وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
قولُهُ ـ جَلَّ وَعَلَا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}
أَيْ: وَهُوَ سُبْحانَهُ، خَلَقَ اللَّيْلَ في ظَلامِهِ وَسُكُونِهِ، وَالنَّهَارَ بِضِيَائِهِ وَأُنْسِهِ، يُطُولُ هَذَا تَارَةً، وَهَذَا أُخْرَى. وَقَدْ خَلَقَهُمَا اللهُ ـ تَعَالَى، يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ؟. فَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((خَلَقَ اللهُ فِي سَاعَتَيْنِ مِنْهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)).
وَخَلْقُ اللَّيْل هُوَ جُزْئيٌّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ خَلْقِ الظُّلْمَةِ الَّتِي أَوْجَدَ اللهُ الْكَائِنَاتِ فِيهَا قَبْلَ خَلْقِ الْأَجْسَامِ الَّتِي تُفِيضُ النُّورَ عَلَى الْمَوْجُودَاتِ، فَإِنَّ الظُّلْمَةَ عَدَمٌ، وَالنُّورَ وُجُودِيٌّ، وَهُوَ ضِدُّ الظُّلْمَةِ، وَالْعَدَمُ سَابِقٌ لِلْوُجُودِ فَالْحَالَةُ السَّابِقَةُ لِوُجُودِ الْأَجْرَامِ النَّيِّرَةِ هِيَ الظُّلْمَةُ، وَاللَّيْلُ ظَلَمَةٌ تَرْجِعُ لِجُرْمِ الْأَرْضِ عِنْدَ انْصِرَافِ الْأَشِعَّةِ عَنِ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا خَلْقُ النَّهَارِ فَإنَّما هُوَ بِخَلْقِ الشَّمْسِ، وَمِنْ تَوَجُّهِ أَشِعَّتِهَا إِلَى النِّصْفِ الْمُقَابِلِ لِلْأَشِعَّةِ مِنَ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ. إِذًا فَخَلْقُ النَّهَارِ كانَ تَبَعًا لِخَلْقِ الشَّمْسِ وَخَلْقِ الْأَرْضِ، وَمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ لِأَشِعَّةِ الشَّمْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِذِكْرِ خَلْقِ الشَّمْسِ عَقِبَ ذِكْرِ خَلْقِ النَّهَارِ مُنَاسَبَةٌ قَوِيَّةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَنْشَأِ خَلْقِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَقَدْ خَلَقَ اللهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ، للشَّمْسَ نُورًا يَخُصُّهَا، وَفَلَكًا تَسِيرُ فِيهِ وَلَا تَحِيدُ عنْهُ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ، فَلَهَا سَيْرُهَا الخاصُّ بُها، وَحَرَكَتُها المَضْبوطةُ، وَزَمَنُها وَتَوْقِيتُها.
وَخلقَ القَمَرَ لَهُ نُورُهُ الخَاصُّ بِهِ، وَفَلَكُهُ، وسَيْرُهُ، وَتَوْقِيتُهُ، وَزَمَنُهُ. وَقَدْ ذَكَرَ خَلْقَ الْقَمَرِ لِمُنَاسَبَةِ خَلْقِ الشَّمْسِ، وَلِلتَّذْكِيرِ بِمِنَّةِ إِيجَادِ مَا يُنِيرُ عَلَى النَّاسِ بَعْضَ النُّورِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ الظُّلْمَةِ مِنَ اللَّيْلِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْمِنَنِ الإلَهِيَّةِ العُظْمَى.
وَلَمَّا كَانَ نَمَطُ إِيجَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مُختلِفًا عَنْ نَمَطِ إِيجادِ غيْرِها مِنَ المَخلوقاتِ الأَخْرَى الَّتي تَقَدَمَ ذِكْرُها فيما سَبَقَ مِنْ آيَةٍ، كَالحَيَوَانَاتِ، والجِبَالِ الرَّواسِي، لِذَلكَ فقَدِ اخْتَلَفَ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى إِيجادِ كُلِّ مِنْهَا، فَجِيءَ هُنَاكَ بـ "جَعَلَ"، وجِيءَ هُنا بِـ "خَلَقَ".
وَلِكَوْنِ الْمِنَّةِ وَالْعِبْرَةِ فِي إِيجَادِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ بالذَّاتِ، لَا فِي إِيجَادِهَا عَلَى حَالَةٍ خَاصَّةٍ، لِذَلِكَ كُلِّهِ فَقَدْ جِيءَ هُنَا بِفِعْلِ الْخَلْقِ لَا بِفِعْلِ الْجَعْلِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ سِيقَتْ هَذِهِ الأَشْيَاءُ الْمَعْدُودَةِ هُنَا، وهِيَ اللَّيْلُ والنَّهارُ، والشَّمْسُ والقمرُ، فِي مَعْرِضِ الْمِنَّةِ أَيضًا لِمَا فِي إِيجَادِهَا مِنْ مَنَافِعَ جَمَّةٍ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَأَتَى ذَلِكَ فِي صِيغَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ الْجُزْأَيْنِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، الَّذي هُوَ قَصْرُ إِفْرَادٍ إِضَافِيٍّ، بِأَنْ نَزَّلَ الْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ أَصْنَامَهُ مُشَارَكَةٌ للهِ تَعَالَى فِي خَلْقِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا عَبَدُوا تَلْكَ الْأَصْنَامَ، لَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَهَا، وَالْعِبَادَةُ مِنَ الشُّكْر، فَقَدْ جَعَلُوهَا شُرَكَاءَ للهِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظيمُ، فَلَزِمَهُمْ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا شَرِيكَةٌ للهِ فِي خَلْقِ مَا خَلَقَ، لِيَنْتَقِلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى إِبْطَالِ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهَا فِي الْإِلَهِيَّةِ.
قولُهُ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} وَكُلٌّ: أَيْ: وَكُلُّ مِنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ، أَوْ: وَكُلٌّ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالشَّمْسِ وَالقَمَرِ.
وَ "فِي فَلَكٍ" فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ الفَلَكَ بِأَنَّهُ مَدَارُ النُّجُومِ، وَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُونَ لِهَذِهِ الْآيَةِ الكَريمَةِ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالغْالِبُ عَلَى الظَنِّ أَنَّهُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ هَذا الكِتابِ الكريمِ، وَمِنْهُ أَخَذَهُ العُلَمَاءُ، وَهُوَ أَحْسَنُ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الدَّوَائِرِ الْمَفْرُوضَةِ الَّتِي تَضْبِطُ سَيْرَ الْكَوَاكِبِ وغَيْرِهَا مِنَ الأَجْرامِ السَّماوِيَّةِ، وَبِخَاصَّةٍ الشَّمْسِ الْقَمَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ" قَالَ: الْفَلَكُ كَهَيئَةِ حَدِيدَةِ الرَّحَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ"، قَالَ: هُوَ فَلَكُ السَّمَاءِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، أَنَّهُ قَالَ: الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، وَالنُّجُومُ، مُسَخَّرَةٌ فِي فَلَكٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَالْظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْقولٌ مِنْ فَلَكِ الْبَحْرِ، وَهُوَ الْمَوْجُ الْمُسْتَدِيرُ، وذلكَ بِتَنْزِيلِ اسْمِ الْجَمْعِ مَنْزِلَةَ الْمُفْرَدِ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلْكَةُ الْمِغْزِلِ، وَهِيَ خَشَبَةٌ مُسْتَدِيرَةٌ فِي أَعْلَاهَا مِسْمَارٌ مَثْنِيٌّ يَدْخُلُ فِيهِ الْصُّوفُ، أَوِ القُطْنُ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، ثمَّ يُدَارُ لِيَفَتِلَ الْغَزْلَ. وَخَيْرُ تَعْبيرٍ عَنْ ذَلِكَ ما جاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضٍيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، قَالَ: يَدُورونَ كَمَا يَدُورُ المِغْزَلُ فِي الفَلْكَةِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَدُورُ فَهُوَ فَلَكٌ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبحونَ"، النُّجُومُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ. قَالَ: كَفَلْكَةِ المِغْزَلِ، قَالَ: هُوَ مِثْلُ "حُسْبَانَ" قَالَ: فَلَا يَدُورُ الْغَزْلُ إِلَّا بِالْفَلَكَةِ، وَلَا تَدورُ الفَلْكَةُ إِلَّا بِالْمِغْزَلِ، وَلَا يَدُورُ الرَّحَى إِلَّا بالحُسْبَانَ، وَلَا يَدُورُ الحُسْبَانُ إِلَّا بالرَّحَى، كَذَلِكَ النُّجُومُ، وَالشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ، لَا يَدُرْنَ إِلَّا بِهِ وَلَا يَدُورُ إِلَّا بِهِنَّ، قَالَ: والحُسْبَانُ والفُلْكُ يَصِيرانِ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، غَيْرَ أَنَّ الحُسْبَانَ فِي الرَّحَى كَالْفَلْكَةِ فِي المِغْزَلِ.
