أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ
(30)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: رُؤْيَةَ تَفَكُّرٍ وتَدَبُّرٍ وَاعْتِبَارٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الرُّؤْيَةُ هُنَا بَصَرِيَّةً، وَأَنْ تَكُونَ عِلْمِيَّةً.
وَالِاسْتِفْهَامُ صَالِحٌ لِأَنْ يَتَوَجَّهُ إِلَى كِلْتَا الرُّؤْيَتَيْنِ، لِأَنَّ إِهْمَالَ النَّظَرِ فِي الْمُشَاهَدَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عِلْمِ مَا يُنْقِذُ عِلْمُهُ مِنَ التَّوَرُّطِ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ حَقِيقٌ بِالْإِنْكَارِ، وَإِنْكَارُ إِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي دَلَالَةِ الْأَشْيَاءِ عَلَى لَوَازِمِهَا حَتَّى لَا يَقَعَ أَحَدٌ فِي الضَّلَالِ جَدِيرٌ أَيْضًا بِالْإِنْكَارِ أَوْ بِالتَّقْرِيرِ الْمَشُوبِ بِإِنْكَارٍ.
وهنا يَرِدُ على البالِ سُؤالٌ: مَتَى رَأَوْهُمَا رَتَّقًا حَتَّى جَاءَ تَقْريرُهُمْ بِذَلِكَ فقالَ: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا"؟.
وَالجَوَابُ عَنَهُ بِأَنَّ المَطلوبَ رُؤْيتُهُ، والنَّظَرُ إِلَيْهِ، وإِعْمَالُ الفِكْرِ فِيهِ، وَتَقْريرُ فَتْقِ السَّمَاوَاتِ وَرَفْعِهَا، وَهُوَ أَمرٌ وَاقعٌ مُشَاهَدٌ بِالبَصَرِ مِنْ كُلِّ مُبْصِرٍ، وَهُوَ أَمْرٌ مُتاحٌ لَهُمْ النَّظَرُ إِليْهِ، والتَّفَكُّرُ فيهِ، والاعْتِبَارُ بِهِ، فإِذا نظَرُوا، وَتَفَكَّروا، وتَدَبَّروا، عَلِمُوا أَنَّ لِهَذهِ السَّمواتِ خالقًا مُدَبِّرًا عَلِيمًا حَكِيمًا، لَا سِيَّمَا الإِنْسَانُ في عَصْرِنا هَذَا، فَقَدِ امْتَلَكَ الكَثِيرَ مِنْ وَسَائلِ النَّظَرِ المُتَقَدِّمةِ المُتَطَوِّرَةِ، الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُتَاحَةً مِنْ قَبْلُ لأَسْلافِهِ، فَقَدْ فَتَقَهَا الحَقُّ ـ جَلَّ جَلَالُهُ وَرَفَعَها، وَذِكْرُ الرَّتْقِ زِيادَةُ إِخْبَارٍ بِذَلِكَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ: فإِنْ قُلْتَ: مَتَى رَأَوْهُمَا رَتْقًا حَتَّى جَاءَ تَقْريرُهُمْ بِذَلِكَ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَارِدٌ فِي القُرْآنِ الذي هُوَ مُعْجِزٌ فِي نَفْسِهِ، فَقَامَ مَقَامَ المَرْئيِّ المُشَاهَدِ. وَالثَّاني: أَنَّ تَلَاصُقَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَتَبَايَنَهُمَا، كِلَاهُمَا جَائِزٌ فِي العَقَلِ، فَلَا بُدَّ لِلتَّبَايُنِ دُونَ التَّلَاصُقِ مِنْ مُخَصِّصٍ، وَهُوَ القَديمُ ـ سُبْحَانَهُ.
