وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ
(47)
قوْلُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} أَيْ: وَنُقيمُ المَوَازينَ العَدْلَ. بَيَانٌ لِمَا سَيَقَعُ يومَ القيامةِ عِنْدَ حصولِ مَا أُنْذَرَ بِهِ المُشْركونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطَّبَريُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقَسْطَ" الْآيَةَ. قَالَ: هُوَ كَقَوْلِهِ: {وَالْوَزْنُ يَوْمئِذٍ الْحَقُّ} الآيَةَ: 8، مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَ "المَوَازين" هو جَمْعٌ مفردُهُ: مِيزَانٍ، وَأَصْلُ "مِيزان" هو "مِوْزان". مِنْ قولِكَ: وَزَنَ، يَزِنُ، وزْنًا، وزِنَةً. قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ المُطفِّفينَ: {وَإِذَا كالوهُمْ أَوْ وَزَنوهمْ يُخْسِرونَ} الآيةَ: 3. وَقالَ الشَّاعرُ قَعْنَبُ بْنُ أُمِّ صاحِبٍ الغَطَفانيُّ:
مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ، ثُمَّ لَيسَ لَهُمْ .... عَهْدٌ، وَلَيْسَ لهم دِيْنٌ، إِذَاْ ائْتُمِنُوْا
شِبْهُ العَصَافِيرِ أحلامًا وَمَقْدِرَةً ........... لَوْ يُوْزَنونَ بِزِقِّ الرِيْشِ مَا وَزِنُوْا
جَهْلًا عَلَيْنَا وَجُبْنًا عَنْ عَدُوِّهِمْ ......... لَبِئْسَتِ الخِلَّتَانِ الجَهْلُ وَالجُبُنُ
وَوازَنَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مُوَازَنَةً وَوِزانًا، وَوازَنَ شَيْءٌ شَيْئًا، إِذَا كَانَ مُحاذِيَهُ أَوْ عَلَى زِنَتِهِ. وَقَوْلُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ سُورَةِ الحِجْرِ: {وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} الآيَةَ: 19، أَي مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُوزَنُ نَحْوُ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، والذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، وَقِيلَ: هُوَ القَدْرُ الْمَعْلُومُ وَزْنُهُ وَقَدْرُهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى. فالمِيزانُ: المِقْدارُ؛ وقولُهُ:
قَدْ كُنْتُ قَبْلَ لقائِكُمْ ذَا مِرَّةٍ، ............... عِنْدي لِكُلِّ مُخاصِمٍ ميزانُه
يَعْني: عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ قَدْر مَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُجابَ بِهِ مِنَ الكَلَامِ. وَيقولنَ: قَامَ مِيزانُ النَّهَارِ إذا انْتَصَفَ. وَفِي الحَدِيثِ الشَّريفَ: "سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِه وزِنَةَ عَرْشِهِ". أَيْ: بوَزْن عَرْشِهِ فِي عِظَمِ قَدْرِهِ، جاءَ ذلكَ فيما أخرجَهُ مُسلمٌ وغيرُهُ مِنْ حديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ جُوَيْرِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ، فَقَالَ: ((مَا زِلْتِ عَلَى الْحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟)). قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ في مُسْنَدِهِ: (6/324). والبُخَارِي في: (الأدب المفرد): (647). وَمُسْلِمٌ في صحيحِهِ: (8/83). وابْنُ ماجَةَ في سُنَنِهِ: (3808). وَالتِّرمِذِيُّ جامِعِهِ: (3555) والنَّسائيُّ في سُنَنِهِ: (3/77). وَابْنُ خُزَيْمَةَ في صَحِحِهِ: (753).
وأَوْزانُ العَرَبِ: مَا بَنَتْ عَلَيْهِ أَشْعَارَهَا، وَاحِدُهَا وَزْنٌ، وَقَدْ وَزَنَ الشِّعْرَ وَزْنًا فَاتَّزَنَ؛ وَهَذَا الْقَوْلُ أَوْزَنُ مِنْ هَذَا أَيْ: أَقْوَى وأَمْكَنُ.
