فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ
(15)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أَيْ: فَمَا زَالُوا يُرَدِّدونَ تِلْكَ الكَلِمَةَ وَيَدعونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بالهلاكِ. وَالمُشارُ إِلَيْهِ بـ "تِلْكَ" هُوَ قَوْلُهُم وَمَقَالَتُهم: {يَا وَيْلَنَا} واعْتِرافُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالظُّلْمِ. فَقدْ ظَلُّوا يَدْعُونَ على أَنْفُسِهِمْ بهذا الدُّعاءِ {يَا وَيْلَنَا} حَتَّى هَلَكوا جَمِيعًا.
وَقد سُمِّيَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْهُم دَعْوَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ هُوَ الدُّعَاءُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْوَيْلِ، وَالدُّعَاءُ يُسَمَّى دَعْوَى كَمَا هو فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ يونُس ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ} الآيَةَ: 10.
قوْلُهُ: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} حَصِيدًا: الحَصيدُ هُنَا بِمَعْنَى "الْمَحْصُودٍ" مِنَ النَّباتِ والزُّروعِ، كَ "فَعِيلٍ" بِمَعْنَى "مَفْعُولٍ"، وَيُطْلَقُ عَلَى المُفْرَدِ والمُثَنّى والجَمْعِ؛ وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُ الْحَصِيدِ عَلَى الزَّرْعِ الْمَحْصُودِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْجَامِدِ. قَالَ السُّدِّيُّ: الحَصِيدُ الذي قَدْ حُصِدَ، والحَصْدُ: قَطْعُ الاسْتِئْصَالِ كَحَصَادِ الزُّروعِ. وفي الصِّحَاحِ: حَصَدْتُ الزَرْعَ وَغَيْرَهُ أَحْصِدُهُ وأَحْصُدُهُ حَصْدًا. والزَّرْعُ مَحْصُودٌ، وَحَصِيدٌ. والمِحْصَدُ: المِنْجَلُ. وأَحْصَدَ الزَّرْعُ وَاسْتَحْصَدَ: حَانَ لَهُ أَنْ يُحْصَدَ. وَهَذَا زَمَنُ الحَصَادِ والحِصَادِ. وَحَبْل مُحْصَدٌ وحَصِدٌ: أَيْ: مَفْتُولٌ مُحْكَمٌ. وَالجَمْعُ حَصائدُ، وَفِي حَديثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ، قَالَ: ((لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رمضَانَ، وتَحُجُّ البَيْتَ، ثمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جِنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلاَ: {تَتَجَافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ} حَتَّى بَلَغَ {يَعْمَلُونَ}. ثُمَّ قالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟. قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإنَّا لَمُؤَاخِذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ به؟! فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبَّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، والنَّسائِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، والحاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُويَهِ، وَالبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ.
وَ "خَامِدينَ" مَيِّتِينَ. وهو مِنْ قولِكَ خَمَدَتِ النَّارُ: إِذا انْطَفَأَتْ وَتَرَمَّدَتْ. وَقالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: "خامِدينَ" يَعْني: بِالْسَّيْفِ. أَيْ حَتَّى قَتَلَهُمْ بُخْتَنَصَّرُ. وَقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: بِالعَذاب. أَيْ الذي نَزَلَ فِيهِمْ، وحَلَّ عَلَيْهِم. والخُمُودُ: الهُمُودُ كالنَّارِ إِذَا أُطْفِئَتْ فإِنَّها تَهْمَدُ ويَذهَبُ ضوؤها وحَرارَتُها ويَتلاشى أُوارُها، فَشَبَّهَ خُمُودَ الحَيَاةِ في هَؤلاءِ المُهْلَكِينَ بِخُمُودِ النَّارِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ مَاتَ دونَ أَنْ يُخلِّفَ وَلَدًا يستمرُّ بِهِ ذِكْرُهُ، قَدِ انْطَفَأَ فُلانٌ تَشْبِيهًا لِمَوْتِهِ وَانْقِطاعِ ذِكْرِهِ وَتَلَاشِي أَثَرِهِ بِانْطِفاءِ النَّارِ.