قوْلُهُ: {أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما} كانَتَا: التَّثْنِيَةُ هُنَا بِاعْتِبَارِ النَّوْعَيْنِ: نَوْعُ السَّمَاءِ، وَنَوْعُ الْأَرْضِ، أَوَ جَمَاعَةَ السَّمَوَاتِ وَجَمَاعَةَ الأَرْضِ، وَلِذَلِكَ قالَ "كَانَتا" وَلَمْ يَقُلْ "كُنَّ". وَهُوَ كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، في الآيَةِ: 41، مِنْ سُورةِ فَاطِر: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}. وَقَالَ الشَّاعِرُ عُمَرُ بْنُ شَيْبَةَ:
أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ جِبَالَ قِيسٍ ................. وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعًا
وَ "رَتْقًا" أَيْ: مُلْتَصِقَةً بَعْضُها بِبَعْضِ. وَالرَّتْقُ، والرَّتَقُ أَيْضًا بالتحْريكِ: هُوَ الضَّمُّ، والالْتِصَاقُ، والسَّدُّ،. وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ رَتَقَهُ يَرْتُقُهُ، ويَرْتِقُهُ رَتْقًا، وَرَتَقًا، فَارْتَتَقَ، أَيْ الْتَأَمَ، فَهُوَ مَرْتوقٌ، بِوزْنِ "مَفْعُولٍ"، إِذَا لأَمَهُ، أَيْ: سَدَّهُ فهوَ مَسْدُودٌ، أَيْ أَنَّ السَّماءَ والأَرْضَ كَانَتَا مَرْتُوقَتَيْنِ، أَيْ: مَلْصُوقَتَيْنِ مَسْدودتينِ مُلْتَئمتينِ، مُصْمَتَتَيْنِ، مُنْضَمَّتَيْنِ، لا فُرْجَةَ بينَهُما. وَلَكِنَّ الْمَصْدَرَ هُنَا وُصِفَ بِهِ، وَلِذَا أَفْرَدَهُ وَلَمْ يَقُلْ كَانَتَا رَتْقَيْنِ. وَارْتَتَقَ الجُرْحُ: الْتَأَمَ، وَقَدْ رَتَقَهُ رَتْقًا، ومِنْهُ قولُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
فَأَصْبَحَ الرَّوْضُ وَالقِيعانُ مُمْرِعَةً ........... مِنْ بَيْنِ مُرْتَتِقٍ مِنْهَا ومُنْصَاحِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّادٍ: الرَّتَقُ ـ مُحَرَّكَةً، والرَّتَقَةُ: جَمْعُ رَتَقَةٍ مُحَركَةً أَيْضًا، وَهِيَ الرَّتَبَةُ، ومعناهُ خَلَلُ مَا بَيْنَ الأَصابِعَ. وَالرِّتاقُ: ثوْبانِ يُرْتَقانِ بحَواشِيهِما، قَالَ الشَّاعِرُ الرَّاجِزُ:
جارِيَةٌ بَيْضاءُ في رِتاقِ ...................... تُدِيرُ طَرْفًا أَكْحَلَ المَآقِي
وَ "فَفَتَقْناهُما": فَشَقَقْنَاهُما، فالفَتْقُ ضِدُّ الرَّتْقِ. تَقُولُ: فَتَقْتُ الشَّيْءَ أَفْتُقُهُ فَتْقًا، وتَفْتِيقًا، فَتَفَتَّقَ وَانْفَتَقَ: إِذَا شَقَقْتَهُ شَقًّا. وَفَتْقُ المِسْكِ بِغَيْرِهِ: اسْتِخْرَاجُ رَائِحَتِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ تُدْخِلُهُ عَلَيْهِ. وَتَمْزُجُهُ بِهِ، ومنهُ قَوْلُ الرَّاعِي النُّمَيْرِي يَصِفُ إِبِلًا:
لَهَا فَأْرَةٌ ذَفْرَاءُ كُلَّ عَشِيَّةٍ ............. كَمَا فَتَقَ الكافُورَ بالمِسْكِ فاتِقُهْ
قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما: كَانَتَا شَيْئًا وَاحِدًا مُتَّصِلَتَيْنِ، فَفَصَلَ اللهْ بَيْنَهُمَا، فَرَفَعَ السَّمَاءَ إِلَى حَيْثُ هِيَ، وَأَقَرَّ الأَرْضَ. وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ، قالَ: أَرْسَلَ رِيحًا فَتَوَسَّطَتْهُمَا، فَفَتَقَتْهُمَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: كَانَتِ السَّمَوَاتُ مُؤْتَلِفَةً طَبَقَةً وَاحِدَةً، فَفَتَقَهَا، فَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَكَذَلِكَ الأَرْضُ، كَانَتْ طَبْقَةً وَاحِدَةً، فَفَتَقَهَا، فَجَعَلَهَا سَبْعَ أَرْضِينَ. والذي عَلَيْهِ أَكْثَرُ المُفَسِّرينَ: أَنَّ السَّمَوَاتِ كَانَتْ صَلْدَةً لَا تَمْطِرُ، وَكانَتِ الأَرْضُ رَتْقًا لا تُنْبِتُ، فَفَتَقَ السَّمَاءَ فَأَمْطَرَت، وَالأَرْضَ فأَنْبَتَتْ. وهوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وَعَلى التَّأْويلِ الأَوَّلِ فَالرُّؤْيةُ رُؤيَةُ عِلْمُ، وَعَلَى الثاني رُؤْيَةُ عَيْنٍ. وقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرَائِنُ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى:
الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ وَعَلَا: "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ .."، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ فِي "رَأَى" هُنَا أَنَّهَا بَصَرِيَّةٌ، وَالَّذِي يَرَوْنَهُ بِأَبْصَارِهِمْ هُوَ أَنَّ السَّمَاءَ تَكُونُ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا مَطَرٌ، وَالْأَرْضُ مَيِّتَةٌ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَيُشَاهِدُونَ بِأَبْصَارِهِمْ إِنْزَالَ اللهِ ـ تَعَالى، الْمَطَرَ، وَإِنْبَاتَهُ بِهِ أَنْوَاعًا كثيرَةً مِنَ النَّبَاتِ.
الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ". وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبِلَهُ، أَيْ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ بِفَتِقِنَا السَّمَاءَ، وَأَنْبَتْنَا بِهِ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ بِفَتِقِنَا الْأَرْضَ، كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.
الْقَرِينَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ الكِتَابِ المُعظَّمِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 12، مِنْ سُورَةِ الطَّارِق: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ}، ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِـ "الرَّجْعِ" نُزُولُ الْمَطَرِ مِنْهَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالْمُرَادَ بِـ "الصَّدْعِ" انْشِقَاقُ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ. وَكَقَوْلِهِ أَيْضًا مِنْ سُوَرةِ عَبَسَ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} الْآيَاتِ: (24 ـ 31). وَأَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ على الصَّحيحَيْنِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كَانَتَا رتقاً ففتقناهما" قَالَ: فُتِقَتِ السَّمَاءُ بالغَيْثِ وَفُتِقَتِ الأَرْضُ بالنَّبَاتِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَنِ "السَّمَاوَات وَالْأَرْض كَانَتَا رتقا ففتقناهما" قَالَ: اذْهَبْ إِلَى ذَلِك الشَّيْخ فَاسْأَلْهُ ثمَّ تَعَالَ فَأَخْبِرْنِي مَا قَالَ، فَذَهَبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فَسَأَلَهُ، قَالَ: نَعَمْ كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقَاءَ لَا تُمْطِرُ، وَكَانَتِ الأَرْضُ رَتْقاءَ لَا تُنْبِتُ، فَلَمَّا خَلَقَ اللهُ الأَرْضَ فَتَقَ هَذِهِ بِالْمَطَرِ، وَفَتَقَ هَذِهِ بالنَّبَاتِ. فَرَجَعَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْآنَ عَلِمْتُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ أُوتِيَ فِي الْقُرْآنِ عِلْمًا، صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَكَذَا كَانَتْ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمَا، وَعَنْ أَبَوَيْهِمَا، وَعَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ.
وَقدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمَا؛ لِلْقَرَائِنِ الَّتِي سبقَ أنْ ذَكَرْنَاها. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ الِاسْتِدْلَالِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَعِظَمِ مِنَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ أَنَّهُمَا كَانَتَا مُتَلَاصِقَتَيْنِ، فَفَتَقَهُمَا اللهُ وَفَصَلَ بَعْضَهُمَا عَنْ بَعْضٍ، قَالُوا فِي قَوْلِهِ: "أَوَلَمْ يَرَ" أَنَّهَا مِنْ "رَأَى" الْعِلْمِيَّةِ لَا الْبَصْرِيَّةِ، وَقَالُوا: وَجْهُ تَقْرِيرِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا سَبِيلَ لِلشَّكِّ فِيهِ.
وَالخُلاصَةُ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الكَريمَةِ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ أَقْوَالًا أُخْرَى، فَقَالَ بَعْضُهُمْ أَنَّ مَعْنَى "كَانَتَا رَتْقًا: كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مُتَلَاصِقَةً بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، فَفَتَقَهَا اللهُ ـ تعالى، وَفَصَلَ بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَرَفَعَ السَّمَاءَ إِلَى مَكَانِهَا، وَأَقَرَّ الْأَرْضَ فِي مَكَانِهَا، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْهَوَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى.
فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ، وَقَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ: "كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا" قَالَا: كَانَتَا جَمْعًا فَفَصَلَ اللهُ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الْهَوَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ كَانَتْ مُتَلَاصِقَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَفَتَقَهَا اللهُ وَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، كُلُّ اثْنَتَيْنِ مِنْهَا بَيْنَهُمَا فَصْلٌ، وَالْأَرَضُونَ كَذَلِكَ جَعَلَهَا سَبْعًا بَعْضُهَا مُنْفَصِلٌ عَنْ بَعْضٍ.
وَقَالتْ جَمَاعةٌ: مَعْنَى "كَانَتَا رَتْقًا" أَيْ: كانَتَا مُظْلِمَتَيْنِ لَا يُرَى مِنْ شِدَّةِ ظُلْمَتِهِمَا شَيْءٌ، فَفَتَقَهُمَا اللهُ بِالنُّورِ. وَهَوَ فِي حَقِيقَتِه راجِعٌ إِلَى الْقَوْلِيْنِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.
وقالَ آخرونَ: أَنَّ المُرَادَ بالرَّتْقِ الْعَدَمُ، وَالمُرادَ بالْفَتْقِ الْإِيجَادُ، أَيْ: كَانَتَا عَدَمًا فَأَوْجَدَهُمَا اللهُ تَعَالَى. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَبْعَدُهَا.
