وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ
(31)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنَهَ: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} الجَعْلُ هَنَا: الخلقُ، والرَّواسِي، والرَّاسِيَاتُ جَمْعُ: رَاسٍ، قِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ نِسْبَةً إِلَى قَبِيلَةِ "رَوَاسٍ" مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، وَقيلَ: لِأَنَّها رَسَتْ فِي الأَرْضِ وَثَبَتَتْ، ومنْ ذَلِكَ قَولُ الشَّاعِرِ السَّمَوْءَلُ بْنُ عادِياءَ:
رَسَا أَصْلُهُ تَحْتَ الثَّرَى وَسَمَا بِهِ ......... إِلَى النَّجْمِ فَرْعٌ لَا يَزَالُ طَويلُ
وهوَ مِنْ قَصِيدَتِهِ الشَّهِيرَةِ الَّتي مِنْها:
إِذَا المَرْءُ لَمْ يَدْنَسْ مِنَ اللُّؤْمِ عِرْضُهُ ........... فَكُلُّ رِداءٍ يَرْتَديهِ جَمِيلُ
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ
تُعَيِّرُنَا أَنَّا قَليلٌ عَديدُنَا ..................... فَقُلْتُ لَهَا إِنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ
وَمَا ضَرَّنَا أَنَّا قَلَيلٌ وَجارُنَا ................... عَزيزٌ وَجارُ الأَكْرَمِينَ ذَلِيلُ
لَنَا جَبَلٌ يَحْتَلُّهُ مَنْ نُجيرُهُ .................. مَنيعٌ يَرُدُّ الطَّرْفَ وَهُوَ كَلِيلُ
رَسَا أَصْلُهُ تَحْتَ الثَّرَى وَسَمَا بِهِ ......... إِلَى النَّجمِ فَرْعٌ لَا يُنَالُ طَوِيلُ
وَإِنَّا لَقَوْمٌ لَا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً ................... إِذَا مَا رَأْتُهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوْتِ آجالَنا لَنَا ................. وَتَكْرَهُهُ آجالُهُمْ فَتَطُولُ
وَمَا مَاتَ مِنَّا سَيِّدٌ حَتْفَ أَنْفِهِ .............. وَلَا طَلَّ مِنَّا حَيْثُ كَانَ قَتِيلُ
تَسيلُ عَلى حَدِّ السُّيُوفِ نُفُوسُنَا ...... وَلَيْسَتْ عَلَى غَيْرِ السُّيُوفِ تَسِيلُ
وَقِيلَ لِأَنَّ الأَرْضَ رَسَتْ بِهَا وَثَبَتَتْ. وَالجَبَلُ الرَّاسِي هُوَ الرَّاسِخُ فِي الأَرْضِ، وَالثَّابِتُ الذي لا يَتَحَوَّلُ ولا يتزحْزَحُ مِنْ مكانِهِ. وسَمَّاهَا أَيضًا الأَوتادَ فَقالَ مِنْ سُورَةِ النَّبَأِ: {والجِبالَ أَوتادًا} الآية: 7، تَشْبِيهًا لَهَا بِالأَوْتادِ الَّتي تُثَبِّتُ الخِيامَ حَتَّى لا تَقْتَلِعُها الرِّيحُ، وكَذلِكَ الجِبَالُ تثَبِّتُ الأَرْضَ وتُحافِظُ عَلَى تَوَازُنِها، لأَنَّها تضْرِبُ بَعِيدًا في أَعْمَاقِها. وقدْ قالَ العُلَمَاءُ بِأَنَّ لكُلِّ جَبَلٍ ظاهِرٍ على سَطحِ الأرضِ مِثُلَهَ في باطِنِهَا لِيُحَافِظَ عَلَى ثباتِها وَتَوَازُنِها خلالَ دورانها وسِبَاحَتِها السَّريعَةِ في الفضاءِ.
