قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ
(55)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} شَكُّوا فِي حَالِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهو يقولُ لهم: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَجادٌّ هُوَ فيما يكلَّمَ، أَمْ هُوَ هَزْلٌ مِنْهُ. وَهَلْ ذَلِكَ اعْتِقَادٌ مِنْهُ أَمْ لَهُ غايةٌ يريدُ أَنْ يتوصَّلَ إِلَيْهَا بما قالَ، وذلكَ لِإِنْكَارِهِمْ أَنْ يَكُونَ مَا عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ ضَلَالًا، وَإِيقَانِهِمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ كانوا عَلَى الْحَقِّ لذي لا شَكَّ فيهِ ولا مِرءَ، فَقَالُوا لَهُ: "أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ"، يريدونَ بِالْحَقِّ ما الْجِدِّ الذي هُوَ مُقَابِلٌ للمَزْحِ والِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ. وَالْمُرَادُ بِاللَّعِبِ هُنَا لَعِبُ الْقَوْلِ الْذي هوَ المِزاحُ ليسَ إِلَّا، وَهوَ منهم تَّلَطُّفٌ مَعَهُ إِذْ لم يَنْسِبوهُ إِلَى الْبَاطِلِ لِمَا رَأَوْا مِنْ قُوَّةِ حُجَّتِهِ.
فهُوَ كَلاَمِ ما سَمِعُوا مِثْلَهُ مِنْ قَبْلُ أَبدًا. وَهُمْ بسؤالِهِم هَذا "أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ؟" يسْتَفْهِمُونَ مِنْهُ عَنْ جِدِّيَّتهِ واعتقادِهِ ما يقولُ. ويُطَالِبُونَهُ بِالبُرْهانِ عَلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ الإيمانِ بإلَهٍ واحدٍ، لا يَعْبُدونَ غَيْرَهُ، وَتَرْكِ آلهتهم التي كانوا يعبدونَها همْ وآباؤهم مٍنْ قبلِهِم.
قولُهُ ـ تَعَالَى: {قَالُوا} فعلٌ مَاٍض مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِف للتفريقِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} الهمزةُ: للاسْتِفْهامِ التَّعَجُّبِي الاسْتِبْعَادِي، وَ "جِئْتَنا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ متحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المُتكلَّمينَ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ. و "بالحقِّ" الباءُ حرفُ جَرٍّ لِلْمُصَاحَبَةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جِئْتَ". وَلَيْسَ المُرَادُ بِهِ حَقِيقَةَ المَجِيءِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ غائبًا. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالُوا" مَقولُ القَوْلِ.
قوْلُهُ: {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} أَمْ" حَرْفٌ للاسْتِفْهامِ والعَطْفِ. و "أَنْتَ" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعَلِّقٌ بخبرٍ مُقدَّرٍ للمُبْتَدَأِ. و "اللَّاعِبِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ وعلامةُ جَرِّهُ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "جِئْتَنَا".
وهيَ مُتَّصِلَةٌ هُنَا وَلَيْسَتْ منقطعةً، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهَا جُمْلَةٌ، لِأَنَّها في حُكْمِ المُفْرَدِ، إِذِ التَّقْديرُ: أَيُّ الأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ: مَجيئُكَ بِالْحَقِّ أَمْ لَعِبُكَ؟ وَلَوْ كَانَتْ مُنْقَطِعَةً لَقُدِّرَتْ بِـ "بَلْ" وَالهَمْزَةِ، وَلَيْسِ ذَلِكَ هو المُرادُ. وَهَذَا كَما هو قَوْلُ حَسَّان بْنِ ثابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ (مِنَ الخَفيفَ):
ما أُبالي أَنَبَّ بالحَزْنِ تَيْسٌ ................. أَمْ لَحَاني بِظَهْرِ غَيْبٍ لئيمُ
وقَوْلِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ التَّمِيمِيِّ:
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا ..... شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ
يَعْنِي بِقَوْلُهُ "شُعَيْثُ": أَشُعَيْثُ.