لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
(23)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} أَيْ: لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَحْكُمُ فِي عِبَادِهِ مِنْ هَدْيٍ لَهُمْ أَوْ إِضْلالٍ، وَإِعْزَازٍ أَوْ إِذْلالٍ، لَأَنَّهُ الإِلَهُ الكبيرُ المُتَعَالِ، وَهُوَ المَالِكُ الحقُّ لِلْخَلْقِ، فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يقسِمُ لَهُمْ مِنْ رزقِ، وَهوَ الرَّحِيمُ الرَّحْمَنُ فَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَحْكُمُ بِهِ في خَلْقِهِ مِنْ العُقُوبَةِ والغُفْرانِ، لأَنَهُ العادِلُ الدَّيَّانُ. فَلاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الاحْتِجَاجِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُسْأَلَ عَلى مَعْنَى الاسْتِفهامِ والاسْتِكْشافِ وَالبَيَانِ، فقد تقدَّمَ في سُورَةِ طَهَ قَوْلُهُ: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصيرًا} الآيَةَ: 125، وَلِأَنَّهُ إِنَّما يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ في مُلْكِهِ وَمَا تَحْتَ سُلْطانِهِ وحُكْمِهِ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ مَنْ يَتَصرَّفُ فِيما لا يَمُلُكُهُ وما تَحْتَ سُلْطَانِ غَيْرِهِ.
وَفِي هَذا دَليلٌ على عَدَمَ جَوازِ أَنْ يَتَنَاوَلُ المَرءُ شَيْئًا مِمَّا لَا يَمْلُكُ إِلَّا بِأَمْرِ مَالِكِهِ أَوْ إِباحتِهِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَنْ يَقُولُ: أَنَّ الأَصْلَ عَلَى الإِطْلَاقِ وَالإِبَاحَةِ فَقولُهُ باطِلٌ.
و "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ" لأَنَّهُ الْحَاكِمُ الحكيمُ الَّذِي لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا اعْتِراضَ عَلَيْهِ مِنْ أَحَدٌ أَبَدًا لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ وَكِبْرِيَائِهِ، وَعُلُوِّهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ وَلُطْفِهِ، وَلأَنَّ كُلَّ مَا سِواهُ لَهُ عَبيدٌ خَلَقَهُمْ لِأَمْرٍ يُريدُهُ وَحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا، وَهُوَ الحَكِيمُ فَلَا يَخْرُجُ فِعْلُهُ عَنِ الحِكْمَةِ، وَإِنَّمَا يُسْأَلُ مَنْ يُحْتَمَلُ مِنْهُ فِعْلُ السَّفَهِ، أَمَّا مَنْ لَا يُحْتَمَلُ مِنْهُ سِوى فِعُلُ الحَكيمِ، فَإِنَّ سُؤَالَهُ عَبَثٌ.
ومَنْ جازَ سُؤَالُهُ عَمَّا يَفْعَلُ جازَ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ: أَنْ افْعَلْ كَذَا، وَلَا تَفْعَلْ، وَهَذا مُحَالٌ في حَقِّ الإِلَهِ الخالِقِ العظِمِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَعْنَى الأُلُوهَةِ. فَالإلَهُ لا يَسْأَلُهُ غَيْرُهُ سِوَى حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ مَنْ يَسْأَلُ مَنْ فَوْقَهُ فَسُؤَالُهُ عَنْ ضَعْفٍ وَحَاجَةٍ تَخُصُّهُ. وَأَمَّا مَنْ يَسْأَلُ مَنْ دُوْنَهُ فَسُؤالُهُ أَمْرٌ لَهُ.
رُوِيَ عَنْ أَميرِ المُؤمنينَ سيِّدِنا عَلِيٍّ ـ كرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ وأَرْضاهُ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَيُحِبُّ رَبُّنَا أَنْ يُعْصَى؟ قَالَ: أَفَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَنِي الْهُدَى، وَمَنَحَنِي الرَّدَى أَأَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟ قَالَ: إِنْ مَنَعَكَ حَقَّكَ فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ مَنَعَكَ فَضْلَهُ فَهُوَ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: "لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ".
