ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ
(65)
قولُهُ ـ تعالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أَيْ: ثُمَّ رَجَعَوا عَمَّا عَرَفُوا مِن الحُجِّةِ لِسَيِّدِنا إِبراهِيمَ ـ عَلَيْهِ السّلامُ.
وَالنَّكْسُ وَالتَّنْكِيسُ: معناهُ قَلْبُ الشَّيْءِ وَرَدُّهُ، وَجَعْلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَمُقَدَّمَهُ مُؤَخَّرَهُ. وَنَكَسَ رَأْسَهُ، ونَكَّسَهُ ـ بالتَّخْفيفِ والتَّشْديدِ، أَيْ: طَأْطَأَ رأْسَهُ حَتَّى صَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، وَهُوَ مِنْ: نَكَسَهُ، يَنْكُسُهُ، نَكْسًا: إِذَا قَلَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَانْتَكَسَ. والنَّاكِسُ: المُتَطَأْطِئُ رَأْسَهُ مِنَ ذُلٍّ، ويُجْمعُ عَلَى: "نَوَاكِس"، وَهُوَ مِنَ الضَّرُورَاتِ الشِّعْريَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الفَرَزْدَقُ:
وإِذا الرِّجَالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأَيْتَهُمْ ........... خُضُعَ الرِّقَابِ نَوَاكِسَ الأَبْصَارِ
وَهُوَ شَاذٌّ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: إِذا كَانَ الفِعْل لِغَيْرِ الآدَمِيِّينَ جُمِعَ عَلَى "فَوَاعِلَ" لأَنَّه لَا يَجُوزُ فِيهِم مَا يَجَوزُ فِي الآدَمِيِّينَ مِنَ الوَاوِ والنُّونِ. في الاسْمِ والفِعْلِ، يُقَال: جِمَالٌ بَوَازِلُ وَعَوَاضِهُ وَقد اضْطُرَّ الفَرَزْدَقُ فيما تقدَّمَ فَقَال: "نَوَاكِسَ الأَبْصَارِ".
والنِّكْسُ بِالكَسْرِ: السَّهْمُ يَنْكَسِرُ فُوقُهُ فيُجْعَلُ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ، ومِنْ ذَلِكَ قَوْلَ الْحُطَيْئةُ:
قَدْ ناضَلُونَا فسَلُّوا مِن كِنَانَتِهِمْ ........... مَجْدًا تَلِيدًا وَعِزًّا غَيْرَ أَنْكَاسِ
والنِّكْسُ: الرَّجُلُ الضَّعِيفُ، وَيُجَمْعُ: أَنْكاسٌ. وَالنِّكْسُ مِنَ الرِّجَالَ: المُقَصِّرُ عَن غايَةِ النَّجْدَةِ والكَرَم. أَنْكاسٌ ومِنْهُ قولُ إِبراهيمُ الحَرْبِيِّ:
رَأْسُ قِوَامِ الدِّينِ وابنُ رَأْسِ ................. وخَضِلُ الكَفَّيْنِ غَيْرُ نِكْسِ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ يَمْدَحُ الصَّحَابَةَ ـ رضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ:
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ ............ عِنْدَ اللِّقاءِ وَلا مِيلٌ مَعَازِيلُ
وَنَكَسَ رأْسَهُ ـ أَيضًا: أَمَالَهُ، كَ "نَكَّسَهُ"، تَنْكِيسًا. والتَّشْديدُ للمُبَالَغةِ في ذَلِكَ، وَقوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 68، مِنْ سُورَةِ "يَس": {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نَنَكِّسْهُ في الخلْقِ}، قَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحْمْزَةُ "نَنْكُسُهُ" بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الكافِ، أَيْ: أَطَلْنا عَمُرَه، وَنَكَّسْنَا خَلْقَهُ، فَصَارَ بَعْدَ ضَعيفًا بعدَ قوَّةٍ، وَهَرِمًا بَعْدَ الشَّبَابِ.
وقالَ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمانُ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ: النِّكْسُ: الرَّجُلُ القَصِيرُ. ونَكِسَ الرَّجُلُ عَنْ نُظَرَائِهِ: قَصَّرَ. والرَّذْلُ. وَمِنَ المَجَازِ قولُهُم للرَّجُلِ الرَّذْلِ: إِنَّهُ لَنِكْسٌ مِنَ الأَنْكاسِ.
