قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ
(62)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} يُمْكِنُ حَمْلُ قَوْلِهِم هَذَا عَلَى الاسْتِنْكَارِ لِهَذَا العَمَلِ الخَطِيرِ، الفظيعِ الشَّنيعِ ـ فِي رَأْيِهِم، فَلَيْسَ الاعْتِدَاءُ عَلى آلِهَتِهِمُ الَّتِي يُقَدِّسُونَها وَيَعْبُدُونَهَا بِالْأَمْرِ الهَيِّنِ الَّذي يُمْكِنُهُمْ تَحَمُّلُهُ وَالتَّغَاضِي عَنْهُ. وَيُمْكِنُ أَيْضًا حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ بَحْثٌ وَاسْتِفْسارٌ عَنِ الفاعِلِ الذي حَطَّمَ آلِهَتَهُمْ وشَوَّهَهَا.
وَقَالَ العَلَّامَةُ التَّفْتَازانيُّ: الهَمْزَةُ هُنَا للتَّقْريرِ بِالفَاعِلِ إِذْ لَيْسَ مُرَادُ الكَفَرَةِ حَمْلَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى الإِقْرارِ بِأَنَّ كَسْرَ الأَصْنَامِ قَدْ كَانَ، بَلْ عَلَى الإِقْرَارِ بِأَنَّهُ مِنْهُ كَيْفَ، وَقَدْ أَشَارُوا إِلَى الفِعْلِ فِي قَوْلِهِمْ: "فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا".
قولُهُ تَعَالَى: {قَالُوا} فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والأَلِف للتفريقِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ ليسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا} الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّوْبِيخِيِّ. و "أَنْتَ" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ للمُخاطَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. ويَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ فَاعِلًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ بَعْدَهُ. وَالتَّقْديرُ: أَفَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا؟، فَلَمَّا حُذِفَ الفِعْلُ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الوَجْهَيْنِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَاضِحٌ: فَإِنَّ جُمْلَةَ قَوْلِهِ: "فَعَلْتَ" المَلْفُوظِ بِهَا عَلَى الوجْهِ الثاني لَا مَحَلَّ لَهَا لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ، وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ عَلى الوَجْهِ الأَوَّلِ، وَمِنْ حَيْثُ المَعْنَى: فَإِنَّ الاسْتِفْهامَ إِذا دَخَلَ عَلى الفِعْلِ أَشْعَرَ بِأَنَّ الشَّكَّ إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِ: هَلْ وَقَعَ أَمْ لَا؟ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ فِي فَاعِلِهِ. وَإِذَا دَخَلَ عَلَى الاسْمِ وَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ ـ عليْهِ السَّلامُ: هَلْ هُوَ الفَاعِلُ أَمْ غَيْرُهُ، وَالفِعْلُ غَيْرُ مَشْكُوكٍ فِي وُقُوعِهِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ فَقَطْ. فإِذَا قُلْتَ: "أَقامَ زَيْدٌ"؟ كانَ شَكُّكَ فِي قِيامِهِ. أَمَّا إِذا قُلْتَ: "أَزْيدٌ قَامَ" وَجَعَلْتَهُ مُبْتَدَأً كَانَ شُكَّكَ في صُدُورِ الفِعْلِ مِنْ زَيْدٍ أَمْ مِنْ عَمْرٍو. وَالْوَجْهُ الثاني هُوَ المُخْتَارُ عِنْدَ النُّحَاةِ لِأَنَّ الفِعْلَ تَقَدَّمَ مَا يَطْلُبُهُ، وَهُو أَداةُ الاسْتِفْهَامِ. وَ "فَعَلْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ تاءُ الفاعِلِ، وهِيَ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "هَذَا" الهاءُ: للتَّنْبِيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "بِآلِهَتِنَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "فَعَلْتَ"، و "آلِهَتِنَا" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، و "نا" ضميرُ جَماعةِ المُتَكَلِّمينِ، مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالُوا".