يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ
(104)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} مُرْتبطٌ بِقَوْلِهِ مِنَ الآيةِ الَّتي قَبْلَها: {لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبُرُ} وتَتِمَّةٌ لَهُ، أَيْ: لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ يَوْمَ نَطْوي السَّمَاءَ كطيِّ السِّجِلِّ للْكُتُبِ. وَهَذَا يَؤَكِّدُ مَا ذهَبْنا إِلَيْهِ في تَفسيرِ الآيةِ السَّابقةِ مِنْ أَنَّ المُرَادَ بِالْفَزَعِ الأَكْبَرِ هوَ البَعْثُ والنُّشورُ؛ لِأَنَّهُ إِنَّما يَقَعُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ.
الطيُّ: نَقِيضُ النَّشْرِ، تَقُولُ: طَوَيْتُهُ طَيًّا وَطِيَّةً، وَتُخَفِّفُ فتقولُ أَيْضًا: "طِيَةً"، وتَجْمَعُ فتقولُ: طُوًى ك "كَوَّةٍ" و "كُوًى"، وطَوَيْتُهُ فَانْطَوَى، مبنيًا للمفعولِ، واطَّوَى، وتَطَوَّى تَطَوِّيًا. وَتَطَوَّى انْطِواءً وَطَوَيتُ الصَّحيفَةَ أَطْوِيهَا طَيًّا، فَالمَصْدَرُ "الطَّيُّ" وطَوَيْتُها طَيَّةً واحِدَةً أَيْ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَالطِّيَّةُ: الهَيْئَةُ الَّتي يُطْوَى عَلَيْهَا الثَّوبُ، وَإِنَّهُ لَحَسَنُ الطِّيَّةِ كَ "الجِلسَةِ" وَ "المِشْيَةِ" و "الرِّكْبةِ"، ضَرْبٌ مِنَ الطَّيِّ، قَالَ الشَّاعِرُ ذُو الرُّمَّةِ غَيْلاَنُ بْنُ عُقْبَةَ بْنِ بُهَيْسٍ العدَويُّ المُضَرِيُّ:
مِنْ دِمْنَةٍ نَسَفَتْ عَنْهَا الصَّبَا سُفَعًا ......... كَمَا تُنَشَّرُ بَعْدَ الطِّيَّةِ الكُتُبُ
فَكَسَرَ الطاءَ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ المَرَّةَ الوَاحِدَةَ. وَفِي حَديثِ بِنَاءِ الكَعْبةِ: ((فتَطوَّتْ موضعَ البَيْتِ كالحَجَفَة)) أَي اسْتَدارَتْ كالتُّرْسِ، وفي حديث السفَرِ: ((اطْوِ لَنا الأَرضَ))، أَي قَرِّبها لنا، وسَهِّلِ السَّيْرَ فيها حتى لا تَطُولَ علينا، فكأَنها قد طُوِيَتْ وفي الحديث: ((أَن الأَرضَ تُطْوَى بالليلِ ما لا تُطْوَى بالنَّهارِ)). أَي تُقْطَع مسافتُها لأَن الإِنسان فيه أَنشَطُ منه في النهارِ وأَقدرُ على المَشْي والسيرِ لعدمِ الحَرِّ وغيره. فقد جاءَ في جامِعِ مُوَطَّأِ الإمامِ مالِكٍ وغيرِهِ عَنْ خالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عنْ أَبِيهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَرْفَعُهُ، قَالَ: ((إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْق وَيَرْضَاهُ، وَيُعينُ عَلَيْهِ مَا لَا يُعِينُ عَلى العُنْفِ، فإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ العُجْمَ، فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا، فإِنْ كَانَتِ الأَرْضُ جَدْبَةً، فانْجُوا عَلَيْهَا بِنِقْيِهَا، وَعَلَيْكُمْ بِسَيْرِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّ الأَرْضَ تُطْوَى باللَّيْلِ مَا لَا تُطْوَى بالنَّهَارِ، وَإِيَّاكُم والتَّعْرِيسَ عَلَى الطَّريقِ؛ فَإِنَّهَا طُرُقُ الدَّوَابِّ، وَمَأْوَى الحَيَّاتِ)). المُوَطَّأُ، تحقيق عبد الباقي: (2/979)، والمُصَنَّف لعبد الرَّزاقِ الصَّنعانيِّ: (5/162)، والمُعجمُ الكبيرُ للطَّبرانيِّ: (20/365). وَالطاوِي مِنَ الظِّبَاءِ هو الذي يَطْوِي عُنُقَهُ عِنْدَ الرُّبُوضِ، ثُمَّ يَرْبِضُ، قالَ الرَّاعِي النُّميري:
أَغَنّ غَضِيض الطَّرْفِ باتَتْ تَعُلُّهُ ...... صَرَى ضَرَّةٍ شَكْرَى فَأَصْبَحَ طاوِيًا
فعَدَّى "تَعُلُّ" إِلَى مَفْعُولَيْنِ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى "تَسْقِي".