وَوَزُنَ الشَّيْءُ وَزَانةً: أيْ: ثَقُلَ وَثَبَتَ، وَرَسَخَ في مَكانِهِ، فَلَمْ يَتَزَحْزَحْ عَنْهُ.
ومِيزانُ الشَّيْءِ: عَدْلُهُ ومُساويهِ. وَوَازَنَهُ: عَادَلَهُ وَقَابَلَهُ. فَهُوَ وَزْنَهُ، وزِنَتَهُ. ووِزانُهُ، وَبِوِزانِهِ أَيْ: قُبَالَتَهُ.
وَيقالُ وَزَنَ الشَّيْءُ شَيْئًا: إِذا وُوزِنَ بِهِ فَرَجَحَ عَلَيْهِ؛ ومِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الأَعْشَى التَّمِيمِيِّ:
وإِنْ يُسْتَضافُوا إِلى حُكْمِهِ، ................. يُضافُوا إِلى عادِلٍ قَدْ وَزَنْ
وَأَيْضًا الوَزْنُ: العَدْلُ، كَمَا فِي قوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} الآيتان: (8 و 9).
والوَزْنُ أَيْضًا: القدْرُ، قالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}
الآية: 105، أَيْ لَا نُقيمُ لَهُمْ قَدْرًا.
وصاحِبُ المِيزانِ يَوْمَ القِيامَةِ، المُكَلَّفُ بأَنْ يَزِنَ أَفْعالَ العِبادِ ـ فِيمَا قَالَهُ حُذَيْفَةُ بْنُ اليَمَانِي ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: هُوَ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَيَقُولُ لَهُ رَبُّهُ: زِنْ بَيْنَهُمْ. أَخْرَجَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللَّالْكاني فِي سُنَنِهِ.
وَ "القِسْط" في اللُّغَةِ: العَدْلُ، تَقُولُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُقْسِطٌ وَهُمْ مُقسِطُونَ. قالَ ـ تَعَالى، في الآيةِ: 42، مِنْ سُورةِ المائدَة: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط إِنَّ الله يُحِبُّ المُقْسِطِينِ}، وقالَ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الحُجُرَاتِ: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الآية: 9. وَقالَ مِنْ سُورةِ المُمْتَحِنَةِ: {لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} الآيةَ: 8.
والقِسْطُ أَيْضًا: مِكْيَالٌ، مِقْدَارُهُ نِصْفُ صَاعٍ.
والقِسْطُ: الحِصَّةُ والنَّصيبُ مِنَ القِسْمَةِ.
وَالقُسْطُ ـ بِضمِّ القافِ: اسْمُ نَوْعٍ مِنَ العَقاقيرِ الطُّبِّيَّةِ يُتَّخَذُ مِنْ عَقَاقِيرِ البَحْرِ.
والقُسْطُ ـ بِضَّمِ القافِ أَيْضًا: عَيْبٌ فِي الدَّابَّةِ وَمَعْنَاهُ انْتِصَابٌ في قائِمَتَيْها الأَمَامِيَّتَيْنِ، لَأَنَّهُم يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَكونَ فِيهِما القَليلُ مِنَ التَّقَوُّسِ وَالانْحِنَاءِ وَالتَوْتيرِ، لِتَكونَا أَقْوَى، وَتَكونُ الدَّابَّةُ أَكْثَرَ اتِّزِانًا وَثَبَاتًا بِراكِبِهَا عَلَى الأَرْضِ. فَيُقَالُ: هَذَا فَرَسٌ أَقْسَطُ، إِذَا كانَ بَيِّنَ القَسَطِ، مُسْتَقيمَ اليَدَيْنِ، دونَ أَيِّ اعْوِجاجٍ.