قولُهُ: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أَيْ: حَتَّى لا تَمِيلَ الأَرْضُ وتخْرُجَ عَنْ مَسَارِهَا المُحدَّدِ لها، وَتَضطَّرِبُ وتَهَتَزُّ بِمَنْ عَلَيْهَا، فلا يمكِنُهُم العَيْشُ على سَطْحِها والاسْتَقرارُ فيها، وَلَوْ كانَتْ الأَرضُ مَخْلُوقَةً عَلَى هَيْئَةِ الثَّباتِ والاسْتِقرارِ مَا كَانَتْ لِتَمِيدَ أَوْ تَضطَّرِبَ أَوْ تَتَحَرَّكَ، ومَا احْتَاجَتْ لِتَثْبيتِهَا بالجِبَالِ؛ أَمَّا قَولُهُ في الآيةِ: 88، مِنْ سُورةِ النَّمْلِ: {وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} الذي ينبِئُ أَنَّ الجِبالَ متحرِّكةً أَيْضًا وليستْ بِثَابِتَةٍ، فَكيفَ إِذًا تُثَبِّتُ غيرَها وهيَ متحرِّكةٌ وَغَيْرُ ثابتَةٍ، فإنَّ مَعْنَاهُ أَنَّها تَسيرُ بِنَفْسِ حَرَكَةِ سَيْرِ الأَرضِ، كَمَا لَوْ أَنَّكَ وصاحِبَكَ في سَيَّارَةٍ أَوْ طائرَةٍ فَإِنَّ صَاحِبَكَ ثابتٌ بالنِّسْبةِ إِلَيْكَ، بينما هوَ في الواقعِ يَسيرُ أَوْ يطيرُ بالنِّسْبةِ لَمَا خارجَ السَّيَّارةِ أَوِ الطَّائرةِ، لكنَّكَ لَا تُدْرِكُ حَرَكَتَهُ لأَنَّكُما تَتَحَرَّكانِ معًا.
وَقَدْ شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى حَرَكَةَ الجِبَالِ بِمَرِّ السَّحابِ، لِأَنَّ السَّحَابَ لَا يَمُرُّ بِحَرَكَةٍ ذَاتِيَّةٍ، إِنَّما بِحَمْلِ الرِّياحِ لَهُ، وَكَذَلِكَ الجِبَالُ فإنَّ حَرَكَتها بِحَمْلِ الأَرْضِ لَهَا، وهوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الأَرْضَ في حَرَكَةٍ دائمةٍ وليسَتْ ثابتَةً كما كانَ يُعْتَقَدُ، فهيَ مِنَ الكُلِّ الذي تَحَدَّثَتْ عَنْهُ الآيةُ: 33، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المباركةِ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون}، والآيةُ: 40، مِنْ سُورَةِ (يَس): {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، وإِنَّما لكلٍّ مِنَ الأَجْرَامِ فَلَكَهُ الذي يَسْبَحُ فيهِ ولا يتوقَّفُ، وَيَلْزَمُ مَسارَهُ فَلَا يَبْرَحُهُ قَيْدَ شَعْرَةٍ، ولوْ خَرَجَ عَنْ مَسَارِهِ، أَوْ تَوقَّفَ عَنْ سَيْرِهِ ولَوْ يَسيرًا، لاخْتَلَّ نِظامُ الكونِ وفقدَ توازُنَهُ ومِيزَانَهُ، وَهَذَا ما سوفَ يحدُثُ يومَ القِيَامَةِ ـ واللهُ أَعْلَمُ، حَيْثُ يَفْنَى هَذَا الكَوْنُ بِكُلِّ مَا فِيهِ، ويستبدِلُ اللهُ بِهِ غيرَهُ، كما قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ إِبْراهيمَ ـ عَلَى نبيِّنا وَعَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّار} الآيةَ: 48. فسُبْحانَ الواحِدِ الأحَدِ الفَرْدِ الصَّمَدِ الذي لمْ يَلِدْ ولمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، خالِقِ كُلِّ شَيْءٍ والمُتَصَرِّفِ بِكُلِّ شَيْءٍ، وهوَ على كلِّ شَيْءٍ قديرِ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} هُوَ ما اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ الإِلَهِيَّةُ أَنْ جَعَلَ لَنَا فِي هَذِهِ الأَرْضِ مُنْخفضاتٍ وَسُهُولًا تَصْلُحُ للسَّيْرِ فِيهَا، والتَّنَقُلِ عَلَيْها مِنْ مكانٍ إلى مَكَانٍ قَضاءً للمَصالحِ، وَسَعْيًا إِلَى المَنَافِعِ، وجَرْيًا وَرَاءَ لُقْمَةِ العَيْشِ، فَلَوْ أَنَّ الأرْضَ كانتَ كُتَلًا مِنَ الجِبَالِ لا مَسَارِبَ بينها صَالَحَةً للسَّيرِ لَمَا صَلُحَتْ للحَرَكَةِ وحياةِ النَّاسِ عَلَيْهَا.