وأَطواءُ الثَّوْبِ، والصَّحيفَةِ، وَالبَطْنِ، والشَّحْمِ، والأَمْعاءِ، وَالحَيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: طَرائِقُهُ وَمَكَاسِرُ طَيِّهِ، وَاحِدُهَا "طِيٌّ" بالكَسْرِ. ومَطاوي الحَيَّةِ ومَطاوِي الأَمْعاءِ والثَّوْبِ والشَّحْمِ والبطْنِ أَطواؤُها والواحدُ مَطْوًى، وتَطوَّتِ الحَيَّةُ: أَي تحوَّت، وطِوى الحيَّة انْطِواؤُها. والمُنْطَوِي الضامرُ البَطْنِ. ورجلٌ طَوِيُّ البَطنِ ضامِرُه، قال العُجَيرُ السَّلوليّ:
فقامَ فأَدنَى من وِسادِي وِسادَهُ .. طَوِيُّ البَطْنِ ممشُوقُ الذراعَينِ شَرْجَبُ
والطَّيُّ في العَرُوضِ حَذْفُ الرابِعِ من مُسْتَفْعِلُنْ ومَفْعُولاتُ فيبقى مُسْتَعِلُنْ ومَفْعُلات فيُنْقَل مُسْتَعِلُنْ إلى مُفْتَعِلُنْ ومَفْعُلات إِلى فاعلاتُ، ويكون ذلك في البَسيطِ والرَّجَز والمنْسَرِح.
وطَوَى كَشْحَهُ عَنِّي: أَعْرَضَ عَنِّي، وطَوَى كَشْحَهُ عَلى أَمْرٍ: أَخْفاهُ، قَال زُهَيرُ بْنُ أَبي سُلْمى:
وكانَ طَوَى كَشْحًا على مُسْتَكِنَّةٍ ............. فَلا هُوَ أَبْداها ولم يَتَقَدَّمِ
وَقَوْلُ الأَعْشَى:
أَجَدَّ بِتَيَّا هَجْرُها وشَتاتُها ................. وحُبَّ بها لو تُسْتَطاعُ طِياتُها
إِنَّما أَرادَ طِيَّاتُها فَحَذَفَ الياءَ الثَّانِيَةَ. وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ بْنُ حَكِيمٍ:
ولا كِفْلَ الفُرُوسَةِ شاب غَمْرًا .............. أَصَمَّ القَلْبِ حُوشِيَّ الطِّيَاتِ
فخَفَّفَ أيْضًا.
والطِّيَّة الناحِيَةُ، والحاجَةُ، وَالَوطَرُ، وَمَضَى لِطَيَّتِهِ: أَيْ: لِلوَجْهِ الَّذي يُريدُهُ ويرغَبُ بِهِ، وَلنِيَّتِهِ الَّتي انْتَواهَا. والطِّيَّةُ أَيْضًا: الوَطَنُ، والمَنْزِلُ، والجَمْعُ "طِيَّاتٌ".