الرَّتْقُ: الِاتِّصَالُ وَالتَّلَاصُقُ بَيْنَ أَجْزَاءِ الشَّيْءِ. كما تقدَّمَ وَالْفَتْقُ: ضِدُّهُ، وَهُوَ الِانْفِصَالُ وَالتَّبَاعُدُ بَيْنَ الْأَجْزَاءِ. فَالْفَتْقُ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَّصِلَيْنِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ عَبْدِ الرَّحمنِ بْنِ حسَّانِ بْنِ ثابتٍ:
يَهُونُ عَلَيْهِمْ إِذَا يَغْضَبُو ..................... نَ سُخْطُ الْعِدَاةِ وَإِرْغَامُهَا
وَرَتْقُ الْفُتُوقِ وَفَتْقُ الرُّتُوقِ ...................... وَنَقْضُ الْأُمُورِ وَإِبْرَامُهَا
وَهُوَ هُنَا مِنْ أَحْسَنِ البَديعِ؛ حَيْثُ قَابَلَ الرَّتْقَ بِالفَتْقِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِأَنَّهُمَا رَتْقٌ هو إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الصِّفَةِ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى "كانَتا" يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَا مَعًا رَتْقًا وَاحِدًا بِأَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ جِسْمًا مُلْتَئِمًا مُتَّصِلًا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ كُلُّ سَمَاءٍ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا، وَالْأَرْضُ رَتْقًا عَلَى حِدَتِهَا وَكَذَلِكَ الِاحْتِمَالُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَفَتَقْناهُما. وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ نَحْوَ: فَصَارَتَا فَتْقًا، لِأَنَّ الرَّتْقَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُمَا أَشَدَّ تَمَكُّنٍ كَمَا قُلْنَا لِيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَظِيمِ الْقُدْرَةِ فِي فَتْقِهِمَا، وَلِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَى حَدَثَانِ الْفَتْقِ إِيمَاءً إِلَى حُدُوثِ الْمَوْجُودَاتِ كُلِّهَا وَأَنْ لَيْسَ مِنْهَا أَزَلِيٌّ. وَالرَّتْقُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعَانٍ تَنْشَأُ عَلَى مُحْتَمَلَاتِهَا مَعَانٍ فِي الْفَتْقِ، فَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ بَصْرِيَّةً فَالرَّتْقُ الْمُشَاهَدُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ عَدَمِ تَخَلُّلِ شَيْءٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ السَّمَاوَاتِ وَبَيْنَ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، وَالْفَتْقُ هُوَ مَا يُشَاهِدُهُ الرَّائِي مِنْ ضِدِّ ذَلِكَ حِينَ يَرَى الْمَطَرَ نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ وَيرى الْبَرْق يَلْمَعُ فيهَا وَالصَّوَاعِقَ تَسْقُطُ مِنْهَا فَذَلِكَ فَتْقُهَا، وَحِينَ يَرَى انْشِقَاقَ الْأَرْضِ بِمَاءِ الْمَطَرِ وَانْبِثَاقَ النَّبَاتِ وَالشَّجَرِ مِنْهَا بَعْدَ جَفَافِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مُشَاهَدٌ مَرْئِيٌّ دَالٌّ عَلَى تَصَرُّفِ الْخَالِقِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى جُمِعَ بَيْنَ الْعِبْرَةِ وَالْمِنَّةِ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْ هُوَ عِبْرَةُ دَلَالَةٍ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَتَقْرِيبٌ لِكَيْفِيَّةِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ فاطِر: {فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} الآيةَ: 9.
وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الرُّؤْيَةَ عِلْمِيَّةً احْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مِثْلَ مَا أُرِيدَ بِهِ عَلَى اعْتِبَارِ كَوْنِ الرُّؤْيَةِ بَصَرِيَّةً، وَكَانَ الِاسْتِفْهَامُ أَيْضًا إِنْكَارِيًّا مُتَوَجِّهًا إِلَى إِهْمَالِهِمُ التَّدَبُّرَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ.
وَاحْتَمَلَ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ مَعَانٍ غَيْرَ مُشَاهَدَةٍ وَلَكِنَّهَا مِمَّا يَنْبَغِي طَلَبُ الْعِلْمِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَعَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ حَقِيقَتَاهُمَا، أَيِ الِاتِّصَالُ وَالِانْفِصَالُ. فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَتِ السَّمَوَاتُ والأَرْضُونَ مُلْتَزِقَتَيْنِ، فَلَمَّا رَفَعَ اللهُ السَّمَاءَ، وَابْتَزَّها مِنَ الأَرْضِ، فَكَانَ فَتْقُها الَّذِي ذَكَرَ اللهُ.
ثُمَّ هَذَا الِاحْتِمَالُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَعْنَى الْجُمْلَةِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا وَاحِدًا، أَيْ كَانَتَا كُتْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْفَصَلَتِ السَّمَاوَاتُ عَنِ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ هُودٍ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} الآيةَ: 7.
وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الرَّتْقُ وَالْفَتْقُ عَلَى التَّوْزِيعِ، أَيْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا وَكَانَتِ الْأَرْضُ رَتْقًا فِي حَدِّ ذَاتِهَا ثُمَّ فَتَقَ اللهُ السَّمَاوَات وَفَتَقَ اللهُ الْأَرْضَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدادًا ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قالَتا أَتَيْنَا طائِعِينَ * فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظًا ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الآيات: (9 ـ 12). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "كَانَتَا رتقًا ففَتَقْناهُما" قَالَ: فَتَقَ مِنَ الأَرْضِ سِتَّ أَرْضِينَ مَعَهَا، فَتِلْكَ سَبْعُ أَرْضِينَ، بَعْضُهُنَّ تَحْتَ بَعْضٍ، وَمِنَ السَّمَاءِ سَبْعَ سَمَوَاتٍ مِنْهَا مَعهَا، فَتِلْكَ سَبْعُ سَمَوَاتٍ، بَعْضُهُنَّ فَوْقَ بَعْضٍ، وَلَمْ تَكُنِ الأَرْضُ وَالسَّمَاءُ مُمَاسَّتَيْنِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ، عَنْ أَبي صَالِحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما"، قَالَ: كَانَتِ السَّمَاءُ وَاحِدَةً، فَفَتَقَ مِنْهَا سَبْعَ سَمَوَاتٍ، وَكَانَتِ الأَرْضُ وَاحِدَةً، فَفَتَقَ مِنْهَا سَبْعَ أَرْضِينَ.