وَمِنْ بَدَائِعِ الْإِعْجَازِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الكريمةِ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ" فِيهِ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ، وَهُوَ أَنَّ حُرُوفَهُ تُقْرَأُ مِنْ آخِرِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا تُقْرَأُ مَنْ أَوَّلِهَا، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المُدَّثِرِ: {رَبَّكَ فَكَبِّرْ} الآيةَ: 3، بِطَرْحِ وَاوِ الْعَطْفِ، فإِنَّ حُرُوفَهُ تُقْرَأُ أَيْضًا مِنْ آخِرِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ كَمَا تُقْرَأُ مَنْ أَوَّلِهَا، مَعَ خِفَّةٍ في التَّرْكِيبِ وَوَفْرَةٍ في الْفَائِدَةِ، وَجَرَيَانِهِ مُجْرَى الْمَثَلِ مِنْ غَيْرِ تَنَافُرٍ وَلَا غَرَابَةٍ، وَقدْ بُنِيَتْ كِلْتَا الْآيَتَيْنِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ البديعِ سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ "الْمَقْلُوبَ الْمُسْتَوِي" وَجَعَلَهُ مِنْ أَصْنَافِ نَوْعٍ سَمَّاهُ "الْقَلْبَ". وَسَمَّاهُ الْحَرِيرِيُّ فِي مَقَامَاتِهِ: "مَا لَا يَسْتَحِيلُ بِالِانْعِكَاسِ"، وَبَنَى عَلَيْهِ الْمَقَامَةَ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَقَامَاتِهِ المَعْروفَةِ باسْمِهِ، وَوَضَّحَ أَمْثِلَةً نَثْرًا وَنَظْمًا، وَفِي مُعْظَمِ مَا وَضَعَهُ مِنَ الْأَمْثِلَةِ تَكَلُّفٌ وَتَنَافُرٌ وَغَرَابَةٌ، وَكَذَلِكَ مَا وَضَعَهُ غَيْرُهُ عَلَى تَفَاوُتِهَا فِي ذَلِكَ، وَالشَّوَاهِدُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْبَدِيعِ، وَكُلَّمَا زَادَتْ طُولًا زَادَتْ ثِقَلًا. هَذَا وَقَدْ خَصَّ العُلَماءُ هَذَا الصِّنْفَ مِنَ البَديعِ بِمَا يَتَأَتَّى الْقَلْبُ فِي حُرُوفِ كَلِمَاتِهِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّيرَازِيُّ فِي "شَرْحِ الْمِفْتَاحِ": وَهُوَ نَوْعٌ صَعْبُ الْمَسْلَكِ قَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا مِنْهُ شَيْئًا وَقَعَ ـ مِنْ قَبْلُ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَهُوَ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ.
وَذَكَرَ أَهْلُ العِلْمِ وَالْأَدَبِ أَنَّ الْقَاضِي الْفَاضِلَ الْبَيْسَانِيَّ، زَارَ الْعِمَادَ الْكَاتِبَ ـ رَحِمَهُما اللهُ تَعَالَى، فَلَمَّا رَكِبَ لِيَنْصَرِفَ مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ لَهُ الْعِمَادُ الكاتِبُ: سِرْ فَلَا كَبَا بِكَ الْفُرْسُ. فَفَطِنَ الْقَاضِي الفاضِلُ إِلى أَنَّ فِي كلامِهِ مُحَسِّنَ الْقَلْبِ، فَأَجَابَهُ عَلَى الفَوْرِ وَالْبَدِيهَةِ: دَامَ عُلَا الْعِمَادِ. وَكَمَا تَرَى، فإِنَّ فِي قَوْلَيْ هَذَينِ العَالِمَيْنِ العَلَمَيْنِ الجَلِيلَيْنِ ـ رَحِمَهُما اللهُ تَعَالى، مُحَسِّنُ الْقَلْبِ.
وَ "يَسْبَحُونَ" أَيْ: يَدُورُونَ. وَالسِّبَاحَةُ في الأَصْلِ: العَوْمُ في المَاءِ. وَقَدْ يُعَبَّر بِهِ عَنْ مُطْلَقِ الذَّهَابِ. وَالسَّبْحُ: مُسْتَعَارٌ لِلسَّيْرِ فِي مُتَّسَعٍ لَا طَرَائِقَ فِيهِ مُتَلَاقِيَةً كَطَرَائِقَ الْأَرْضِ، وَهُوَ تَقْرِيبٌ لِسِيَرِ الْكَوَاكِبِ فِي الْفَضَاءِ الْعَظِيمِ.