والقُسُوطُ: العُدُولُ عَنِ الحَقِّ، والظُّلْمُ والجَوْرُ. يُقَالُ قَسَطَ، يَقْسِطُ، قُسُوطًا، فهُوَ قاسِطٌ، أَيْ: ظالمٌ، وَهُمْ قاسِطُونَ، أَيْ: َظالِمُونَ، جائرونَ، مائلونَ عَنِ الحقِّ. قالَ ـ تَعَالى، في الآيَةَ: 15، مِنْ سُورَةِ الجِنِّ: {وَأَمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبَا}.
وُقد جاءَ "القِسْطُ" هُنَا صِفَةً لـ "المَوَازين" وَإِنْ كَانَتْ مُفْردَةً وَلَيْسَتْ جَمْعًا مِثْلَ "المَوَازين"، فَهُوَ عِنْدَ الفَرَّاءِ كَقَوْلِكَ للقَوْمِ: أَنْتُمْ رِضًا وَعَدْلٌ. "معاني القرآنِ" للفَرَّاءِ: (2/205).
وقالَ أَبو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ: وَ "قِسْطٌ" مِثْلُ: عَدْلٍ، مَصْدَرٌ يُوصَفُ بِهِ. فَتَقُولُ: مِيزانٌ قِسْطٌ، وَمِيزَانانِ قِسْطٌ، وَمَوَازِينُ قِسْطٌ، وَالمَعْنَى: ذَوَاتُ قِسْطٍ: "مَعاني القُرْآنِ وإعرابُهُ" لَهَ: (3/394).
قولُهُ: {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أَيْ: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ، مِنْ قُبُورِهم ـ وَغَيْرِها مِنْ الأَمَاكِنِ التي هُمْ فيها أَيْنَما تَوَاجَدتْ جثَثُهمْ وَأَشْلاؤُهُمْ، أَوْ أَجْزاؤهَا. فَيُحاسِبُهُمْ اللهُ ـ تَعَالَى، رَبُّهم عَلى مَا قَدَّمُوا مِنْ عَمَلٍ في حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا، وَيَجْزي كُلًّا منْهمْ بِمَا عَمِلَ إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإِنْ شَرًّا فَشَرٍّ.
وقدِ اخْتَلَفُ أَهْلُ التَّفْسيرِ والتَّأويلِ فِي مَوَازِينِ يَومِ القِيَامَةِ، مَا هِيَ؟. فَقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: هُوَ مِيزانٌ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ، وَهُوَ بَيْدِ جِبْرِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَرُوِيَ: "أَنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْمِيزَانَ، فَلَمَّا رَآهُ، غُشِيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَفَاقَ، قَالَ: (يَا إِلَهِي مَنِ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَمْلَأَ كِفَّتَهُ حَسَنَاتٍ؟). فَقَالَ: (يَا دَاوُدُ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عَنْ عَبْدِي مَلَأْتُهَا بِتَمْرَةٍ).
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ في "نَوَادِرُ الْأُصُولِ" لَهُ، وَابْنُ أَبي حَاتِم في تفسيرِهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ، قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ تَرَى رَقِيقَنَا؟ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ صَلاتَنَا، وَيَصُومُونَ صِيَامَنَا، نَضْرِبُهُمْ؟. فَقَالَ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ: ((تُوزَنُ ذُنُوبُهُمْ وَعُقُوبَتُكُمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عُقُوبَتُكُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذُنُوبِهِمْ، أَخَذُوا مِنْكُمْ)). قَالُوا: أَفَرَأَيْتَ سَبَّنَا إِيَّاهُمْ؟. قَالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((تُوزَنُ ذُنُوبُهُمْ وَأَذَاكُمْ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ أَذَاكُمْ إِيَّاهُمْ أَكْثَرَ أُعْطُوا مِنْكُمْ)). قَالَ الرَّجُلُ: مَا أَسْمَعُ عَدُوًّا أَعْرَبَ إِلَيَّ مِنْهُمْ. فَتَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ، قولَهُ ـ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ: "وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا")). قَالَ الرَّجُلُ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَدِي أَضْرِبُهُمْ؟. قَالَ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ: ((إِنَّكَ لا تُتَّهَمُ فِي وَلَدِكَ، وَلَا تَطِيبُ نَفْسُكَ تَشْبَعَ وَيَجُوعُوا، وَلَا تَكْتَسِيَ وَيَعْرُوا)).