وَعَلَى هَذَيْنِ الِاحْتِمَالَيْنِ يَكُونُ الِاسْتِفْهَامُ تَقْرِيرِيًّا عَنْ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ اسْتِمَاعِ الْآيَاتِ الَّتِي وَصَفَتْ بَدْءَ الْخَلْقِ وَمَشُوبًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى ذَلِكَ.
وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْشَأَهُمَا بَعْدَ الْعَدَمِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ بَعْدَ انْعِدَامِهِ قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الإسْراءِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} الْآيةَ: 99.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الْعَدَمُ وَبِالْفَتْقِ الْإِيجَادُ. وَإِطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِلْمِ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الرَّتْقَ والفَتْقَ بِهَذَا الْمَعْنَى مُحَقَّقٌ أَمْرُهُمَا عِنْدَهُمْ، كما قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 25، مِنْ سُورةِ لُقْمَان: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ}.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ الظُّلْمَةُ وَبِالْفَتْقِ النُّورُ، فَالْمَوْجُودَاتُ وُجِدَتْ فِي ظُلْمَةٍ ثُمَّ أَفَاضَ اللهُ عَلَيْهَا النُّورَ بِأَنْ أَوْجَدَ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ نُورًا أَضَاءَ الْمَوْجُودَاتِ. فَقدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، عَنِ اللَّيْل ِكَانَ قَبْلُ أَمِ النَّهَارُ؟. قَالَ: اللَّيْلُ، ثُمَّ قَرَأَ: "إِنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا"، فَهَلْ تَعْلَمُونَ كَانَ بَيْنَهُمَا إِلَّا ظُلْمَةٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِالرَّتْقِ اتِّحَادُ الْمَوْجُودَاتِ حِينَ كَانَتْ مَادَّةً وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ أَثِيرًا أَوْ عَمَاءَ كَمَا جَاءَ فِيما أَخْرَجَ الأَئمَّةُ: أَحْمَدُ، وَالطَّيَالِسِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، فِي العَظَمَةِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ أَبي رَزينٍ، وَاسْمُهُ لَقِيطُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْمُنْتَفِقِ الْعُقَيْلِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟. قَالَ: ((كَانَ فِي عَمَاءٍ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَرْشَ بَعْدَ ذَلِكَ)). مُسْنَدُ أَحْمَدَ: (4/11، رقم: 16233)، وَتفسيرُ الطَّبَريِّ: (12/4)، والطَّبَرانيُّ: (19/207، رقم: 468)، والعظمة لِأَبي الشَّيْخِ: (1/363، رقم: 83). والطَّيَالِسِيُّ: (ص: 147، رقم: 1093)، وَالتِّرْمِذِيُّ: (5/288، رقم: 3109)، وابْنُ ماجَهْ: (1/64، رقم: 182). وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: العَمَاءُ: أَيْ: لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ. فَكَانَتْ جِنْسًا عَالِيًا مُتَّحِدًا يَنْبَغِي أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَخْلُوقٍ، وَهُوَ حِينَئِذٍ كُلِّيٌّ انْحَصَرَ فِي فَرْدٍ. ثُمَّ خَلَقَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَبْعَاضًا وَجَعَلَ لِكُلِّ بَعْضٍ مُمَيِّزَاتٍ ذَاتِيَّةً فَصَيَّرَ كُلَّ مُتَمَيِّزٍ بِحَقِيقَةٍ جِنْسًا فَصَارَتْ أَجْنَاسًا. ثُمَّ خَلَقَ فِي الْأَجْنَاسِ مُمَيِّزَاتٍ بِالْعَوَارِضِ لِحَقَائِقِهَا فَصَارَتْ أَنْوَاعًا. وَهَذَا الِاحْتِمَالُ أَسْعَدُ بِطَرِيقَةِ الْحُكَمَاءِ وَقَدِ اصْطَلَحُوا عَلَى تَسْمِيَةِ هَذَا التَّمْيِيزِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ، وَقالَ صَاحِبُ "مِرْآةِ الْعَارِفِينَ": جَعَلَ الرَّتْقَ عَلَمًا عَلَى الْعُنْصُرِ الْأَعْظَمِ يَعْنِي الْجِسْمَ الْكُلَّ، وَالْجِسْمُ الْكُلُّ هُوَ الْفَلَكُ الْأَعْظَمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعَرْشِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ تَشْمَلُ جَمِيعَ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعَانِي الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ إِذْ لَا مَانِعَ مِنِ اعْتِبَارِ مَعْنًى عَامٍّ يَجْمَعُهَا جَمِيعًا، فَتَكُونُ الْآيَةُ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى عِبْرَةٍ تَعُمُّ كل النَّاس وكل عِبْرَةٍ خَاصَّةٍ بِأَهْلِ النَّظَرِ وَالْعِلْمِ فَتَكُونُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ الْعِلْمِيَّةِ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} وجعلنا: وَخَلَقْنَا، فَـ "جَعَلَ" هُنَا بِمَعْنَى "خَلَقَ" ـ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، أَلَا تَرى أَنَّهَا تَعَدَّتْ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ؟، لِأَنَّهَا غَيْرُ مُرَادٍ مِنْهَا التَّحَوُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
وَيُؤيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 45، مِنْ سُورَةِ النُّورِ: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}.