والطَّوَى: الجُوعُ، وفي مُسْنَدِ الحُمَيْدِيِّ وَغَيْرِهِ، عَنْ أَميرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وكَرَّمَ وجْهَهُ: أَنَّهُ جاءَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ السَّيِّدةِ فَاطِمَةَ الزَّهْراء ـ رَضِي اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا، فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ لَقَدْ سَنَوْتُ حَتَّى اشْتَكَيْتُ صَدْرِي. وقالتْ السيِّدةُ فاطمةُ: قَدْ طَحَنْتُ حَتَّى مَجَلَتْ يَدَايَ، وَقَدْ جَاءَكَ اللهُ بِسَبْيٍ وَسَعَةٍ، فَأَخْدِمْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَاللهِ، لاَ أُعْطِيكُمَا وَأَدَعُ أَهْلَ الصُّفَّةِ تَطْوَى بُطُونُهُمْ، لاَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنِّي أَبِيعُهُمْ وَأُنْفِقُ عَلَيْهِمْ أَثْمَانَهُمْ))، فَرَجَعَا، فَأَتَاهُمَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ دَخَلَا فِي قَطِيفَتِهِمَا، إِذَا غَطَّتْ رُؤُوسَهُمَا تَكَشَّفَتْ أَقْدَامُهُمَا، وَإِذَا غَطَّيَا أَقْدَامَهُمَا تَكَشَّفَتْ رُؤُوسُهُمَا، فَثَارَا، فَقَالَ: ((مَكَانَكُمَا))، ثُمَّ قَالَ: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمَا بِخَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَانِي؟)) قَالَا: بَلَى، فَقَالَ: ((كَلِمَاتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: تُسَبِّحَانِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدَانِ عَشْرًا، وَتُكَبِّرَانِ عَشْرًا، وَإِذَا أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا، فَسَبِّحَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ))، قَالَ: فَوَاللهِ، مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ : فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْكَوَّاءِ : وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ ؟ فَقَالَ : قَاتَلَكُمُ اللَّهُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ ، نَعَمْ ، وَلاَ لَيْلَةَ صِفِّينَ. أَخْرَجَهُ الحُمَيْدِيُّ في مُسْنَدِهِ: (1/25، رقم: 44)، وأَحْمَدُ: (1/106، رقم: 838)، والبَيْهَقِيُّ في "شُعَب الإيمانِ": (3/259، رقم: 3480)، والحاكِمُ: (2/202، رقم: 2755)، والضِّياءُ المَقدِسيُّ: (2/89، رقم: 467)، وَالنَّسَائيُّ: (6135، رقم: 3384)، وَابْنُ مَاجَهْ: (2/1390، رقم: 4152). وَيقالُ للأُنْثَى: طَيَّا، وَطاوِيةٌ، وَالجَمْعُ: "طِوَاءٌ".
واخْتَلَفُوا في مَعْنَى "السِّجِلِّ": فقال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ: يُريدُ مَلَكًا يُقالُ لَهُ السِّجِلُ، وَهُوَ الَّذي يَطْوي كُتُبَ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ. وَهَذَا هوَ قَوْلُ السّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فَقَدْ قَالَ: السِّجِلُ: مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بالصُّحُفِ، فإِذَا مَاتَ الإنْسَانُ دُفِعَ كِتَابُهُ إِلى "السِّجِلِّ" فَطَوَاهُ وَرَفَعَهُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ في تَفْسيرِهِ: (17/100)، وَابْنُ أَبي حاتِمٍ في تَفسيرِهِ. وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي "تَفْسيرِهِ": (ص: 206)، وهوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. فقَد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلَّ"، قَالَ: السِّجِلُّ مَلَكٌ، فَإِذَا صَعِدَ بِالاسْتِغْفَارِ قَالَ: اكْتُبُوهَا نُورًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبي جَعْفَرٍ البَاقِرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: السِّجِلُّ مَلَكٌ، وَكَانَ هاروتُ وَمارُوتُ مِنْ أَعْوَانِهِ، وَكَانَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُ لَمَحَاتٍ يَنْظُرُهُنَّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ، فَنَظَرَ نَظْرَةً لَمْ تَكُنْ لَهُ، فَأَبْصَرَ فِيهَا خَلْقَ آدَمَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ فَأَسَّرَّ ذَلِكَ إِلَى هَارُوتَ وَمارُوتَ، فَلَمَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قَالُوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا؟}. الآيَةَ: 30، مِنْ سورةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ اسْتِطَالَةٌ مِنْهُ عَلَى الْمَلَائِكَةِ.
وَأَخْرَج أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مَنْدَهْ فِي "الْمَعْرِفَة"، وَابْنُ مرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سَنَنِهِ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: السِّجِلُّ كَاتِبٌ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَاتِبٌ يُسَمَّى "السِّجِل" وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلَّ".
وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: السِّجِلُّ هُوَ الرَّجُلُ. وَزَادَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ: "بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ". وَوَقَدْ ضَعَّفَهُ أَبُو ِإسْحاقٍ الزَّجَّاجُ، قَالَ: هَذَا قَوْلٌ غَيْرُ قَوِيٍّ؛ لِأَنَّ كُتُّابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا مَعْرُوفينَ، لَيْسَ يُعْرَفُ فِيهِمْ مَنْ يُسَمَّى بِهَذَا الاسْمِ.
وقَالَ مُجَاهِدٌ: السِّجِلُّ: الصَّحِيفَةُ التي فيها الكِتَابُ. يَعْنِي المَكْتُوبُ. رَوَاهُ الفِرْيابِيُّ وَالطَّبَرِيُّ في تَفْسيرَيْهِما. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ أَنَّهُ قالَ فِي الْآيَةِ: السِّجِلُّ الصَّحِيفَةُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "كَطَيِّ السِّجِلِّ للْكُتُبِ" قَالَ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى الْكِتَابِ. وَهوَ ما اخْتارهُ الفَرَّاءِ فِي "مَعَاني القُرآنِ" لَهُ: (2/213). وَابْنِ قُتَيْبَةَ في "غَريبِ القُرْآنِ" لَهُ: (ص: 288). وَقَالَ الطَّبَري في: (17/100) مِنْ تَفْسِيرِهِ: وَهُوَ الذي يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ مِنْ مَعْنَى السِّجِلَّ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُ الكَلْبِيِّ أَيْضًا فِي رَوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَالصَّحِيحُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السِّجِلَّ هِيَ الصَّحيفَةُ. "تَفْسيرُ القُرْآنِ العَظِيمِ" لَهُ: (3/200). وَقالَهُ عَنْهُ أَيْضًا: عَلِي بْنُ أَبي طَلْحَةَ، والعَوْفِيًّ، وَنَصَّ عَلَى مِثْلِهِ مُجاهِدٌ وَقَتَادَةُ ـ رَضِي اللهُ عنهُما، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ المُفسَّرينَ وأَهْلُ اللغَةِ.
فعَلَى هَذَا يَكونُ مَعْنَى الكَلامِ: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ للكِتَابِ، أَيْ: عَلَى الكِتَابِ بِمَعْنَى المَكْتُوبِ، كما قالَ مِنْ سورةِ الصَّافَّاتِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} الآيةَ: 103، أَيْ: عَلَى الجَبينِ، فقدْ جاءتِ اللامُ في هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ الكَريمَتَيْنِ بمعنى "عَلَى" وَلِهَذا فِي لُغَةِ العَرَبِ نظائرُ كثيرةٌ.
وأَصْلُ المُساجَلَةِ، مِنَ السِّجْلِ، وَهُوَ الدَّلْوُ إذا امَتْلأَ ماءً. فَالرَّجُلانِ يَسْتَقِيانِ بِالسِّجْلِ، فَيَكونُ لِكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِجْلٌ. ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ أَمْرٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَكونُ لَهَذَا مَرَّةً وللآخَرِ أُخْرَى: هُوَ بَيْنَهُمَا سِجَالٌ. ومِنْهُ الحَرْبُ بَيْنَ جيشَيْنِ يَكونُ النَّصْرُ حليفَ الأَوَّلِ مَرَّةً وحليفَ الثاني مَرَّةً، فنقولُ: الحربُ بينهما سِجالٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ اللَّهَبِيِّ القُرَشِيِّ، وَهُوَ بْنُ عَمِّ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيلَ لهُ "اللهَبِي" نِسِبَةً إِلَى أبيهِ أبو لَهَبٍ، وكانَ مِنْ فُصَحَاءِ العَرَبِ، عَاصَرَ الأَحْوَصَ وَالفَرَزْدَقَ، وكانَ لَهُ مَعَهُمَا أَخْبَارٌ، وَتُوُفِيَ فِي خِلَافَةِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ. قالَ:
مَنْ يُسَاجِلُنِي يُساجِلْ مَاجِدًا .............. يَمْلَأُ الدَّلْوَ إِلَى عَقْدَ الكَرَبْ
والمُكَاتَبَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ: مُسَاجَلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَكْتُبُ مَرَّةً، وَكَتَبَ: سَجَّلَ، فَلَمَّا سُمِّيَتِ الكِتابَةُ مُسَاجَلَةً. وقِيلَ للكِتَابِ: سِجَلٌ. وَ "لِلْكُتُبِ" أَيْ: لِدَرْجِ الكِتَابِ طَيَّهُ وَدَاخِلَهُ.
قوْلُهُ: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أَيْ: كَمَا بَدَأَنَا خَلْقَكُم في بُطُونِ أُمَّهاتِكمْ حُفَاةً عُراةً غُرْلًا، كَذَلِكَ نُعيدُ خَلْقَكُم يَوْمَ القِيامَةِ مَرَّةً أُخْرَى. فقَدْ رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ، فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً كَمَا بَدَأَكُمْ أَوَّلَ خَلْقٍ يُعِيدُهُ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قال فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعيدُهُ" قَالَ: عُرَاةً حُفَاةً غُرْلًا.
وَرَوَتِ السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، نَحْوَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ أُمِّ المُؤْمِنينَ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ الصِّدِّقةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وأَرْضاهَا، أَنَّها قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدِي عَجُوزٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، فَقَالَ: ((مَنْ هَذِهِ الْعَجُوزُ يَا عَائِشَةُ؟)). فَقُلْتُ: إِحْدَى خَالَاتِي. فَقَالَتْ: ادْعُ اللهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ. فَقَالَ: ((إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلْهَا الْعَجُوزُ)).
فَأَخَذَ الْعَجُوزَ مَا أَخَذَهَا، فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، يُنِشِئُهُنَّ خَلْقًا غَيْرَ خَلْقِهِنَّ، ثُمَّ قَالَ: تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُلْفًا)). فَقَالَتْ: حَاشَا للهِ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بَلَى. إِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، قَالَ: "كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ"، فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: يَبْعَثُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلى قامَةِ آدَمَ وَجِسْمِهِ، وَلِسَانُهُ السِّرْيانِيَّةُ، عُرَاةً، حُفَاةً، غُرْلًا، كَمَا وُلِدُوا)). أُنظُر تفسيرَ الطَّبَرِيِّ: (17/102). وَرَوَى الإِمامُ أَحْمَدُ في "مُسْنَدِهِ": (3/351) تَ/شاكر، وَالبُخَارِي في كِتَابِ التَّفْسيرِ مِنْ صَحِيحِهِ: (8/437)، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: (41/2194)، وابنُ جريرٍ في تفسيرِهِ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، مِنْ طَريقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا، أَنَّهُ قالَ: أَنَّهُ قَالَ: نُهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ كَمَا كَانَ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَعَلَيهِ فَالمَعْنَى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ إِلَى الفَنَاءِ وَالهَلَاكِ. وإِذًا فَلَيْسَ الكَلَامُ بِمُسْتَأْنَفٍ، بَلْ هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْأَوَّلِ، أَيْ: نَطْوِي السَّمَاءَ ثُمَّ نُعِيدُهُ إِلى الفَنَاءِ. كما رُوِيَ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قالَ أَيْضًا: كَمَا بَدَأَ خَلْقَهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ فَلَا يَكُونُ شَيْءٌ.
قولُهُ: {وَعْدًا عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} أَكَّدَ هَذِهِ الجملةَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ "إنَّ" لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ قُدْرَةَ اللهِ ـ تَعَالى، لِأَنَّهُ سَبَقَ لَهُمْ نَفْيُ الْبَعْثِ مُتَعَلِّلينَ باسْتِحالةِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ بَعْدَ فَنَائِهَا. وَ "فَاعِلِينَ" أَيْ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، فَاعِلُ لِمَا وَعَدَ بِهِ، أَيِ هوَ الْقَادِرُ عَلَى ذَلِكَ، وفعلُ الكونِ "كُنَّا" يُفِيدُ التَّحَقُّقَ وَالتَّمَكُّنَ، فَإِنَّ قُدْرَتَهُ قَدْ تَحَقَّقَتْ بِمَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلُ قَوْلِهِ: "كَمَا بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ".
وَأَصْلُ تَركيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: نُعِيدُ الْخَلْقَ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ وَعْدًا عَلَيْنَا. فَقَدَّمَ الظَّرْفَ بادئَ ذِي بَدْءٍ لِلتَّشْوِيقِ إِلَى مُتَعَلِّقِهِ، وَلِمَا فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا الظَّرْفُ مِنَ الْغَرَابَةِ وَالطِّبَاقِ إِذْ جُعِلَ ابْتِدَاءُ خَلْقٍ جَدِيدٍ ـ وَهُوَ الْبَعْثُ، مُؤَقَّتًا بِوَقْتِ نَقْضِ خَلْقٍ قَدِيمٍ وَهُوَ طَيُّ السَّمَاءِ. وَقُدِّمَ "كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ" وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي "نُعِيدُهُ" لِلتَّعْجِيلِ بِإِيرَادِ الدَّلِيلِ قَبْلَ الدَّعْوَى لِتَتَمَكَّنَ فِي النَّفْسِ فَضْلَ تَمَكُّنٍ. وَكُلُّ ذَلِكَ وُجُوهٌ لِلِاهْتِمَامِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِ الْبَعْثِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ: "يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ" مُتَعَلِّقًا بِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ التي قبلَها: {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}. وَعَقَّبَ ذَلِكَ بِمَا يُفِيد تَحَقُّقَ حُصُولِ الْبَعْثِ مِنْ كَوْنِهِ وَعْدًا عَلَى اللهِ بِتَضْمِينِ الْوَعْدِ مَعْنَى الْإِيجَابِ، فَعُدِّيَ بِحَرْفِ الجَرِّ "عَلَى"، أَيْ حَقًّا وَاجِبًا. وَقَدْ رُتِّبَ نَظْمُ الْجُمْلَةِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِأَغْرَاضٍ بَلِيغَةٍ، كما هوَ الأسُلوبُ القرآنيُّ السامي.
وَفي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُقُوعِهِ، وَإِمْكَانِ ذَلِكَ إِبْطَالًا لِإِحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ وُقُوعَهُ بِعِلَّةِ أَنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي يُدَّعَى بَعْثُهَا تكونُ قَدِ انْتَابَهَا الفَنَاءُ، فقَدْ قَالُوا: {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآيةَ: 10، مِنْ سُورَةِ السَّجْدَة.
قولُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} يَوْمَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، والتقديرٌ: اذْكُرْ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ، أَوْ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ} مِنَ الآيةِ: 103، السّابقةِ، أَوْ بِقَوْلِهِ: {تَتَلَقَّاهُمْ}. وَقالَ العُكْبُرِيُّ أَبُو البَقَاءِ هُوَ بَدَلٌ مِنَ العائدِ، وَالتَّقْديرُ: تُوْعَدُونَهُ "يَوْمَ نَطْوي"، فَـ "يَوْمَ" بَدَلٌ مِنَ الهَاءِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ إِذْ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ خُلُوُّ الجُمْلَةِ المَوْصُولِ بِهَا مِنْ عَائدٍ عَلَى المَوْصُولِ، وَلِذَلِكَ مَنَعُوا: (جاءَ الَّذي مَرَرْتُ بِهِ أَبي عَبْدِ اللهِ)، عَلَى أَنْ يَكونَ "أَبِي عَبْدِ اللهِ" بَدَلًا مِنَ الهاءِ لِمَا ذُكِرَ، وَإِنْ كَانَ فِي المَسْأَلَةِ خَلَافٌ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ بالفَزَعِ، وَفِيهِ نَظَرٌ أيضًا؛ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ أَعْمَلَ المَصْدَرَ المَوْصُوفَ قَبْلَ أَخْذِهِ مَعْمُولَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَافِعًا يَقْرَأُ "يُحْزِنُ" بِضَمِّ الياءِ إِلَّا هُنَا، وَأَنَّ شَيْخَهُ ابْنَ القَعْقَاعِ يَقْرَأُ "يَحْزُنُ" بِالفَتْحِ إلَّا هُنَا أَيْضًا. و "نَطْوِي" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نَحْنَ" يَعودُ عَلى اللهِ ـ تَعَالى. و "السَّمَاءَ" مَفْعولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، و "كَطَيِّ" الكافُ حَرْفُ جَرٍّ للتشْبيهِ، متعلِّقٌ بِصِفَةٍ، لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ، والتَّقْديرُ: طَيًّا كَائِنًا كَطَيِّ السِّجِلِ. وَ "طَيِّ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "السِّجِلِّ" مَجرورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ مُضافٌ للمَفْعولِ؛ أَيْ: كَمَا يَطْوي الرَّجُلُ صَحيفَتَهُ لِيَكْتُبَ فِيهَا. و "لِلْكُتُبِ" اللَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "طَيِّ"، فَهِوَ لِتَقْويةِ التَّعْدِيَةِ. أَوْ هِيَ مَزيدَةٌ فِي المَفعولِ إِنْ قُلْنا إِنَّ المَصْدَرَ مُضافٌ لِفَاعِلِهِ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بِمَعْنى "عَلى". وَهَذا غيرُ جائزٍ لِبُعْدِ مَعْناهُ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضافَةِ "يَوْمَ" إِلَيْها.
قولُهُ: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ للتَّشْبِيهِ، و "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ. وَ "بَدَأْنَا" فِعلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "أَوَّلَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، مُضافٌ، و "خَلْقٍ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وقدْ نُكِّرَ للدَّلَالَةِ عَلَى التَّفْصِيلِ، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فإِنْ قُلْتَ: مَا بالُ "خَلْقٍ" مُنَكَّرًا؟ قُلْتُ: هُوَ كَقَوْلِكِ: هُوَ أَوَّلُ رَجُلٍ جاءَني. تُريدُ: أَوَّلَ الرِّجَالَ. وَلَكِنَّكَ وَحَّدْتَهُ وَنَكَّرْتَهُ إِرادَةَ تَفْصِيلِهِمْ رَجُلًا رَجُلًا، وَكَذَلِكَ مَعْنَى "أَوَّلَ خَلْقٍ" بِمَعْنَى: أَوَّلَ الخَلَائِقِ؛ لِأَنَّ الخَلْقَ مَصْدَرٌ لَا يُجْمَعُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَصْدَرِيَّةِ، وَ "مَا" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ، مَجْرُورٍ بِالكَافِ، وَالجَارُّ والمَجْرُورُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تَقْديرُهُ: نُعِيدُ أَوَّلَ خَلْقٍ إِعَادَةً، مِثْلَ بَدْئِنَا إِيَّاهُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ "نُعيدُهُ" و "ما" مَوْصُولَةٌ، أَيْ: نُعِيدُ مِثْلَ الَّذي بَدَأْنَا نُعِيدُهُ، و "أَوَّلَ خَلْقٍ" ظَرْفٌ لِـ "بَدَأْناه" أَيْ: أَوَّلَ مَا خُلِقَ، أَوْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ المَوْصُولِ السَّاقِطِ مِنَ اللَّفْظِ الثّابِتِ فِي المَعْنَى. قالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ: وَفِي تَقْديرِهِ تَهْيِئَةُ "بَدَأْنَا" لِأَنْ يَنْصِبَ "أَوَّلَ خَلْقٍ" عَلى المَفْعُولِيَّةِ وَقَطْعُهُ عَنْهُ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَدْعُو إِلَى ذَلِكَ، وارْتِكابُ إِضْمَارٍ بَعِيدٍ مُفَسَّرًا بـ "نُعِيْدُه"، وَهَذِهِ عُجْمَةٌ في كِتَابِ اللهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَوَجْهٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنْ تَنْتَصِبَ الكافُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ "نُعِيْدُهُ" فَهُوَ ضَعيفٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّ الكافَ اسْمٌ لَا حَرْفٌ، وَلَيْسَ مَذْهَبَ الجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الأَخْفَشُ. وَكَوْنُها اسْمًا عِنْدَ البَصْرِيِّينَ مَخْصُوصٌ بالشِّعْرِ.
قالَ السَّمينُ: كُلُّ مَا قَدَّرَهُ فَهُوَ جَارٍ عَلَى القَوَاعِدِ المُنْضَبْطَةِ، وَقَادَهُ إِلى ذَلِكَ المَعْنَى الصَّحِيحُ، فَلَا مُؤَاخَذَةَ عَلَيْهِ. يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ لِغَيْرِ الفَطِنِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "مَا" فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُها: أَنَّهَا مَصْدَرِيَّةٌ. وَالثّاني: أَنَّها بِمَعْنَى "الَّذي". وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقريرُ هَذَيْنِ، وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا كَافَّةٌ لِلْكافِ عَنِ العَمَلِ كَمَا هِي فِي قَوْلِهِ عَمْرِو بْنِ البَرَّاقَةِ النِّهْمِيِّ:
وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ ................ كَمَا النَّاسُ مَجْرُوْمٌ عَلَيْهِ وَجارِمُ
فَي مَنْ رَفَعَ "النَّاس".
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: "أَوَّلَ خَلْقٍ" مَفْعُولُ "نُعِيدُ" الذي يُفَسِّرُهُ "نُعِيدُهُ"، والكافُ مَكْفُوفةٌ بـ "مَا". وَالمَعْنَى: نُعيدُ أَوَّلَ الخَلْقِ كَمَا بَدَأْناهُ، تَشْبيهًا للإِعادَةِ بِالابْتِداءِ فِي تَنَاوُلِ القُدْرَةِ لَهُمَا عَلَى السَّوَاءِ. فإِنْ قُلْتَ: فَمَا أَوَّلُ الخَلْقِ حَتَّى يُعيدَهُ كَمَا بَدَأَهُ؟ قُلْتُ: أَوَّلُهُ إِيجادُهُ مِنَ العَدَمِ، فَكَمَا أَوْجَدَهُ أَوَّلًا عَنْ عَدَمٍ يُعيدُهُ ثانِيًا عَنْ عَدَمٍ.
قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَأَمَّا "أَوَّلَ خَلْقٍ" فَتَحَصَّلَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَفْعُولُ "بَدَأْنَا". وَالثاني: أَنَّهُ ظَرْفٌ لـ "بَدَأْنا". وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالَ مِنْ ضَمِيرِ الاسْمِ المَوْصُولِ ـ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْريرُ كُلِّ ذَلِكَ آنِفًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ حَالٌ مِنْ مَفْعُولِ "نُعِيدُهُ"، وَيكونُ الْمَعْنَى: مِثْلَ أَوَّلِ خَلْقِهِ.
قولُهُ: {نُعِيدُهُ} فِعْلٌ مُضَارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلى اللهِ ـ تَعَالَى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعوليَّةِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَعْدًا عَلَيْنا} وَعْدًا: مَنْصوبٌ عَلَى المَصْدَرِ المُؤكِّدِ لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ المُتَقَدِّمَةِ، فَنَاصِبُهُ مُضَمَرٌ، والتَّقْديرُ: وَعَدْنَا تِلْكَ الإِعادَةَ وَعْدًا حَقًّا. و "عَلَيْنَا" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "وَعْدًا" أَوْ بِصِفَةٍ لَهُ، و "نا" ضميرُ التَّعظيمِ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا.
قولُهُ: {إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ} إِنَّا: "إنَّ" حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوْكيدِ، و "نا" ضميرُ التعظيمِ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إِنَّ". و "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ نَاقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لِاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهَ، وقدْ حُذِفَتِ أَلِفُ "كانَ" لالْتِقاءِ السَّاكنينِ، وَضَمِيرُ التَّعْظيمِ هَذِا اسْمُ "كَانَ" مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرفعِ. وَ "فَاعِلِينَ" خَبَرُ "كانَ" منصوبٌ بِهَا، وعلامةُ النَّصْبِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذَكَّرِ السَّالمُ. وَجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ جُمْلَةُ "إِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فَاعِلِ "وَعَدَنَا" المَقَدَّرِ، والتَّقديرُ: وَعَدْنَا ذَلِكَ، حَالَةَ كَوْنِنَا، مُحَقِّقِينَ ذَلِكَ الوَعْد.
قَرَأَ العَامَّةُ: {نَطْوي} بِنُونِ العَظَمَةِ، وَقَرَأَ شَيْبَةُ بْنُ نَصَّاحٍ المَخْزُومِيِّ مَوْلَى أَمِّ المُؤْمِنِينَ السَّيِّدَةِ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، فِي آخرينَ: "يَطْوِي" بِيَاءِ الغَيْبَةِ، وَالفاعِلُ هُوَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي آخَرينَ "تُطْوَى" بِضَمِّ التّاءِ مِنْ فَوْقُ وَفَتْحِ الوَاوِ على أَنَّهُ مَبْنِيٌّ للمَفْعُولِ (للمجهولِ).
قَرَأَ العامَّةُ: {السِّجِلِّ} بِكَسْرِ السِّينِ وَالجِيمِ وَتَشْديدِ اللَّامِ ك "الطِّمِرِّ". وَقَرَأَ أَبُو هَرَيْرَة وَصَاحِبُهُ أَبُو زَرْعَةَ بِنُ عَمْرِو بْنِ جَريرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، "السُّجُلِّ" بِضَمِّهِمَا، وَاللامُ مُشَدَّدَةٌ أَيْضًا بِزِنَةِ "عُتُلٍّ". وَنَقَلَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ تَخْفِيفَهَا فِي هَذِهِ القِرَاءَةِ أَيْضًا، بِزِنَةِ "عُنُق". وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَالْأَعْمَشُ "السَّجْلِ" بِفَتْحِ السِّينِ. وَقَرأَ الحَسَنُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ "السِجْلِ" بِكَسْرِها. وَالجِيمُ فِي هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ سَاكِنَةٌ وَاللَّامُ مُخَفَّفَةٌ. قالَ أَبُو عَمْرٍو: قِراءَةُ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ قِراءَةِ الحَسَنِ. وَهَذِهِ القِراءَاتُ المَذْكُورَةُ فِي "السِّجِلْ" كُلُّها لُغَاتٌ.
قرأَ العامَّةُ: {لِلْكِتَابِ} مُفْرَدًا، وَقَرَأَ الأَخَوَانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) وَحَفْصٌ "لِلْكُتُبِ" جَمْعًا، وَالرَّسُمُ يَحْتَمِلُهُمَا: فَالإِفرادُ يُراد بِهِ الجنسُ، والجَمْعُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الاخْتِلافِ.