وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ
(86)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} تَقَدَّمَ أَنْ ذَكَرْنَا في تَفْسيرِ مَا سَبَقَ مِنْ الآياتٍ قبلُ، وَالَّتي تَحَدَّثَتْ عَنِ هَؤُلَاءِ الأَنْبِيَاءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أَنَّ النُّبُوَّةَ هِيَ المُرَادَ بِالرَّحْمَةِ، وكَذَلِكَ هُنَا، فالرَّحمةُ بِمَعْنَى النُّبُوَّةِ، الَّتي هِيَ رَحْمَةٌ عُظْمَى، وَعَطَاءٌ كَبِيرٌ، وَأَمْرٌ جَلَلٌ، يَسْتَحِقُّ مِمَّنْ شَمَلَتْهُ هَذِهِ الرَّحْمَةُ، وَخَصَّهُ اللهُ تعالى بِهَا، أَنْ يَتَحَمَّلَ مِنْ أَجْلِها المَتَاعِبَ والمَصاعبَ وَالمَشَاقَّ، وَيَسْلُكَ الحَزْنَ العَسيرَ، وَلَا غَضَاضَةَ فِي ذَلِكَ، فإِنَّ المِنْحَةَ عَظِيمَةَ، وَالمَقَامَ رفيعٌ، والأَجْرَ عَظِيمٌ.
هذا ما قَالَهُ مُقَاتِلٌ: أَنَّ الرَّحْمَةَ النُّبُوَّةُ، وَقَالَ الحَسَنُ البصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا، وَهِيَ الجَنَّةُ، وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ يَتَنَاوَلُ جَميعَ أَعْمَالِ البِرِّ وَالخَيْرِ. وَجَائِزٌ أَنْ يَكونَ جَميعُ مَا نَالُوا مِنَ الصَّبْرِ والصَّلاحِ، كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ رَحْمَةَ اللهِ وَفَضْلِهِ، فَمَنْ حظِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الخَيْرَاتِ والعِباداتِ والطَّاعاتِ فإنَّما يَنَالُهُ بِرَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى وفضلِهِ
والدخُولُ في هَذِهِ الرَّحْمَةِ يَعْنِي أَنْ تَشْمَلَهُمْ رَحْمَةُ اللهِ ـ تباركَ وَتَعَالَى، وتغشاهُمْ، وَتُغَطِّيهم مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَوَجْهٍ، فهُوَ أَبْلَغُ مِنْ لَوْ أَنَّهُ قِيلَ: رَحِمْنَاهُمْ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} هُوَ تَعْلِيلٌ لِإِدْخَالِ الأَنْبِياءِ السَّابِقِ ذِكْرُهِمْ فِي رَحْمَتِهِ ـ جَلَّ وعَزَّ، وَتَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ مُفِيدٌ بِأَنَّ تِلْكَ هِيَ سُنَّةُ اللهِ مَعَ جَمِيعِ الصَّالِحينَ مِنْ عِبادِهِ.
قولُهُ تَعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} الوَاوُ: حرفُ عطْفٍ، و "أَدْخَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحِرِّكٍ، هُوَ "نا" المعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، وضَميرُ التعظيمِ هَذا مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المفْعُولِيَّةِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَدْخَلْنا"، و "رَحْمَتِنَا" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "نَا" التعظيمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، والتَّقْديرُ: فَأَعْطَيْنَاهُمْ ثَوابَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ.
قولُهُ: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسَخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "الهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ"، والميمُ: للجمعِ المُذَكَّرِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بخبرِ "إِنَّ" المُقدَّرِ و "الصَّالِحِينَ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" منِ اسْمِها وخبرِها جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.