أَمَّا الْمَاءُ الَّذِي خَلَقَ اللهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ فَهُوَ النُّطَفُ ـ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، قالوا: لِأَنَّ اللهَ خَلَقَ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُولَدُ بِالتَّنَاسُلِ مِنَ النُّطَفِ، وَعَلَيْهِ فَهَذَا مِنَ الْعَامِّ الْمُخَصَّصِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّياحيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" قَالَ: ((نُطْفَةُ الرَّجُلِ)).
وَقَالَ القُشَيْرِيُّ: كُلُّ مَخْلوقٍ حَيٍّ فَمِنَ المَاءِ خَلْقُهُ، فَإِنَّ أَصْلَ الحَيَوانِ الذي يَحْصُلُ بِالتَّنَاسُلِ النُّطْفَةُ، وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الماءِ. فَـ "أَلْـ" ـ حِينَئِذٍ، للعَهْدِ الذِّهْنِيِّ فَقَطْ.
وَهوَ مَاءُ البِحَارِ والأَنْهَارِ والآبارِ والأَمْطَارِ عِنْدَ بَعْضِهِمُ الْآخَرِ؛ قالوا: لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ إِمَّا مَخْلُوقَة مِنْهُ مُبَاشَرَةً كَالَّتِي تَتَخَلَّقُ مِنَ الْمَاءِ، وَإِمَّا غَيْرَ مُبَاشِرَةٍ؛ لِأَنَّ تِلْكَ المُتَشَكِّلَةِ في الأَصْلابِ هِيَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ، وَمَنْشَأُ الْأَغْذِيَةِ كُلِّهَا مِنَ الْمَاءِ، وَذَلِكَ ظاهِرٌ بشَكلٍ خاصٍّ فِي الثِّمَارِ والْحُبُوبِ وَنَحْوِهَا، وَفي اللُّحُومِ، وَالْأَلْبَانِ، وَغَيْرِهَا؛ وَواضِحٌ أَنَّ الماءَ هُوَ مَنْشَأُ ذَلِكَ كُلِّهِ.
وَأَخْرَجَ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي إِذَا رَأَيْتُكَ طَابَتْ نَفْسِي، وَقَرَّتْ عَيْنِي، فَأَنْبِئْنِي عَنْ "كُلَّ شَيْءٍ". قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((كُلُّ شَيْءٍ خُلِقَ مِنَ المَاءِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" قَالَ: خُلِقَ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ المَاءِ، وَهُوَ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَماءِ: إِنَّ مَعْنَى خَلْقِ اللهِ ـ تَعَالى كُلَّ ما هُوَ حَيٍّ مِنَ المَاءِ، أَنَّهُ ـ لِفَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهُ، كَأَنَّمَا خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ، فهُوَ كَقَوْلِهِ في الآيةِ: 37، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ الكَريمةِ: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} لِفَرْطِ اسْتِعْجالِهِ الأُمُورَ وَتَعَجُّلِهِ فيهَا.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: النَّبَاتُ مَجَازًا دُونَ المَلَائِكَةِ، فَـ "أَلْـ" فِي قولِهِ "المَاءِ" هِيَ للحَقِيقَةِ والمَاهِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ صَرْفَهُ عَنْ ذَلِكَ إِلَى "العَهْدِ الذِّهْنِيِّ" قَرينَةُ الجَعْلِ، كَمَا فِي الآيَةِ: 17، مِنْ سُورَةِ يُوسُفَ: {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ}، فإِنَّ القَرينَةَ تُخَلِّصُ ذَلِكَ للبَعْضِيَّةِ وَإِرادَةِ الأَشْخاصِ.
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهَ الكبيرِ عِنْدَ تفسيرِهِ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةِ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ قَالَ: وَخَلَقْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ حَيَوَانٍ؟. وَقَدْ قَالَ: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} الآية: 27، مِنْ سورةِ الحِجْرِ. وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مِنَ النُّورِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} الآية: 110، مِنْ سورةِ المائدةِ، وَقَالَ فِي حَقِّ آدَمَ: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} الآية: 59، مِنْ سورةِ آلِ عِمرانَ.
وَالْجَوَابُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ قَائِمَةٌ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا مَحْسُوسًا؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَخْرُجُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْجِنُّ، وَآدَمُ، وَقِصَّةُ عِيسَى ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَرَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: "كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" الْحَيَوَانُ فَقَطْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ، وَالشَّجَرُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَاءِ صَارَ نَامِيًا، وَصَارَ فِيهِ الرُّطُوبَةُ، وَالْخُضْرَةُ، وَالنَّوْرُ، وَالثَّمَرُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَفَتَقْنَا السَّمَاءَ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَجَعَلْنَا مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ وَغَيْرِهِ حَيًّا.
حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ النَّبَاتَ لَا يُسَمَّى حَيًّا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية: 50، مِنْ سورةِ: الرُّومِ. انْتَهَى.