وَالوِلاَدةُ المَنْكوسَةُ: هِيَ أَنْ تَخْرُجَ رِجْلَا المَوْلُودِ قَبْل رَأْسِهِ. النَّكْسُ بالفَتْح: عَوْدُ المَرْضِ إلى المَرِيضِ بَعْدَ أَنْ يكونَ قدْ تماثَلَ للشِّفاءِ، وَهُوَ مِنَ المَجَازِ، وعليْهِ قَولُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبي عائِذٍ الهُذَلِيُّ:
خَيالٌ لِزَيْنَبَ قَدْ هَاجَ لِي ................ نُكَاسًا مِنَ الحُبِّ بَعْدَ انْدِمَالِ
وَقِراءَةُ القُرْآنِ مَنْكُوسًا، أَيْ: ابْتِداءُ التِّلَاوَةِ مِنْ آخِرِ المُصْحَفِ ثُمَّ الارْتِفَاعُ إِلَى البَقَرَةِ، نَحْوَ مَا يَتَعَلَّمُهُ الصِّبْيَةُ فِي الكُتَّابِ، والأَعَاجِمُ، وَإِنَّما رُخِّصَ لَهُمْ بِذَلكَ لِصُعُوبَةِ السُّوَرِ الطِّوَالِ عَلَيْهِمْ، فَأَمَّا مَن قَرَأَ القُرْآنَ وَحَفِظَهُ ثُمَّ تَعَمِّدَ أَنْ يَقْرَأَهُ مِنَ آخِرِهِ إِلَى أَوَّلِهِ فَهَذَا هُوَ النَّكْسُ المَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالسُّنَّةُ خِلافُ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنَ المَكْرُوهِ فِي الصَّلاةِ. أَوْ يَبْدَأُ مِنْ آخِرِ السُّورةِ فَيَقْرَأُهَا إِلى أَوَّلِهَا آيَةً فآيَةً مَقْلُوبًا، وَلَعَلَّهُ بِهِ أُوِّلَ كَلامُ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهٌ، حِينَ قيلَ لَهُ: إِنَّ فُلانًا يَقْرَأُ القُرْآنَ مَنْكُوسًا، فَقَالَ: ذَلِكَ مَنْكُوسُ القَلْبِ.
قَوْلُهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنِهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ نِكِسُوا عَلَى رُؤوسِهِمْ" قَالَ: أَدْركْتِ الْقَوْمَ غيرَةُ سُوءٍ فَقَالُوا: "لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقونَ". ذلكَ لأنَّهُمْ عادوا إلى تَعَصُّبِهِمْ إلى آلهتهم التي كانوا يَعْبُدونَها. وعادَ تفكيرُهُمْ إلى الانحرافِ عَنِ الحقيقةِ، والتَّشَبُّثِ بالضَّلالِ. فقدْ أقرُّوا بواقعِ الحالِ وأَنَّ هَذِهِ الأَصْنامُ بكماءُ لا تتكلَّمُ شيْئًا ولا تَنْطِقُ، ومعَ ذلكَ فهم مُصِرُّونَ عَلَى تَقْديسِها وَعِبادَتِها وَالانْتِصارِ لَهَا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرَاخٍ. و "نُكِسُوا" فِعْلٌ ماضٍ مُغَيَّرُ الصِّيغةِ "مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ، مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌّ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ نائِبُ فاعِلٍ، والأَلِفُ فَارِقَةٌ، وَ "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُكِسُوا" أَوْ بِحَالٍ مِنْ وَاوِ الجَماعَةِ، فِي "نُكِسُوا"، أَيْ: حَالَ كَوْنِهِمْ كائِنينَ عَلى رُؤُوسِهِمْ، و "رؤوسِهِمْ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ جَمعِ المُذَكَّرِ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةَ "قالُوا" عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ} لَقَدْ: اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ للْقَسَمِ، و "قد" حَرْفٌ للتَّحْقِيقِ. و "عَلِمْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذوفٍ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ وَجَوَابُهُ مَعْمُولَتانِ لِقَوْلٍ مُضْمَرٍ، وَذَلِكَ القَوْلُ المُضْمَرُ حَالٌ مِنْ الضَّميرِ المَرْفوعِ في "نُكِسُوا" أَيْ: نُكِسُوا قَائِلِينَ وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتَ.
قَوْلُهُ: {مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} مَا: هي الحِجَازِيَّةُ. و "هَؤُلَاءِ" الهاءُ: للتَّنْبيهِ، و "أُولاءِ" اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُ "ما"، وُ "يَنْطِقُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "ما"، وُجُمْلَةُ مَا الحِجَازِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمِ"، إِنْ كَانَتْ يَقِينِيَّةً، أَوْ مَسَدَّ مَفْعُولِهِ إِنْ كانَتْ عِرْفانِيَّةً. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ "ما" تَمِيمِيَّةً لَا عَمَلَ لَهَا. وَالجُمْلَةُ المَنْفِيَّةُ بِأَسْرِهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ المَفْعُولَيْنِ، إِنْ كانَتْ "عَلِمْتَ" عَلَى بَابِهَا، وَمَسَدَّ مفعولٍ وَاحِدٍ إِنْ كَانَتْ عِرْفانِيَّةً كما تقدَّم.
قرَأَ العامَّةُ: {نُكِسُوا} مُخَفَّفَةَ الكافِ مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، والمَعْنَى: نَكَسَهُمُ اللهُ، أَوْ خَجَّلَهُمْ. وَقَرَأَ أَبُو حَيَوَةَ، وَابْنُ أَبي عَبْلَةَ، وابْنُ الجَارُودِ، وابْنُ مِقْسَمٍ: "نُكِّسُوا" بِالتَّشْديدِ. وهيَ لُغَةٌ فِي المُخَفَّفِ، فَلَيْسَ التَّشْديدُ لِتَعْدِيةٍ وَلَا تَكْثِيرٍ. وَقَرَأَ رُضْوَانُ بْنُ عَبْدِ المَعْبودِ: "نَكَسُوا" مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا للفَاعِلِ، وَعَليْهِ فَالمَفْعُولُ هُنَا مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: نَكَسَ قومُ إِبْراهيمَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى رُؤوسِهِم.