فَسَبْحَانَ العَلِيمِ الحَكِيمِ الذي خَلَقَ كلَّ شيءٍ وَقَدَّرَ كلَّ شَيْءٍ، وَتَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العالمينَ {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} الآيةَ: 2، مِنْ سُورَةِ الفُرْقان.
وَ "سُبُلًا": جَمْعُ سَبِيلٍ، وَهُوَ الطَّريقُ الواضِحُ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يُوسُف ـ عليْهِ السَّلامُ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآيةَ: 108، فَأَنَّثَ. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الأَعْرَاف: {وإنْ يَرَوْا سَبيلَ الرُشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} الآيةَ: 146، فَذَكَّرَ. وَالسبيلُ أَيْضًا السَّبَبُ وَالوُصْلَةُ، قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 27، مِنْ سُورَةِ الفُرْقان: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلً}، ومِنْهُ قَوْلُ جَريرِ بْنِ عَطِيَّةَ مِنْ قصيدةٍ يَهْجُو فيها مُجَاشِعًا وَيَرْثي أَسَدَ اللهِ الزُّبَيْرَ بْنَ العوَّامِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
أَفَبَعْدَ قَتْلِكُمُ خَلِيلَ مُحَمَّدٍ ............ تَرْجُو القُيُونُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلَا
أَيْ سَبَبًا وَوُصْلَةً. وَالسَّابِلَةُ: هُمْ أَبْنَاءُ السَبِيلِ المُخْتَلِفَةُ فِي الطُرُقاتِ. وَغَيْثٌ سَابِلٌ: هَاطِلٌ غَزِيرٌ.
وَ "فِجَاجًا" جَمْعُ فَجُّ، وَهُوَ الطَّريقُ الوَاسِعُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، أَوْ أَنَّهَا الأَعْلَامُ الَّتي يُهْتَدَى بِهَا. قالَ الكُمَيْتُ الأَسَدِيُّ:
تَضِيقُ بِنَا الفِجاجُ، وهُنَّ فِيحٌ، ............. ونَجْهَرُ مَاءَها السَّدِمَ الدَّفِينا
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَجَعَلنَا فِيهَا فِجاجًا سُبُلًا" قَالَ: بَينَ الْجِبَالِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "فِجَاجًا" أَيْ: أَعْلَامًا، و "سُبُلًا" أَيْ: طُرُقًا.
قولُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أَيْ: لَعَلَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِمُعَايَنَتِهم لِهَذِهِ العَجائبِ الَّتي خَلَقَهَا اللهُ ـ تَعَالى، مِنْ جِبالٍ عَظِيمَةٍ تَتَخَلَّلُها سُبُلٌ وَفِجَاجٌ فَيَهْتَدُونَ إِلَى مَعْرِفَةِ خَالِقِهِم، وَيَتَمَسَّكونَ بدِينِهِمُ الحَقِّ الذي ارْتَضَاهُ لَهُمْ ربُّهمْ، ويَتَوَصَّلَ الْمُشْرِكِونَ إِلَى الإيمانِ بوَحْدَانِيَّةِ اللهِ فَإِنَّ هَذِهِ الدَّلَائِلَ مُشَاهَدَةٌ لَهُمْ وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ المُرادُ: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِهَذِهِ الجِبالِ وما بينَها مِنَ الفِجاجِ وَالسُبُلِ إِلَى وَجْهَتِهِمْ وبِلادِهِمْ، وَيَتَوَصَّلُونَ بِسُلُوكِهَا إِلَى مَقَاصِدِهِم وَمَصَالِحِهِم، واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ وَ "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِـ "جَعَلْنا" أَوْ بالمفعولِ الثاني لَهُ، أَوْ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْهُ، وَ "الْأَرْضِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجرِّ. وَ "رَوَاسِيَ" مَفُعُولُهُ الأَوَّلُ مَنْصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَوْلُهُ: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أَنْ: حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "تَمِيدَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هِيَ) يَعودُ عَلَى "الْأَرْضِ". و "بِهِمْ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَمِيدَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ تَذْكيرِ الجمعِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِإِضافَةِ المَصْدَرِ، المُقَدَّرِ المَنْصَوبِ إِلَيْهَا، عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا لِأَجْلِهِ، وَالتَّقْديرُ: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْض رَوَاسِيَ، كَرَاهِيَةَ مَيْدِهَا بِهِمْ. أَوْ: أَنْ لَا تَمِيدَ بِهِمْ فَحُذِفَتْ "لا" لِفَهْمِ المَعْنَى. وَقَدَّرَهُ العُكْبُريُّ: مَخَافَةَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ. وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّا إِنْ جَعَلْنا المَخَافَةَ مُسْنَدَةً إِلَى المُخَاطَبِينَ اخْتَلَّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ النَّصْبِ فِي المَفْعُولِ لَهُ وَهُوَ الفاعِلُ. وَإِنْ جَعَلْناهَا مُسْنَدَةً لِفَاعِلِ الجَعْلِ اسْتَحَالَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لَا يُسْنَدُ إِلَيْهِ الخَوْفُ. وَقَدْ يُقَالُ: يُخْتَارُ أَنْ تُسْنَدَ المَخَافَةُ إِلَى المُخَاطَبِينَ. والقولُ بأنَّهُ يَخْتَلُّ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ النَّصْبِ. جَوَابُهُ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْصُوبٍ، بَلْ مَجْرُورٌ بِحَرْفِ العِلَّةِ المُقَدَّرِ. وَحَذْفُ حَرْفِ الجَرِّ مُطَّرِدٌ مَعَ "أَنْ" و "أَنَّ" بِشَرْطِهِ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا} وَجَعَلْنَا: تقدَّمَ إِعْرَابُهُ والجُمْلةُ معطوفةٌ عَلَى جملةِ "جَعَلْنَا" الأُولى. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بالمَفْعُولِ الثاني، أَوْ بِـ "جَعَلْنَا". و "فِجَاجًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ "سُبُلًا"؛ لِأَنَّهُ كَانَ صِفَةً لَهُ فَقُدِّمَ عَلَيْهِ. و "سُبُلًا" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصُوبٌ فهوَ كَقَوْلِ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
لِعَزَّةَ مُوحِشًا طَلَلُ ..................................... يلوحُ كأنَّه خِلَلُ
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَجِيْئُهُ صِفَةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ نوحٍ: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} الآيةَ: 20. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فِي الفِجَاجِ مَعْنَى الوَصْفِ، فَمَا لَهَا قُدِّمَتْ عَلَى السُّبُلِ وَلَمْ تُؤَخَّرْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا}؟ قُلْتُ: لَمْ تُقَدَّمْ وَهِيَ صِفَةٌ، وَلَكِنْ جُعِلَتْ حَالًا كَقَوْلِ كُثَيِّرٍ:
لِعَزَّةَ مُوْحِشًا طَلَلٌ قَديمُ ..................... عَفَاهَا كُلُّ أَسْحَمَ مُسْتَدِيمُ
فَإِنْ قُلْتَ: مَا الفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةِ المَعْنَى؟ قُلْتُ: أَحَدُهُمَا إِعْلَامٌ بِأَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا طُرُقًا وَاسِعَةً. وَالثاني: أَنَّهُ حِينَ خَلَقَهَا خَلَقَهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، فَهُوَ بَيَانٌ لِمَا أُبْهِم ثَمَّةَ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّان: يَعْنِي بِالإِبْهَامِ أَنَّ الوَصْفَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكونَ المَوْصُوفُ مُتَّصِفًا بِهِ حَالَةَ الإِخْبَارِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ الأَكْثَرُ قِيامَهُ بِهِ حَالَةَ الإِخْبارِ عَنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ: مَرَرْتُ بِوَحْشِيٍّ القاتِلِ حَمْزَةَ، وَحَالَةَ المُرُورِ لَمْ يَكُنْ قَائِمًا بِهِ قَتْلُ حَمْزَةَ؟. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "فِجَاجًا" مَفْعُولًا بِهِ، وَ "سُبُلًا" بَدَلٌ مِنْهُ. وَالضَّمِيرُ فِي "فيها" يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الأَرْضِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كما في قَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} الآيَتَانِ: (19 و 20)، وَأَنْ يَعُودَ عَلَى الرَّواسِي، يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ فِي الجِبَالِ طُرُقًا وَاسِعَةً.
قَوْلُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لَعَلَّهُمْ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ علامةُ التذْكيرِ. وَ "يَهْتَدُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ خَبَرُ "لَعَلَّ" في محلِّ الرَّفعِ، وَجُمْلَةُ "لَعَلَّ" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِلَامِ التَّعْلِيلِ، المُقَدَّرَةِ، والتَّقْديرُ: لِاهْتِدائِهِمْ إِلَى مَصَالِحِهِمْ وَمَقَاصِدِهِمْ.