وَقَالَ الجَوْهَرِيُّ في الصِّحاحِ: خَمَدَتِ النَّارُ: سَكَنَ لَهَبُهَا وَلَمْ يَطْفَأُ جَمْرُها. وَهَمَدَتْ، إِذَا طُفِئَ جَمْرُها. وَخَمَدَتِ الحُمَّى: سَكَنَ فَوَرانُها. وَخَمَدَ المَريضُ: أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ مَاتَ. وَقالَ ابْنُ مَنْظورٍ في اللِّسانِ: خَمَدَتِ النَّارُ تَخْمُدُ خُمُودًا سَكَنَ لَهَبُها وَلَمْ يُطْفَأْ جَمْرُهَا، وَهَمَدَتْ هُمُودًا إِذَا أُطْفِئَ جَمْرُهَا البَتَّةَ. وَقَوْمٌ خَامِدُونَ لَا تَسْمَعُ لَهُمْ حِسًّا، وَمِنْ ذَلِكَ قولُهُ في التَنْزيلِ العَزيزِ: {إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} الآية: 29، مِنْ سُورَةِ (يس). قَالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ في كتابِه "معاني القرآنِ وإعرابُه: فَإِذَا هُمْ سَاكِتُونَ قَدْ مَاتُوا وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الرَّمَادِ الخامِدِ الهَامِدِ، ومِنْهُ قَولُ لَبِيدِ بْنِ ربيعةَ:
وَجَدْتُ أَبي رَبيعًا لِلْيَتَامَى .................... وللضِّيفانِ إِذْ خَمَدَ الفَئِيدُ
وَالفَئِيدُ: هِيَ النَّارُ، أَي: إِذَا أُسْكِنَ لَهَبُهُا باللَّيلِ لِئَلَّا يَضْوِيَ إِلَيْهَا ضَيْفٌ أَوْ طارِقٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} الفاءُ: عاطفَةٌ. و "ما" نَافِيَةٌ. و "زَالَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ ناقِصٌ مِنْ أَخَوَاتِ "كَانَ"، والتاءُ لِتَّأْنيثِ اسْمِها، وَ "تِلْكَ" اسْمُ إِشَارةٍ للمُؤنَّثِ مَبْنيٌّ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُ "زَالَ"، وَقَدِ اكْتَسَبَ التَّأْنِيثَ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِدَعْوَاهُمْ، أَيْ مَا زَالُوا يُكَرِّرُونَ تِلْكَ الْكَلِمَةَ يَدْعُونَ بِهَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ. واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "دَعْوَاهُمْ" خَبَرُ "زالَ" مَنْصُوبٌ بها وعلامةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها عَلى الأَلِفِ، وهوَ مُضافٌ، وَالهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {قَالُوا} مِنَ الآيةِ التي قبلَها على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ. وَقَالَ الحُوفِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، والعُكْبُريُّ بِجَوَازِ أَنْ يكونَ اسمُ الإشارةِ خَبَرَ الفعلِ الناقصِ، وَ "دعواهُمْ" اسُمَها، وَهوَ مَرْدودٌ بِأَنَّهُ إِذَا خَفِيَ الإِعْرَابُ مَعَ اسْتِوائِهِمَا فِي المُسَوِّغِ لِكَوْنِ كُلٍّ مِنْهُما اسْمًا، أَوْ خَبَرًا وَجَبَ جَعْلُ المُتَقَدِّمِ منهما اسْمًا والمُتَأَخِرِ خَبَرًا، وَهُوَ مِنْ بابِ "ضَرَبَ مُوْسَى عِيْسى". كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ في أَوَّلِ سُورَةِ الأَعْرَافِ.
قوْلُهُ: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ متعلق بـ "زَالَتْ". وَ "جَعَلْنَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِهِ مَفْعولَهُ الَأَوَّل. و "حَصِيدًا" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصوبٌ بِهِ لأَنَّ حكمَ "جَعَلْنا" حُكْمَ الواحِدِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: جَعَلَهُ حُلْوًا حَامِضًا؛ أَيْ مِزًّا، وَ "خَامِدِينَ" صِفَةٌ لِـ "حَصِيدًا" مَنْصوبَةٌ مِثْلُهُ، وعلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عِوَضًا مِنَ التَّنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: جَعَلْناهُمْ جَامِعِينَ بَيْنَ الوَصْفَيْنِ جَمِيعًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "خامِدِيْن" حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي "جَعَلْناهم"، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ فِي "حَصِيدًا" فإِنَّهُ فِي مَعْنَى "مَحْصُود". وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ بابِ مَا تَعَدَّدَ فِيهِ الخَبَرُ نَحُوَ: "زيدٌ كَاتِبٌ شَاعرٌ". وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ فِيهِ أَيْضًا أَنْ يَكونَ صِفَةً لِـ "حَصيدًا"، وَ "حَصِيدٌ" بِمَعْنَى "مَحْصود" كَمَا تَقَدَّمَ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ. وَقالَ العُكْبُريُّ: والتقديرُ: مِثْلَ حَصِيدٍ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ كَمَا لَمْ يُجْمَعْ "مِثْل" المُقَدَّر. وَإِذَا كانَ بِمَعْنَى مَحْصُودينَ فَلَا حَاجَةَ. وَجُمْلَةُ "جَعَلْنَا" فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى" عَلَى تَأْويلِهَا بِمَصْدَرٍ، والتَّقْديرُ: إِلَى جَعْلِنَا إِيَّاهُمْ حَصَيدًا خَامِدينَ.