وَقولُهُ: "وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ" زِيَادَةُ اسْتِدْلَالٍ بِمَا هُوَ أَظْهَرُ لِرُؤْيَةِ الْأَبْصَارِ وَفِيهِ عِبْرَةٌ لِلنَّاسِ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ. وَهُوَ عِبْرَةٌ لِلْمُتَأَمِّلِينَ فِي دَقَائِقِهِ فِي تَكْوِينِ الْحَيَوَانِ مِنَ الرُّطُوبَاتِ. وَهِيَ تَكْوِينُ التَّنَاسُلِ وَتَكْوِينُ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا مِنَ الرُّطُوبَةِ وَلَا يَعِيشُ إِلَّا مُلَابِسًا لَهَا فَإِذَا انْعَدَمَتْ مِنْهُ الرُّطُوبَةُ فَقَدَ الْحَيَاةَ، وَلِذَلِكَ كَانَ اسْتِمْرَارُ الْحُمَّى مُفْضِيًا إِلَى الْهُزَالِ ثُمَّ إِلَى الْمَوْتِ.
قولُهُ: {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ عَدَمَ إِيمَانِهِمُ الْإِيمَانَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ سيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَهُوَ الْإِيمَانُ بِوَحْدانِيَّتِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وهذا تَفْريعٌ عَلَى قولِهِ: "مِنَ الْماءِ"، فَحَرْفُ الجَرِّ "مِنْ" مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلْنا"، وَ "مِنْ" للابْتِداءِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ} أَوَلَمْ: الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذُوفٍ، وَ "الواوُ": عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ. و "لم" حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ وقلْبٍ. و "يَرَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِهِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حذْفُ حرفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ وهوَ الأَلِفُ وَالرُّؤْيَةُ هُنَا يَجُوزُ أَنْ تَكونَ قَلْبِيَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً ـ كَمَا تَقَدَّمَ في مَبْحَثِ التَّفسيرِ. فَـ "أَنَّ" وَمَا في حَيِّزِهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْنِ عِنْدَ الجُمْهُورِ عَلَى الأَوَّلِ، وَمَسَدَّ وَاحِدٍ وَالثاني مَحْذوفٌ، عِنْدَ الأَخْفَشِ، وَسَادَّةٌ مَسَدَّ مفعولٍ واحِدٍ عَلىَ الثاني. و " الَّذِينَ" اسمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِلْكَ المَحْذوفَةِ، والتَّقْديرُ: أَلَمْ يَتَفَكَّرِ الذينَ كَفَرُوا، وَلَمْ يَرَوْا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا؟. وَالجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {كَفَرُوا} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفْريقِ، والجُملةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوصُولِ "الذينَ" لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} أَنَّ: حرفٌ ناصبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكيدِ. وَ "السَّمَاوَاتِ" اسْمُ "أَنَّ" منصوبٌ بها، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرَةُ نيابةً عَنِ الفَتْحَةِ لأنَّهُ جمعُ المُؤَنَّثِ السَّالمُ. و "وَالْأَرْضَ" الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ، و "الْأَرْضَ" مَعْطوفٌ عَلَى "السَّمَاوَاتِ" منصوبٌ مثْلُهُ، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" الاسْمِيَّةُ هَذِهِ مَعَ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "يَرَ".
قوْلُهُ: {كانَتا رَتْقًا} كَانَتَا: فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفَتْحِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ للتَّأْنيثِ، والأَلِفُ: ضميرُ التَّثْنيةِ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ". وَهُوَ عائدٌ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ، والمُتَقَدِّمُ جَمْعٌ. وَفِيهِ أَوْجُهٌ أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيرِهِ (الكَشَّاف) فَقَالَ: وَإِنَّمَا قِيلَ "كَانَتَا" دُونَ "كُنَّ" لِأَنَّ المُرَادَ جَمَاعَةُ السَّمَاوَاتِ، وَجَمَاعَةُ الأَرَضِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: لِقاحَانِ سَوْداوانِ. أَيْ: جَمَاعَتَانِ. فَعَلَ فِي المُضْمَرِ نَحْوَ مَا فَعَلَ فِي المُظْهَرِ. ثانيها: مَا ذَكَرَهُ أَبو البقاءِ العُكْبُريُّ في كِتابِهِ (التِبْيانُ في إِعْرابِ القُرْآنِ) قَالَ: الضَّميرُ يَعُودُ عَلَى الجِنْسَيْنِ. والثَّالِثُ: قَولُ الحُوفِيِّ: قالَ ـ تَعَالى "كَانَتَا رَتْقًا" والسَّمَوَاتُ جَمْعٌ لِأَنَهُ أَرَادَ الصِّنْفَيْنِ. قَالَ الأَسْوَدُ بْنُ يَعْفَر:
إِنَّ المَنِيَّةَ والحُتُوفَ كِلاهُمَا .............. يُوفي المَخَارِمَ يَرْقُبانِ سَوادي
لِأَنَّهُ أَرَادَ النَّوْعَيْنِ.
