إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ
(106)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ باسْمِ الإشارةِ "هَذَا" إِلَى الْمَوْعُودِ فِي "الزَّبُورِ" مَوْضُوعُ الْآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا.
وَقِيلَ: الإِشَارَةُ إِلَى المَذْكُورِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنَ المَوَاعِظِ البَالِغَةِ، والأَخْبَارِ، وَالْوَعْدِ والوَعِيدِ. وأَكْثَرُ أهْلِ التَّفْسيرِ عَلَى أَنَّ الإشارةَ بقَوْلِهِ ـ تَعَالى: "إِنَّ فِي هَذَا" هِيَ إِلَى القُرْآنِ الكَريمِ.
وَ "البَلَاغُ"، وَ "البُلْغَةُ": هُوَ الكِفَايَةُ، مِنَ "بَلَغَ" هُوَ، يَبْلُغُ، بُلُوغًا، وبَلَاغًا، إِذا وَصَلَ إلى مُبْتغاهُ وَانْتَهَى. وَأَبْلَغَهُ غَيْرُهُ إِبْلاغًا، وبَلَّغَه تَبْلِيغًا. ومِنْهُ قوْلُ أَبي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ السُّلَمِيِّ:
قالَتْ ـ ولَمْ تَقْصِدْ لِقِيلِ الخَنَى ............. مَهْلًا فَقَدْ أَبْلَغْتَ أَسْمَاعِي
وتَبَلَّغَ بالشَّيْءِ: وَصَلَ بهِ إِلَى مُرادِهِ، وبَلَغَ مَبْلَغَ غيرِهِ: وصلَ إلى ما وَصَلَ إليهِ. وقالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في حَدِيثِ الاسْتِسْقاءِ الَّذي رَوَاهُ أَبو داودَ والحاكمُ وغيرُهما عَنِ السَّيِّدَةِ عائشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، (( .. وَاجْعَلْ ما أَنَزْلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلاغًا إِلَى حِين البَلاغُ)) أَيْ: مَا يُتَبَلَّغُ بِهِ، ويُتَوَصَّلُ بِهِ إِلى المَطْلُوبِ. وقولُهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما أَمَرَهُ رَبُّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، أَنْ يَقُولَهُ: {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ} الآيتان: (22 ـ 23)، أَيْ لَا أَجِدُ مَنْجًى إِلَّا أَنْ أُبَلِّغَ عَنِ اللهِ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ. وإِذًا فالإِبلاغُ هوَ الإِيصالُ كالتبْلِيغِ والاسْمُ مِنْهُ البَلَاغُ.
وَالْمُرادُ بِـ "عَابِدِينَ" هُمْ أَصْحَابُ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، مِنَ المُؤْمِنِينَ الَّذينَ اتَّبَعُوهُمْ. أَيْ: مَنْ كانتِ الْعِبَادَةُ شَأْنَهُمُ، لَا يَمِيلُونَ إِلى غَيْرِها، ولَا يَنْحَرِفُونَ عَنْها، وَهَذَا مَا أَشْعَرَ بِهِ وَصْفُهم بـ "عَابِدِينَ"، أَيْ: أَنَّ الْعِبَادَةَ هِيَ قِوَامُ قَوْمِيَّتِهِمْ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمُ الْوَعْدَ فَاجْتَهِدُوا فِي نَوَالِهِ. والعِبَادَةُ تَعني الْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ الإسلاميَّةِ الغرَّاءِ أَمْرًا وَنَهْيًا. كَمَا قَالَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، مِنْ سُورَةِ آل عِمْرَانَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} الآيةَ: 110. وَقَدْ وَرِثُوا هَذَا الْمِيرَاثَ الْعَظِيمَ، فَطَبَّقوهُ عَلى أَنْفُسِهِمْ، واتَّخَذُوهُ نَهْجًا لِحَيَاتِهِم، وَوَرَّثوهُ لِأَجْيَالِ الْأُمَّةِ مِنْ بَعْدِهِمْ.
وَمَا أَشْبَهَ هَذَا الْوَعْدَ الْمَذْكُورَ هُنَا وَربْطَهُ بِالْعِبَادَةِ بِالْوَعْدِ الَّذِي وُعِدَتْهُ هَذِهِ الْأُمَّةُ فِي الْقُرْآنِ: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الآيَتَانِ: (55 ـ 56). مِنْ سُورَةِ النُّور.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي المُصَنَّفِ، عَنْ مُحَمَّدَ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدينَ"، قَالَ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لِقَوْمٍ عَابِدينَ"، قَالَ: الَّذينَ يُحَافِظُونَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيضًا عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "لِقَوْمٍ عَابِدينَ"، قَالَ: عَامِلِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "إِن فِي هَذَا لَبَلَاغًا"، قَالَ: كُلُّ ذَلِكَ يُقَالُ: إِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي هَذَا الْقُرْآنِ لَبَلَاغًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا"، قَالَ: إِنَّ فِي هَذَا لَمَنْفَعَةً وَعِلْمًا "لِقَوْمٍ عَابِدينَ" ذَلِكَ الْبَلَاغُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدينَ" قَالَ: لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ أَيْضًا عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدينَ" قَالَ: صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ والصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: "إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدينَ" قَالَ: فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ شُغْلًا لِلْعِبَادَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: "لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدينَ" قَالَ: هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ جَمَاعَةً.
تَذْيِيلٌ لِلْوَعْدِ وَإِعْلَانٌ بِأَنْ قَدْ آنَ أَوَانُهُ وَجَاءَ إبانه. وَفَإن لَمْ يَأْتِ بعد دَاوُود قَوْمٌ مُؤْمِنُونَ ورثوا الأَرْض، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَآمَنَ النَّاسُ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدْ بَلَّغَ الْبَلَاغَ إِلَيْهِمْ.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّأْكيدِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ مُقدَّرٍ، و "هَذَا" الهاءُ: للتَّنْبيهِ، و "ذَا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بَحَرْفِ الجَرِّ. و "لَبَلَاغًا" اللامُ: المُزَحْلقةُ للتَّوْكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ). و "بَلَاغًا" اسْمُ "إِنَّ" المُؤَخَّرُ مَنْصُوبٌ بِهِ. و "لِقَوْمٍ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ "لَبَلَاغًا"، وَ "قومٍ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "عَابِدِينَ" صِفَةُ "قَوْمٍ"، مَنْصوبَةٌ مِثْلُهُ، وَالتَّقْديرُ: إِنَّ بَلَاغًا لِقَوْم عَابِدينَ، لَكَائِنٌ فِي هَذَا، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ. لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.