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبي زِيَادٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ لِي مَالًا، وَإِنَّ لِي خَدَمًا، وَإِنِّي أَغْضَبُ، فَأَعْزِمُ، وأَشْتُمُ، وَأَضْرِبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تُوزَنُ ذُنُوبُهُ بِعُقُوبَتِكَ، فَإِنْ كَانَتْ سَوَاءً، فَلَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَتِ الْعُقُوبَةُ أَكَثَرَ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). فَقَالَ الرَّجُلُ: أُوهِ أُوهِ. يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتي؟. أُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ مَمَالِيكي أَحْرَارٌ، أَنَا لَا أُمْسِكُ شَيْئًا يُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِي لَهُ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: فَحَسِبْتُ مَاذَا؟. أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَنَضَعُ المَوَازينَ الْقِسْطَ"؟)). الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ أَيْضًا، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَقولُ فِي ضَرْبِ المَمَاليكِ؟. قَالَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي كُنْهِهِ وَإِلَّا أُقِيدَ مِنْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَقولُ فِي سَبَّهِمْ؟. قَالَ: ((مِثْلُ ذَلِكَ)). قَالَ: يَا رَسُول اللهِ، فَإنَّا نُعَاقِبُ أَوْلَادنَا، وَنَسُبُّهُمْ. قَالَ: ((إِنَّهُمْ لَيْسُوا أَوْلَادَكُم لِأَنَّكُمْ لَا تُتَّهَمُونَ عَلى أَوْلَادِكُمْ)).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، فِي تَهْذِيبِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أُمِّ المؤمنينَ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ الصِّدِّيقةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَجُلًا قَعَدَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: (يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ لِي مَمْلُوكِينَ يَكْذِبُونَنِي، وَيَخُونُونَنِي، وَيَعْصُونَنِي، وَأَشْتُمُهُمْ، وَأَضْرِبُهُمْ، فَكَيْفَ أَنَا مِنْهُمْ؟). قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((يُحْسَبُ مَا خَانُوكَ وَعَصَوْكَ وَكَذَّبُوكَ، وَعِقَابُكَ إِيَّاهُمْ، فَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ كَفَافًا لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ عِقَابُكَ إِيَّاهُمْ دُونَ ذُنُوبِهِمْ، كَانَ فَضْلًا لَكَ، وَإِنْ كَانَ عقابُكَ إِيَّاهم فَوْقَ ذُنُوبِهِمُ اقْتُصَّ لَهُمْ مِنْكَ الْفَضْلُ)). قَالَتْ: فَتَنَحَّى الرَّجُلُ، فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَهْتِفُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَا تَقْرَأُ كِتَابَ اللهِ تَعَالَى: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا")). فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلِهَؤُلَاءِ شَيْئًا خَيْرًا مِنْ مُفَارَقَتِهِمْ، أُشْهِدُكَ أَنَّهُمْ أَحْرارٌ كُلُّهُمْ).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْبَعْثُ والنُّشُورُ)، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: يُجَاءُ بِالنَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْمِيزَانِ، فَيَتَجَادَلونَ عِنْدَهُ أَشَدَّ الْجِدَالِ.
قولُهُ: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أَيْ: فَلَا تُظْلمُ نفسٌ مِنَ النُّفُوسِ شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ، فَلَا يَنْقُصُ شَيْءٌ مِنْ ثَوَابِ حَسَنَاتِها المَوْعُودِ، وَلَا يُزَادُ شَيْءٌ عَلَى عَذَابِ سيِّئاتِهَا المَعْهُودِ، كَمَا قَالَ مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} الآيَةَ: 40، وَكَمَا قَالَ في الآيَةِ: 49، مِنْ سُورةِ الكَهْفِ: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ في التَّوْحِيدِ، باب: (58)، منْ صحيحِهِ، وَمُسْلِمٌ فِي صحيحِهِ: (الدَّعَواتَ) حَديث: (31).