وثمَّةَ سُؤَالٌ هُنَا قَدْ يرِدُ على الخاطِرِ، وَهُوَ: لِمَ أَتَى بِصِيغَةِ الجَمْعِ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "يَسْبَحُونَ" مَعَ أَنَّ مَرْجِعَ الضَّمِيرِ اثْنانِ فَقَطْ، وَهُوَ الشَّمْسُ والقَمَرُ؟ والجَوابُ: أَنَّ الضَّميرَ عائدٌ عَلَيْهِمَا مَعَ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَسْبَحَانِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ ظِلُّ الأَرْضِ، وَهُوَ يَدُورُ عَلَى مُحيطِ كُرَةِ الأَرْضِ، عَلَى حَسَبِ دَوَرَانِها، وَكَذَلِكَ النَّهَارُ يَدورُ ـ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ اللَّيْلَ فِي المُحيطِ.
وَقَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } الآيةَ: 96. وَقالَ أَيْضًا فِي الآيَةِ: 40، مِنْ سُورَةِ (يَس): {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ" قَالَ: كُلٌّ في دَوَرَانٍ، و "يَسْبَحُونَ"، قَالَ: يَجْرُونَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِي الله عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ"، قَالَ: الْفَلَكُ الَّذِي بَيْنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ مِنْ مَجَارِي النُّجُومِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَفِي قَوْلِهِ: "يُسَبِّحونَ" قَالَ: يَجْرُونَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْهُ: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يسْبحونَ" قَالَ: يَجْرُونَ فِي فَلَكِ السَّمَاءِ كَمَا رَأَيْتَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، فِي (العَظَمَة) لَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهِ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ"، قَالَ: فَلْكَةٌ كَفَلْكَةِ المِغْزَلِ، وفي قولِهِ: "يَسْبَحُونَ"، قَالَ: يَدُورُونَ فِي أَبْوَابِ السَّمَاءِ كَمَا تَدورُ الفَلْكَةُ فِي المِغْزَلِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "كُلٌّ فِي فَلَكٍ يسْبحونَ"، قَالَ: هُوَ الدَّوَرَانُ.
وَالضَمِيرُ في "يَسْبَحُونَ" عَائِدٌ إِلَى عُمُومِ آيَاتِ السَّمَاءِ، وَخُصُوصِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَقَدْ أُجْرِيَ عَلَيْهَا ضَمِيرُ جَمَاعَةِ الذُّكُورِ بِاعْتِبَارِ تَذْكِيرِ أَسْمَاءِ بَعْضِهَا مِثْلَ: الْقَمَرِ، وَالْكَوْكَبِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: إِنَّهُ رُوعِيَ فِيهِ وَصَفُهَا بِالسِّبَاحَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ فَأُجْرِيَ عَلَيْهَا أَيْضًا ضَمِيرُ الْعُقَلَاءِ، يَعْنِي فَيَكُونُ ذَلِكَ تَرْشِيحًا لِلِاسْتِعَارَةِ.
قولُهُ تعَالى: {وَهُوَ الَّذِي} الوَاوُ: للاسْتِئنافِ أَوْ للعطفِ، وَ "هُوَ" ضَميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ عَلى الفتحِ في مَحَلِّ الَّفعِ بالابْتِداءِ. وَ "الَّذِي" اسمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرُ المُبتدَأِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَضَادَّةَ بِالْحَقَائِقِ، أَوْ بِالْأَوْقَاتِ ذِكْرًا مُجْمَلًا فِي بَعْضِهَا الَّذِي هُوَ آيَاتُ السَّمَاءِ، وَمُفَصَّلًا فِي بَعْضٍ آخَرَ وَهُوَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، كَانَ الْمَقَامُ مُثِيرًا فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ سُؤَالًا عَنْ كَيْفِيَّةِ سَيْرِهَا وَكَيْفَ لَا يَقَعُ لَهَا اصْطِدَامٌ، أَوْ يَقَعُ مِنْهَا تَخَلُّفٌ عَنِ الظُّهُورِ فِي وَقْتِهِ الْمَعْلُومِ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ كُلًّا مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَهُ فَضَاءٌ يَسِيرُ فِيهِ لَا يُلَاقِي فَضَاءَ سَيْرِ غَيْرِهِ. وَيَجُوزَ أَنْ تكونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ {أَنَّ السَّمَاوَاتِ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها.
