَ: مِنَ الْحُورِ الْعِينِ.
قولُهُ: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} هُوَ نَفْيٌّ أَنْ يَفْعَلَ اللهُ ذَلِكَ، أَيْ لَا نَفْعَلُهُ أَبَدًا. وَهُوَ قَوَلُ الْحَسَنُ البَصْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، ومجاهِدٌ، وَجُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم جَمِيعًا، قالُوا: بِأَنَّ "إِنْ" هُنَا نَافِيَةٌ، أَيْ: مَا كُنَّا فَاعِلِينَ.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ" أَيْ: إِنَّ ذَلِكَ لَا يَكونُ وَلَا يَنْبَغِي.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ"، أَي مَا كُنَّا فَاعِلينَ، يَقُولُ: وَمَا خَلَقْنَا جَنَّةً وَلَا نَارًا وَلَا مَوْتًا وَلَا بَعْثًا وَلَا حِسَابًا، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ "إِنْ" فَهُوَ إِنْكَارٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ "لَوْ"، أَيْ: إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ اتَّخَذْنَاهُ، إِنْ كُنَّا مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَسْنَا مِمَّنْ يَفْعَلُهُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {لَوْ أَرَدْنَا} لَوْ: حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جازِمٍ. و "أَرَدْنَا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتحرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} أَنْ: حَرْفْ نَصْبٍ مَصْدَريٌّ. "نَتَّخِذَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِها، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى. و "لَهْوًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، مِنْ "أَرَدْنا" والتَّقْديرُ: لَوْ أَرَدْنَا اتِّخاذَ لَهْوٍ "لَاتَّخَذْنَاهُ".
قوْلُهُ: {لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} اللَّامُ رَابِطَةً لِجَوَابِ "لَوْ". و "اتخذناه" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتحرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، والتقديرُ: لاتَّخَذْناهُ اتِّخاذًا كائنًا مِنْ لَدُنَّا، وَ "لَدُنَّا" اسْمُ ظرْفِ مَكانٍ مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وَ "نَا" التعظيمِ هَذه ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ "لَوْ"، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جازمٌ. وَ "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتحرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وقدْ حُذِفتِ الأَلِفُ مِنْ "كان" لالْتقاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَ "نَا" التَعْظيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُهُ، و "فَاعِلِينَ" خَبَرُ "كانَ"، مَنْصُوبٌ بِها، وَجَوَابُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ لِاتَّخَذنَاهُ مِنْ لَدُنَّا، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "إنْ" نَافِيَةً بِمَعْنَى "ما" ـ كَمَا تقدَّمَ بيانُه في مَبْحَثِ التَّفسيرِ، فتكونُ جُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "اتِّخَذْنَاهُ"، والتَّقْديرُ: حَالَةَ كَوْنِنَا غَيْرَ فَاعِلِينَ ذَلِكَ الاتِّخَاذَ، وَالإِعرابُ الأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَقْعَدُ.