لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
(39)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} المَعْنَى: لَوْ يَعْلَمُ الذينَ كَفَرُوا مَجيءَ المَوْعُودِ الذي سَأَلُوا عَنْهُ وَاسْتَبْطَؤوهُ. وَالذي قَدْ تَوَعَّدَهُمُ اللهُ ـ تَعَالَى بِهِ. فَإنَّ الفِعْلَ "عَلِمَ" هُنَا بِمَعْنَى: "عَرَفَ"، وَلِذَلِكَ فقد تَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ فقط. وَجَوابُ "لوْ" مُقَدَّرٌ هُنَا لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى وأَشَدُّ في الوَعِيدِ وَأَبْلَغُ. فَقَد قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِـ: لَمَّا كانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنَ الكُفْرِ والعِنَادِ، والاسْتِهْزاءِ والاسْتِعْجَالِ، وَلَكِنَّ جَهْلَهُمْ بِهِ هُوَ الذي هَوَّنَّهُ عِنْدَهُمْ. وَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بـ: لَمَّا اسْتَعْجَلُوا. أَمَّا الحُوفِيُّ فَقَدَّرَهُ: لَسَارَعُوا. وَقَدَّرَهُ غَيْرُهُمْ بـ: لَعَلِمُوا صِحَّةَ البَعْثِ والمَعادِ.
قوْلُهُ: {حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ} مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ المُفسِّرينَ أَنَّ الضَّمِيرَ في يَكُفُّونَ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ: "الَّذِينَ كَفَرُوا" مِنَ الجُملةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَالْكَفُّ هُنَا بِمَعْنَى السَّتْرِ وَالدَّرْءِ والحَجْبِ، وَالإبْعَادِ، وهوَ مَجَازٌ، وَالمَعْنَى: حِينَ لَا يَسْتَطِيعُ الَّذينَ كَفَرُوا أَنْ يَدْفَعُوا النَّارَ عَنْ وُجُوهِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ. أَيْ حِينَ تُحِيطُ بِهِمُ النَّارُ مِنْ كلِّ الجِهَاتِ. وَذِكْرُ ظُّهُورِهم بَعْدَ ذِكْرِ وُجُوهِهم احْتِرَاسٌ عَنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُفُّونَهَا عَنْ ظُهُورِهِمْ، إِنْ لَمْ تَشْتَغِلْ أَيْدِيهِمْ بِكَفِّهَا عَنْ وُجُوهِهِمْ.
وَقَدَ يَكُونُ الضَمِيرُ فِي "يَكُفُّونَ" عَائِدًا إِلَى مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ فَمُعَادُ الضَّمِيرِ مَعْلُومٌ مِنَ الْمَقَامِ، وَنَظَائِرُ هَذَا الْمُعَادِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ والكريمِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ. وَعليْهِ فمَعْنَى الْكَفِّ هُوَ التوقُّفُ الْإِمْسَاكُ، وَهُوَ حَقِيقَتُهُ، أَيْ حِينَ لَا يُمْسِكُ الْمَلَائِكَةُ لَفْحَ النَّارِ عَنْ وُجُوهِ الْمُشْرِكِينَ وَلَا عَنْ ظهورِهِم ولا يَتَوَقَّفونَ عَنْ ذَلِكَ. وَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ} الآيةَ: 50، فَإِنَّ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِسِيَاطٍ مِنْ نَارٍ وَيَكُونُ المُرادُ بهَذِهِ الآيةِ هُنَا إِنْذارَهُمْ بِمَا سَيَلْقَوْنَهُ يَوْمَ مَعرَكَةِ بَدْرٍ، كَمَا أَنَّ آيَةَ الْأَنْفَالِ حِكَايَةٌ لِمَا لَقُوهُ فيها. وَذِكْرُ التَّنْكِيلِ بِالْوُجُوهِ وَالْأَدْبَارِ لِتَخْوِيفِهِمْ، لِأَنَّ الْوُجُوهَ أَعَزُّ الْأَعْضَاءِ عَلَى النَّاسِ كَمَا قَالَ الشاعِرُ الصَّحابيُّ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
نُعَرِّضُ لِلسُّيُوفِ إِذَا الْتَقَيْنَا .................... وُجُوهًا لَا تُعَرَّضُ لِلِّطَامِ
وَلِأَنَّ الْأَدْبَارَ يَأْنَفُ النَّاسُ مِنْ ضَرْبِهَا فإِنَّ في ضَرْبِهَا إِهَانَةٌ وخِزْيٌ للمَضْروبِ قفاهُ، وَيُسَمَّى الْكَسْعَ.
وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَرْجَحُ عِنْدَنا، لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِلْكَافِرِينَ الْمُسْتَهْزِئينَ الْمُرادُ تَقَريعُهُمْ بهذِهِ الآيةِ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْوَعِيدِ بِهَلَاكِهم فِي قَوْلِهِمْ: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} الآيةَ: 38، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةِ: 37، السَّابقةِ أَيْضًا: {سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ}.