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنْ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتي عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدُّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟. أَظْلَمَتْكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يَا رَبِّ. قَالَ: أَفَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ قَالَ: فَيُبْهَتُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتُخْرَجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَيَقُولُ أَحْضِرُوهُ، فَيَقُولُ يَا رَبُّ فما هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟. فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتِ البِطاقَةُ، قَالَ: وَلَا يَثْقُلُ شَيْءٌ مَعَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) المُسْنَدَ: (2/213). وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ في "الإيمان" باب: 17، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَابْنُ مَاجَهْ في الزُّهْدِ: باب: 35. مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ.
قولُهُ: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} وَقَالَ مِنْ سُورَةِ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} الآيةَ: 16. أَيْ مِقْدَارَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وهِيَ فِي غَايَةِ القِلَّةِ، مُتَنَاهِيَةٌ فِي الصِّغَرِ، وَيُضْرَبُ بِهَا المَثَلُ في الحَقَارَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ"، قَالَ: وَزْنَ حَبَّةٍ.
قولُهُ: {أَتَيْنَا بِهَا} أَيْ: أَحْضَرْنَا ذَلِكَ العَمَلَ مَهْمَا كَانَ صَغِيرًا لا يُلقى إليْهِ بالٌ، حتَّى وَلَوْ كانَ بِوَزْنِ حَبَّةٍ مِنَ الخَرْدَلِ، وقد جَاءَ الضَّميرُ في "بها" مُؤَنَّثًا لإِضَافَتِهِ إِلَى مُؤَنَّثٍ، وَهُوَ الحَبَّةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبي النُّجُودِ ـ رحِمَهُ اللهُ، أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ: "وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا" عَلَى مَعْنَى جِئْنَا بِهَا لَا يَمُدُّ أَتَيْنَا.
وأَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ اللالكانيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، يَرْفَعُهُ: ((إِنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالْمِيزَانِ، فَيُؤْتَى بِابْنِ آدَمَ، فَيُوقَفُ بَيْنَ كِفَّتَيْ الْمِيزَانِ، فَإِنْ رَجَحَ نَادَى الْمَلَكُ بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ، سَعِدَ فُلَانٌ سَعَادَةً لَا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا، وَإِنْ خَفَّ نَادَى الْمَلَكُ شَقِيَ فُلَانٌ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا.
قوْلُهُ: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أَيْ: وَكَفَى بِنَا مُحاسِبينَ لَهُمْ لإِحاطَةِ عِلْمِنا بكلِّ شَيْءٍ، ومُجَازينَ عَلَى مَا قَدَّمُوهُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، مِنْ عملٍ صَالِحٍ، فاسِدٍ. فَلَا مَزيدَ عَلى عِلْمِنَا وَعَدْلِنَا. ولا مَزيدَ عَلى سُرْعتِنا في ذلكَ. وقِيلَ معنى: "حَاسِبِينَ" أَيْ: "مُحْصِينَ".