قوْلُهُ: {خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} خَلَقَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ (الذي)، و "اللَّيْلَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "النَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ" مَعْطُوفةٌ عَلَى "اللَّيْل" مَنْصوباتٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ (الذي) لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ} كُلٌّ: مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وَسَوَّغَ الابْتِدَاءَ بِهِ مَعَ كونِهِ نَكِرَةً مَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى العُمُومِ، وَتَنْوِينُهُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالتقديرُ: كُلُّ تِلْكَ، فَهُوَ مَعْرِفَةٌ تَقْدِيرًا. وَقَدْ ذَهَبَ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورُ المُعْربينَ، إِلَى القَوْلِ: بِأَنَّ لَفْظَتَيْ "كُلّ" و "بَعض"، هما مَعَرِفَتَانِ بِنِيَّةِ الإِضَافَةِ، وَلِذَلِكَ يَأْتِي الحالُ مِنْهُمَا فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: مَرَرْتُ بِـ ("كُلٍّ" قائِمًا، وَبِبَعْضٍ جَالِسًا)، وَأَصْلُ صَاحِبِ الحَالِ أَنَّهُ مَعْرفَةٌ. بَيْنَمَا ذَهَبَ أَبو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: إِلَى أَنَّهُمَا نَكِرَتَانِ، وَأَلْزَمَ مَنْ قالَ بِتَعْريفِهِمَا أَنْ يَقُولَ: إِنَّ نِصْفًا، وَسُدُسًا، وَثُلُثًا، وَرُبُعًا، وَنَحْوَهَا، هيَ مَعَارِفُ؛ لِأَنَّها في المَعْنَى مُضافاتٍ، وَهِيَ نَكِراتٌ بِإِجْمَاعٍ. وَرَدَّ بِأَنَّ العَرَبَ، تَحْذِفُ المُضَافَ وَتُريدُهُ، وَقَدْ لَا تُريدُهُ، وَدَلَّ مَجِيءُ الحَالِ بَعْدَ "كُلّ" و "بَعْض" عَلَى إِرادَتِهِ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الِاسْتِئْنَافِ بِأَنْ يُفَادَ أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمَذْكُورَاتِ مُسْتَقِرٌّ فِي فَلَكٍ لَا يُصَادِمُ فَلَكَ غَيْرِهِ، وَقَدْ عُلِمَ مِنْ لَفْظِ "كُلٌّ" وَمِنْ ظَرْفِيَّةِ "فِي" أَنَّ لَفْظَ "فَلَكٍ" عَامٌّ، أَيْ لِكُلٍّ مِنْهَا فَلَكُهُ فَهِيَ أَفْلَاكٌ كَثِيرَةٌ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسْبَحُونَ"، وَ "فَلَكٍ" مَجْرُورٌ بِحرْفِ الجَرِّ. وَ "فِي فَلَكٍ" ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ خَبَرٌ عَنْ "كُلٌّ"، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، عَلَى الحالِ مِنَ "الشَّمْسِ وَالقَمَرِ والنُّجُومِ"، المُقَدَّرَةِ لِدَلَالَةِ السِّياقِ عَلَيْهَا، وَإِنَّما جُعِلَ الضَّميرُ وَاوَ العُقَلاءِ لِوَصْفِهِ إِيَّاهَا بِفِعْلِ العُقَلاءِ، الذي هوَ السِّبَاحَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظيرُ هّذا فِي قولِهِ ـ تَعالى، مِنْ سورةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} الآيةَ: 4.
قَوْلُهُ: {يَسْبَحُونَ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ "كُلٌّ" عَلَى المَعْنَى. وَ "في" مُتَعَلِّقٌ بِهِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حالًا، وَأَنْ يكونَ الجَارُّ "فِي" هوَ الخبَر، وَهَذَا بناءً عَلَى جَوَازِ أَنْ يُقَدَّرَ المُضَافُ إِلَيْهِ بِالأَرْبَعَةِ الأَشْيَاءِ المَذْكُورَةِ التي هيَ الليلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والقَمَرُ. ذَكَرَ ذَلِكَ العُكْبُريُّ أَبو البَقَاءِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَمْ يَذْكُرْ إِلَّا أَنَّ المُضَافَ إِلَيْهِ الشَمْسُ وَالقَمَرُ. وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ ذَلِكَ لِأَنَّ السِّبَاحَةَ مِنْ صِفَتِهِمَا دُونَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَعَلَيْهِ فَيُعْتَذَرَ عَنِ الإِتيانِ بِضَميرِ الجَمْعِ، وَعَنْ كَوْنِه جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ.