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، نَبِيَّهُ مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، وَكَلَّمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ، قَالَ مُوسَى: اللَّهُمَّ إِنَّكَ رَبٌّ عَظِيمٌ، لَوْ شِئْتَ أَنْ تُطَاعَ لَأُطِعْتَ، وَلَوْ شِئْتَ أَلَّا تُعْصَى مَا عُصِيتَ، وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَاعَ، وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ تُعْصَى، فَكَيْفَ هَذَا يَا رَبِّ؟ فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ"، قَالَ: بِعِبَادِهِ، "وَهُمْ يُسْأَلُونَ"، قَالَ: عَنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ" قَالَ: لَا يُسْأَل الْخَالِقُ عَمَّا يَقْضِي فِي خَلْقِه، والخَلْقُ مَسْؤُولونَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، قَالَ: مَا فِي الأَرْضِ قَوْمٌ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لأَنَّهم لَا يَعْلَمُونَ قُدْرَةَ اللهِ تَعَالَى، قَالَ سُبْحانَهُ: "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ فِي بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الْكُتُبِ: إِنِّي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، قَدَّرْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَطُوبَى لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلَى يَدِهِ الْخَيْرَ وَيَسَّرْتُهُ لَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ قَدَّرْتُ عَلى يَدِهِ الشَّرَّ وَيَسَّرْتُهُ لَهُ. إِنِّي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا، لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَوَيْلٌ لِمَنْ قَالَ: وَكَيْفَ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكالِيِّ قَالَ: قَالَ عُزَيْرُ فِيمَا يُنَاجِي رَبَّهُ: يَا رَبًّ تَخْلُقُ خَلْقًا {تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} الآيَة: 155، مِنْ سُورةِ الْأَعْرَاف. فَقَالَ لَهُ: يَا عُزَيْرُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا. فَأَعَادَ، فَقيلَ لَهُ: لَتُعْرِضَنَّ عَنْ هَذَا وَإِلَّا مَحَوْتُكَ مِنَ النُّبُوَّةِ، إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبي هِنْدٍ، أَنَّ عُزَيْرًا سَأَلَ رَبَّهُ عَنِ الْقَدَرِ، فَقَالَ لَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجلَّ: سَأَلْتَنِي عَنْ عِلْمِي، عُقُوبَتُكَ أَنْ لَا أُسَمِّيكَ فِي الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ" عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مَهْرَانَ، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللهُ مُوسَى وَكَلَّمَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ رَبٌّ عَظِيمٌ، لَوْ شِئْتَ أَنْ تُطَاعَ لَأُطِعْتَ، وَلَوْ شِئْتَ أَن لَّا تُعْصَى مَا عُصِيتَ، وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَاعَ، وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ تُعْصَى، فَكَيْفَ يَا رَبُّ؟. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ طَرِيق مَيْمُونَ بْنِ مَهْرَانَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: لَمَّا بَعَثَ اللهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَّ رَبٌّ عَظِيم، وَلَوْ شِئْتَ أَنْ تُطاَعَ لَأُطِعْتَ، وَلَو شِئْتَ أَن لَّا تُعْصَى مَا عُصِيتَ، وَأَنْتَ تُحْبُّ أَنْ تُطاعَ، وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ تُعْصَى، فَكَيْفَ يَا رَبُّ؟. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ، فَانْتَهَى مُوسَى.
فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ عُزَيْرًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ التَّوْرَاةَ بَعْدَ مَا كَانَ رَفَعَهَا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى قَالَ: مَنْ قَالَ: إِنَّهُ ابْنُ اللهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ رَبٌّ عَظِيمٌ، وَلَوْ شِئْتَ أَنْ تُطاعَ لَأُطِعْتَ، وَلَوْ شِئْتَ أَن لَّا تُعْصَى مَا عُصِيتَ، وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَاعَ، وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ تُعْصَى، فَكَيْفَ يَا رَبُّ؟. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
فَأَبَتْ نَفْسُهُ، حَتَّى سَأَلَ أَيْضًا، فَقَالَ: أَتَسْتَطيعُ أَنْ تَصُرَّ صُرَّةً مِنَ الشَّمْسِ؟. قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَجِيء بِمِكْيَالٍ مِنْ رِيحٍ؟. قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَجِيءَ بِمِثْقالٍ مِنْ نُورٍ؟. قَالَ: لَا. قَالَ: أَفَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَجِيءَ بِقِيراطٍ مِنْ نُورٍ؟. قَالَ: لَا. قَالَ: فَهَكَذَا إِنْ لَا تَقْدِر عَلى الَّذِي سَأَلتُ، إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. أَمَا أَنِّي لَا أَجْعَلُ عُقُوبَتَكَ إِلَّا أَنْ أَمْحُوَ اسْمَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا تُذْكَرُ فِيهِمْ. فَمُحِيَ اسْمُهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَيْسَ يُذْكَرُ فِيهِمْ وَهُوَ نَبِيٌّ.