وَقد تَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي هَذَا فَقَالَ في الوَجِيزِ: وَقالَ: "وكانتا" مِنْ حَيْثُ هُما نَوْعَانِ. وَنَحْوُهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ شَييم:
أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ حِبَالَ قَيْسٍ ................. وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطاعَا
وَ "رَتْقًا" خَبَرُها مَرْفوعٌ بِهَا. وَجُمْلَةُ "كَانَتَا" خَبَرُ "أَنَّ" مَرْفُوعٌ بِهَا. وَلَمْ يُثَنَّ لِأَنَّه في الأَصْلِ مَصْدَرٌ. وَيُمْكَنُ جَعْلُهُ قائِمًا مَقَامَ المَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى المَخْلُوقِ، أَوْ تَجْعَلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: ذَواتَيْ رَتْقٍ.
قولُهُ: {فَفَتَقْناهُما} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ، و "فَتَقْنَاهُمَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، و "هُمَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "كَانَتَا" عَلَى كَوْنِها خَبَرَ "أَنَّ" في مَحَلِّ الرَّفعِ.
قوْلُهُ: {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، وَ "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. وَ "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلْنَا"، إِنْ كَانَ "جَعَلَ" بِمَعْنَى "خَلَقَ"، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ "جَعَلَ" بِمَعْنَى "صَيَّرَ" فَيَتَعَلَّقُ بالمَفْعُولِ الثَّاني، وَيكونُ "كُلَّ" المَفْعُولَ الأَوَّلَ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِحَالٍ مِنْ "كُلَّ شَيْءٍ"؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، و "الْمَاءِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "كُلَّ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَهُوَ مُضافٌ، و "شَيْءٍ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "حَيٍّ" صِفَةٌ لِـ "شَيْءٍ" مَجْرورةٌ مِثْلُهُ.
قوْلُهُ: {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أَفَلَا: الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهامِ الإِنْكَارِيِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، وَالفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، و "لا" نَافِيَةٌ. و "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى تِلْكَ الجُملةِ المَحْذوفَةِ، وَالتَّقْديرُ: أَلَا يَتَدَبَّرونَ هَذِهِ الأَدِلَّةَ، فَلَا يُؤْمِنُونَ بِتَوْحِيدِي، عَلَى كَونِها جُمْلَةً إِنْشَائِيَّةً، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {أَوَلَمْ} بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَهِيَ وَاوُ الْعَطْفِ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَلْقِ الثَّانِي بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "أَلَمْ يَرَ" بِدُونِ وَاوِ عَطْفٍ. قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَلَمْ تَثْبُتِ الْوَاوُ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ مَكَّةَ. أَيْ: لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُصْحَفِ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ عُثْمَانُ إِلَى مَكَّةَ فَالْتَزَمَ قُرَّاءُ مَكَّةَ رِوَايَةَ عَدَمِ الْوَاوِ إِلَى أَنْ قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ، وَأُهْمِلَتْ غَيْرُ قِرَاءَتِهِ. وَالِاسْتِفْهَامُ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ إِنْكَارِيٌّ، تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى إِهْمَالِهِمْ لِلنَّظَرِ.
قَرَأَ الجمهورُ: {رَتْقًا} وَلَمْ يُثَنَّ لأنَّهُ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ. ثُمَّ لَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ قائِمًا مقَامَ المَفْعُولِ، كالْخَلْقِ بِمَعْنَى المَخْلوقِ، أَوْ تَجْعَلَهُ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: ذَوَاتَيْ رَتْقٍ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو حَيَوَةَ، وَعِيسَى بْنُ يعْمُر: "رَتَقًا" بِفَتْحِ التَّاءِ عَلى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أَيْضًا، فَفِيهِ الوَجْهَانِ المُتَقَدِّمَانِ فِي السَّاكِنِ التاءِ. ويَجوزَ أَنَّهُ "فَعَلَ" بِمَعْنَى "مَفْعُول" ك "القَبَض" و "النَّقَض" بِمَعْنى المَقْبوضِ والمَنْقوضِ، وَعَلى هَذَا فَكَانَ يَنْبَغي أَنْ يُطابقَ بِخَبَرِهِ في التَّثْنِيَةِ. وقد أَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: هُوَ عَلَى تَقْديرِ مَوْصُوفٍ، أَيْ: كانَتَا شَيْئًا رَتَقًا. وَرَجَّحَ بَعْضُهُمُ المَصْدَرِيَّةَ بِعَدَمِ المُطابَقَةِ في التَّثْنِيَةِ. وَلَهُ أَنْ يَقُولَ: الأَصْلُ عَدَمُ حَذْفِ المَوْصُوفِ، فَلَا يُصارُ إِلَيْهِ دُونَ ضَرُورَةٍ.
قَرَأَ العامَّةُ: {حَيٍّ} بالخَفْضِ على أَنَّهَا صِفَةٌ لِـ "شَيْءٍ". وَقَرَأَ حُمَيْدٌ "شيئًا" بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لـ "جَعَلْنا". وَالظَّرْفُ لَغْوٌ. وَيَبْعُدُ عَلَى هَذِهِ القِراءَةِ أَنْ يَكونَ "جَعَلَ" بِمَعْنى "خَلَقَ"، وَأَنْ يَنْتَصِبَ "حَيًّا" عَلَى الحَالِ مِنْ "شيئًا".