قوْلُهُ تَعَالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} الواو: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "نَضَعُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى. و "الْمَوَازِينَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "الْقِسْطَ" صِفَةٌ لِـ "الْمَوَازِينَ"، منصوبَةٌ مِثلُهُ. وَقَدْ وُصِفَتْ بِنَفْسِ المَصْدَرِ مُبَالَغَةً. وقدْ أُفْرِد لأَنَّهُ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَالمَصْدَرُ يُوَحَّدُ مُطْلَقًا. وَيَجوزُ أَنْ يكونَ منصوبًا عَلَى حَذْفِ مُضافٍ. وَيجوزُ أَنْ يكونَ نَصْبُهُ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: لِأَجْلِ القِسْطِ. إِلَّا أَنَّ في هَذَا نَظَرًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ المَفْعُولَ لَهُ إِذَا كانَ مُعَرَّفًا بِـ "أَلْ" يَقِلُّ تَجُرُّدُهُ مِنْ حرْفِ العِلَّةِ، فتَقولُ: جِئْتُ لِلإِكْرَامِ، وَيَقِلُّ: جِئْتُ الإِكْرَامَ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ الرَّاجِزِ:
لَا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجاءِ ................... وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ
وَ "لِيَوْمِ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ، واللَّامُ فِيهِ بِمَعْنَى "فِي" مُتَعَلِّقٌ بـ "نَضَعَ"، وَإِلى هذا ذَهَبَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ مَالِكٍ. وَهُوَ رَأْيُ الكُوفِيِّينَ، وَمِنْهُ عِنْدَهُمْ قولُهُ تَعالى في الآيةِ: 187، مِنْ سُورةِ الأَعْرافِ: {لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ مِسْكِين الدَّارِمي:
أُولَئِكَ قَوْمي قَدْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ ....... كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ عادٌ وَتُبَّعُ
وَكَقَوْلِ الحَكَمِ بْنِ صَخْرٍ:
وكُلُّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ عُمِّرا مَعًا ................ مُقِيْمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفاقِدُ
وَثمَّةَ وَجْهٌ آخَرُ في هَذِهِ اللَّامِ ذكرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ، قَالَ: مِثْلُهَا فِي قَوْلِكَ: جِئْتُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ مِنْ الشَّهْرِ، وَمِنْهُ بَيْتُ النَّابِغَةِ:
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لَهَا فَعَرَفْتُها ................. لِسِتَّةِ أَعْوامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ
وَقيلَ: هِيَ عَلى بابِها مِنَ التَّعْليلِ، وَلَكِنْ عَلى حَذْفِ مُضَافٍ. أَيْ: لِحِسابِ يَوْمِ القِيامَةِ. وَ "يَوْمِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَ "القِيَامَةِ" مَجْرُورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَقْريعٍ. و "لا" نَافِيَةٌ. و "تُظْلَمُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَغَيَّرُ الصِّيغةِ مَبْنِيٌّ للمَفعولِ، مرفوعٌ لِتَجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازم، و "نَفْسٌ" نائِبٌ عَنِ فاعِلِهِ مرفوعٌ. و "شَيْئًا" منصوبٌ عَلى المَصْدَرِ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَيْ: شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَفْعُولَ "تُظْلَمُ" الثاني، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "نَضَعُ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. وَ "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ. و "كَانَ" فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ مبنيٌّ على الفتْحِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَاسْمُهَا ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيها جوازًا تقديرُهُ: (هو) يَعُودُ عَلَى العَمَلِ. وَ "مِثْقَالَ" خَبَرُ "كَانَ" منصوبٌ بِها، وَهوَ مُضَافٌ. و "حَبَّةٍ" مجرورُ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "مِنْ" حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "حَبَّةٍ"، وَ "خَرْدَلٍ". وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مَعَ شَرْطِها وجوابه مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {أَتَيْنَا بِهَا} أَتَيْنَا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" عَلَى كَوْنِهِ جَوَابَ شَرْطٍ لَهَا. وَ "نا" التعظيم هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ في مَحَلِّ الرَّفعِ على الفاعِلِيَّةِ. و "بِهَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَتَيْنَا"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ، مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَقد أُنِّثَ هَذا الضَّمِيرُ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى مُؤَنَّسٍ وهو "حَبَّةٍ".