قولُهُ: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ قَبْلُ: "حينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجوههمُ النَّارَ ولا عَنْ ظُهُورِهم" أَيْ: ولَا يَكُفُّ عَنْهُمْ نَفْحُ النَّارِ، أَوْ لَا يَسْتَطيعونَ دْفَعَ نَفْحِ نَارِ جهنَّمَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ في الآخِرةِ، وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ هُنَالكَ مَنْ يَنصُرُهُمْ، أَوْ يشفعُ لَهُمْ، فَهُمْ وَاقِعُونَ لا مَحالةَ فِي الْعَذَابِ الشَّديدِ. وَأَيْضًا فإنَّ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ سَتَحُلُّ بِهِمْ الهَزِيمَةُ في غَزْوَةِ بَدْرٍ الكُبْرَى، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَلَاصًا مِنْهَا، وَلَا مَحِيدًا عَنْهَا، وَلَا يَجِدُونَ حينئذٍ نَصِيرًا لَهُمْ مِنْ حُلَفائهِمْ، أَوْ مُحازبيهِمْ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} لَوْ: حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جَازِمٍ. و "يَعْلَمُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ موْصولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةَ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في محلِّ الجَزْمِ على كونِها فِعْلَ شَرْطِ "لَوْ"، وَجَوَابُها محْذوفٌ، والتَّقْديرُ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذينَ كَفَرُوا مَجِيءَ العَذَابِ المَوْعُودِ لَهُمْ، حِينَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى كَفِّ النَّارِ وَدَفْعِهَا عَنْ وُجُوهِهِمِ، وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى نَصْرِ أَنْفُسِهِمْ، لَمَّا اسْتَمَرُّوا عَلَى الكُفْرِ، وَاسْتَعْجَلُوا بِالْعَذَابِ. وَجُمْلَةُ "لَوْ" مِنْ فِعْلِ شَرْطِهَا وجَوَابِهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قوْلُهُ: {كَفَرُوا} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ واوُ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ} حِينَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالْمَفْعُولِ المَحْذُوفِ، الَّذي هُوَ مَجِيءَ ـ كما تَقدَّمَ تَقْديرُهُ في مَبْحَثِ التَّفْسيرِ، أَوْ هُوَ مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، والتقديرُ: لَوْ يَعْلَمُونَ وَقْتَ عَدَمِ كَفِّ النَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيرِهِ "الكَشَّاف": وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "يَعْلَمُ" مَتْرُوكًا بِلَا تَعْدِيَةٍ بِمَعْنَى: لَوْ كَانَ مَعَهُمْ عِلْمٌ وَلَمْ يَكونُوا جَاهِلِينَ لَمَا كَانُوا مُسْتَعْجِلِينَ. وَ "حِينَ" مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كانُوا عَلى الباطلِ، وَعَلَى هَذَا فَـ "حِينَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَفْعُولَ العِلْمِ "أَنَّهُمْ كانُوا". وَقَالَ الشيْخُ أَبو حَيَّان الأنْدلُسيُّ في تَفْسِيرِهِ "البَحْرُ المُحيطُ": وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ "يَعْلَمُ" مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذينَ كَفَرُوا مَجِيْءَ المَوْعُودِ الَّذي سَأَلُوا عَنْهُ وَاسْتَبْطؤوهُ. وَ "حِينَ" مَنْصوبٌ بِالْمَفْعُولِ الذي هُوَ "مَجِيءَ". وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ بَابِ الإِعْمَالِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَأُعْمِلَ الثاني. وَالمَعْنَى: لَوْ يَعْلَمُونَ مُباشَرَةَ النَّارِ حِينَ لَا يَكُفُّونَهَا عَنْ وُجُوهِهِمِ. وَ "لَا" نافِيَةٌ. و "يَكُفُّونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ، لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "عَنْ" حَرْفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ: "يَكُفُّونَ"، وَ "وُجُوهِهِمُ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضَافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، والمِيمُ: علامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "النَّارَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ" الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ، وَ "لَا" زَائدَةٌ، فقد زِيدَتْ لِتَأْكِيدِ نَفْيِ مَا قَبْلَهَا. وَ "عَنْ ظُهُورِهِمْ" جارٌّ ومَجْرورٌ معطوفٌ عَلى الجَارِّ والمَجْرُورِ قَبْلَهُ، وَلَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإِضِافَةِ "حِينَ" إِلَيْها.
قولُهُ: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "لَا" نَافِيَةٌ. و "هُمْ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ، وَ "يُنْصَرونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَبنيٌّ للمَجْهولِ، مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ نائبًا عَنْ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ، عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "يَكُفُّونَ" عَلَى كَوْنِهَا مَضَافًا إِلَيْهِ. لِـ "حِينَ".