فَلَمَّا بَعَثَ اللهُ عِيسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، وَرَأَى مَنْزِلَتَهُ مِنْ رَبِّهِ، وَعَلَّمَهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَيُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ، وَيُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَّ رَبٌّ عَظِيمٌ، لَو شِئْتَ أَنْ تُطَاعَ لَأُطِعْتَ، وَلَوْ شِئْتَ أَن لَّا تُعْصَى مَا عُصِيتَ، وَأَنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَاعَ، وَأَنْتَ فِي ذَلِكَ تعْصَى، فَكَيْفَ يَا رَبُّ؟. فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: إِنِّي لَا أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وَأَنَتَ عَبْدِي ورَسُولِي وَكَلِمَتِي، أَلْقَيْتُك إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنِّي، خَلَقْتُكَ مِنْ تُرَاب، ثمَّ قُلْتَ لَكَ "كُنْ" فَكُنْتَ، لَئِن لَّمْ تَنْتَهِ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ كَمَا فَعَلْتُ بِصَاحِبِكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِنِّي لَا أُسَأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فَجَمَعَ عِيسَى مَنْ تَبِعَهُ وَقَالَ: الْقَدَرُ سِرُّ اللهِ فَلَا تَكَلَّفُوهُ.
قولُهُ: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الْآيتانِ: (92 و 93). أَيْ: وَهُوَ سَائِلٌ خَلْقَهُ عَمَّا يَعْمَلُونَهُ في حياتِهِمُ الدُّنْيا هَذِهِ، لأنَّهُ إِنَّما خَلَقَهُم لأُمورٍ كَلَّفَهُمْ بها ليختبرَهُم فقالَ مِنْ سورةِ المُلْكِ: {الذي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكمْ أحْسَنُ عَملًا} الآيةَ: 2. فَـ "لِيَبْلُكُم" أَيْ لِيَخْتَبِرَكمْ، وَهُوَ ـ سُبْحانَهُ، العليمُ الخَبيرُ، فالاختبارُ هُنَا ليسَ اخْتِبارَ الجاهِلِ وإِنَّمَا هوَ اختبارُ الحسابِ والجزاءِ ليَجْزِي المُطيعينَ لَهُ العامِلِينَ بِمَا كلَّفَهُمْ بهِ وَيُثيبَهَمْ فيُدْخِلَهُمُ الجَنَّةَ، ويُعَاقِبَ المُقَصِّرينَ العاصينَ، فيُدخلَهُمُ النارَ وَيسُومَهُمْ سُوءَ العَذابِ.
رَوَى أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ أَنَّ عُمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ لَهُ: أَرَأَيْت مَا يَسْعَى فِيهِ النَّاسُ ويَكْدَحُونَ، أَهُوَ أَمْرٌ قُضِيَ عَلَيْهِم، أَوْ شَيْءٌ يَسْتَأْنِفُونَهُ؟ فَقُلْتُ: لَا، بَلْ أَمْرٌ قُضِيَ عَلَيْهِم، قَالَ: أَفَلَا يَكُونُ ظُلْمًا؟. قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ "لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلونَ".
قوْلُهُ تَعَالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا} لا: نافِيَةٌ. و "يُسْأَلُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مُغَيْرُ الصِّفَةِ مبنيٌّ للمَجْهولِ، ونائِبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى اللهِ ـ تَعَالى. و "عَمَّا" هيَ "عَنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُسْأَلُ"، و "ما" موصولةٌ مَبْنِيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ تَفَرُّدِهِ ـ سُبْحانَهُ، بِالسُّلْطانِ، بِحَيْثُ لَا يَسْأَلُهُ أَحَدٌ عَمَّا يَفْعَلُهُ.
قولُهُ: {يَفْعَلُ} فعلٌ مُضارِعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "ما" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذُوفٌ، والتقديرُ: عَمَّا يَفْعَلُهُ.
قوْلُهُ: {وَهُمْ يُسْأَلُونَ} الواوُ: يَجُوزُ أَنْ تُعْرَبَ عاطفةً، ويجوزُ أَنْ تُعْرَبَ حالِيَّةً، وَ "هُمْ" ضَميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ. وَ "يُسْأَلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مُغيَّرُ الصِّيغَةِ مَبْنيٌّ للمَجْهُولِ، مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ نائبًا عَنْ فاعِلِهِ، والجُملةُ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "؟لَا يُسْأَلُ"، عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، ويجوزُ أَنْ تكونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحاِلِ مِنْ مَرْفوعِ "يُسْأَلُ"، وَالتَقَديرُ: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ حَالَةَ كَوْنِهِمْ مَسْؤُولِينَ لَهُ.