قوْلُهُ: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} الواوُ: عاطِفَةٌ. و "كَفَى" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المقدَّرِ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ. و "بِنَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ زائدٍ، و "نا" ضَمِيرُ المُعظِّمِ نَفسَهُ، مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِ الزائد، لفظًا، مرفوعٌ محلًّا كونِهِ فاعلَ "كفى". و "حَاسِبِينَ" مَنْصُوبٌ عَلى أَنَّهُ تَمْييزٌ لِفَاعِلِ "كَفَى"، أَوْ على أَنَّهُ حالٌ مِنْهُ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّر السَّالمِ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ. وَالجُمْلَةُ مَعْطَوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ على كونِها مُسْتَأْنَفَة لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قرأَ الجُمهورُ: {القِسْطَ} بالسِّينِ، وَقُرِئَ أَيْضًا: "القِصْطَ" بِالصَّادِ لأجْلِ مُجانسَةِ الطاءِ بعدَها.
قَرَأَ الجمهورُ: {مِثْقَالَ} بالفتِحِ، عَلَى أنَّهُ خبرُ "كانَ" الناقِصَةِ، واسْمُهَا مُضْمَرٌ تقديرٌهَ: وإنْ كان العملُ مِثقالَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ هُنَا وَفِي سورةِ لقمانَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّ "كانَ" فعلٌ تامٌّ، والتقديرُ: وَإنْ وُجِدَ مِثْقالُ.
وقرأ العامَّة: {أَتَيْنَا} مِنَ الإِتيانِ بِقَصْرِ الهَمْزةِ، أَيْ: جِئْنَا بِهَا، وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، وهوَ تَفْسيرُ مَعْنًى لَا تِلاوَةٌ. وَقَرَأَ حُمَيْدُ: "أَثَبْنا" مِنَ الثَّوابِ. وَقَرَأَ ابْنُ عبَّاسٍ، وَمُجاهدٌ، وَحُمَيْدٌ، وابْنُ أَبي إِسْحَاقَ، والعَلاءُ بْنُ سيابةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: "آتَيْنا" بِمَدِّ الهَمَزَةِ وَفيها أَوْجُهٌ:
أَحَدُهُا: أَنَّهُ على وزنِ "فَاعَلْنا" مِنَ المُؤَاتَاةِ، وَهِي المُجَازَاةُ وَالمُكافَأَةُ. وَالْمَعْنَى: جَازَيْنا بِهَا، وَلِذَلِكَ تعَدَّى بالباءِ.
ثانيها: أَنَّهَا مُفاعَلَةٌ مِنَ الإِتْيانِ، بِمَعْنَى المُجَازاةِ والمُكافَأَةِ، لِأَنَّهم أَتَوْهُ بِالأَعْمالِ وَأَتاهم بالجزاءِ.
ثالثُها: أَنَّهُ على وزْنِ "أفْعَل" مِنَ الإِيتاءِ. وَهُوَ وهمٌ وَغَلَطٌ. فقد قالَ ابْنُ عطيَّةَ: وَلو كان "آتَيْنا": أَعْطَيْنَا، لَمَا تَعَدَّى بِحَرْفِ جرٍّ. وَيُوَهِّنُ هَذَهِ القِراءَةَ أَنَّ بَدَلَ الواوِ المَفْتُوحَةِ هَمْزَةً ليسَ بِمَعْروفٍ، وَإِنَّما يُعْرَفُ ذَلِكَ في المَضْمومَةِ وَالمَكْسُورَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا القَارِئِ أَنْ يَقْرَأَ: "واتَيْنَا" مِثْل واظَبْنا؛ لأَنَّها مِن َالمُواتَاةِ عَلَى الصَّحِيحِ، فَأَبْدَلَ هَذا القارِئُ الواوَ المَفْتُوحَةَ هَمْزَةَ. وَهُوَ قَليلٌ، وَمِنْه أُخِذَ واتاه.
وقالَ العُكْبُرِيُّ أَبُو البَقَاءَ: وَيُقْرَأُ بِالْمَدِّ بِمَعْنَى جَازَيْنا بِهَا، فَهُوَ يَقْرُبُ مِنْ مَعْنَى أَعْطَيْنا؛ لِأَنَّ الجَزَاءَ إِعطاءٌ، وليس منقولًا مِنْ "أَتَيْنا"، لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْهُمْ. وَالأَوَّلُ أَصَحُّ الوجوه. والله أعلم.