أَمَّا الأَوَّلُ فَقِيلَ: إِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّ ثَمَّ مَعْطُوفًا مَحْذُوفًا هُنَا والتَّقْديرُ: والنُّجُومُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتٌ أُخَرُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الضَّمِيرُ لِلشَّمْسِ وَالقَمَرِ، وَالمُرادُ بِهِمَا جِنْسُ الطَّوَالِعِ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، جَعَلوهَا مُتَكاثِرَةً لِتَكاثُرِ مَطالِعِها، وَهُوَ السَّبَبُ فِي جَمْعِهِمَا بالشُّموسِ وَالأَقْمَارِ. وَالذي حَسَّنَ ذَلِكَ كَوْنُه رَأْسَ آيَةً.
وَقالَ أَبُو البَقاءِ العُكْبُريُّ: "يَسْبَحُون" خَبَرُ "كُلٌّ" عَلَى المَعْنَى؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إِذَا سَبَحَ فَكُلُّهَا تَسْبَحُ.
وَقِيلَ: "يَسْبَحُون" عَلَى هَذَا الوَجْهِ هو حَالٌ. وأَمَّا الخَبَرُ فَهُوَ قولُهُ: "في فَلَكٍ".
وَقِيلَ: التَّقْديرُ: كَلُّها، والخَبَرُ "يَسْبَحُونَ"، أَتَى بِضَمِيرِ الجَمْعِ عَلَى مَعْنَى "كُلٌّ". وفيهِ نَظَرٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَمَّا جَوَّزَ أَنْ يَكونَ المُضافُ إِلَيْهِ شَيْئَيْنِ جَعَلَ الخَبَرَ هوَ الجارَّ، وَ "يَسْبَحون" حالًا، وذلكَ فِرارًا مِنْ عَدَمِ مُطَابَقَةِ الخَبَرِ لِلْمُبْتَدَأِ، فَوَقَعَ في تَخَالُفِ الحَالِ وَصَاحِبِهَا.
وَأَمَّا الثاني فَلِأَنَّهُ لَمَّا أَسْنَدَ إِلَيْهَا السِّبَاحَةَ الَّتي هِيَ مِنْ أَفْعَالِ العُقَلاءِ جَمَعَهَا جَمْعَ العُقلاءِ، وهذا كَما في قولِهِ ـ تَعَالى مِنْ سورةِ يوسُفَ: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} الآيةَ: 4، وكما في قولِهِ مِنْ سُورةِ فُصِّلَتْ: {أَتَيْنَا طَائِعِينَ} الآيةَ: 11.
وَيَجُوزُ أَنْ لا يَكونَ لِهَذِهِ الجُمْلَةِ مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ، وذلكَ لِكَوْنِها جملةً مُسْتَأْنَفَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَحَلَّها النَّصْبُ عَلَى الحَالِ. فإِنْ قُلْنَا: إِنَّ السِّبَاحَةَ تُنْسَبُ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ـ كَمَا تَقدَّمَ نَقْلُهُ عَنْ أَبي البَقَاءِ العُكْبُرِيِّ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ، فَتَكونُ حَالًا مِنَ الجَميعِ. وَإِنْ كانَ لَا يَصِحُّ نِسْبَتُها إِلَيْهِمَا كَانَتْ حَالًا مِنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ. وَتَأْويلُ الجَمْعِ قَدَ تَقَدَّم غيرَ بعيدٍ. فقد قَالَ الشَّيْخُ أبو حَيَّان: أَوْ مَحَلُّها النَّصْبُ عَلَى الحَالِ مِنَ الشَمْسِ وَالقَمَرِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَتَّصِفَانِ بِأَنَّهُمَا يَجْرِيانِ فِي فَلَكٍ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: رَأَيْتُ زَيْدًا وَهِنْدًا مُتَبَرِّجَةً. وَقَدْ سَبَقَهُ إلى هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ فَيدوا أَنَّهُ نَقَلَهُ عَنْهُ، يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ دَلَّ دَلِيْلٌ عَلَى أَنَّ الحَالَ منْ بَعْضِ مَا تَقَدَّمَ كَمَا فِي المِثَالِ المَذْكورِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {كُلٌّ في فلَكٍ يسْبحونَ}، وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعودٍ ـ
رَضِي الله عَنْهُ، يَقْرَأُ: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَعْمَلُونَ} أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنهُ.