لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ
(102)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا كَمَا يَسْمَعُ أَهْلُهَا حَسِيسَهَا مِنْ مَسْيرَةِ خَمْسِمِئَةِ عَامٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ: "لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا"، يَقُولُ تَعَالَى: لَا يَسْمَعُ أَهْلُ الْجَنَّةِ حَسِيسَ أَهْلِ النَّارِ إِذَا نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ. وَهُوَ قَولَ بعضِ المُفَسِّرينَ أَيْضًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَفْيَ السَّمَاعِ عَنْهُمْ هُنَا مُطْلَقٌ، أَيْ: أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا مُطْلَقًا. وَعَلَى هَذَا فَكَأَنَّهُم قَبْلَ دُخُولِهِمُ الجَنَّةَ كانُوا يَسْمَعُونَ حِسَّ النَّارِ.
والحَسِيسُ، وَالحِسُّ: هُوَ الصَّوْتُ الخَفِيُّ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سُفْيَانَ "لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا" قَالَ: صَوْتَهَا. إِذًا فَـ "حَسِيسَهَا": صَوْتُ حَرَكَةِ تَلَهُّبِهَا. يُقَالُ: حَسَّ يَحُسُّ الشَّيْءَ حَسًّا وحِسًّا وحَسِيسًا، وأَحَسَّ بِهِ إذا شَعَرَ بِحَرَكَتِهِ، أَوْ وُجودِهِ. وَقَالَ اللَّيْثُ بِنُ سَعْدٍ: الحِسُّ وَالحَسِيسُ تَسْمَعُهُ مِنَ الشَّيْءِ يَمُرُّ مِنْكَ قَريبًا وَلَا تَرَاهُ، وَأَنْشَدَ بيتَ لَبِيدَ بْنِ رَبِيعَةَ فِي صِفَةٍ بَازٍ:
تَرَى الطَّيْرَ العِتَاقَ يَظَلْنَ مِنْهُ .............. جُنُوحًا إِنْ سَمِعْنَ لَهُ حَسِيسَا
"تَهْذيبُ اللُّغَةِ" لِلْأَزْهَرِيِّ: (3/408 ـ 409). وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ في "مَجازُ القُرْآنِ" لَهُ: (2/42): الحَسيسُ، وَالحِسُّ، وَالجَرْسُ، وَاحِدٌ، وَهُوَ الصَّوْتُ الخَفِيُّ الذي لَا يُحَسُّ.
قولُهُ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أَيْ: أَنَّ المُؤْمِنِينَ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الحُسْنَى مِنْ رَبِّهِمْ، خَالِدُونَ في الجنَّةِ الَّتي طالَ مَا تَشَهَّوْها, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُما: يُريدُ فِي الجَنَّةِ.
وَمَعْنَى الشَّهْوَةِ وَالاشْتِهَاءِ: الرَّغبةُ، وَهُوَ مِنْ شَهَى، يَشْهَى. قَالَ الشاعِرُ الحُطَيْئَةُ أَبُو مُلَيْكَةَ جَرْوَلُ العَبْسِيُّ:
وأَشْعَثَ يَشْهَى النَّومَ قلتُ له ارْتَحِلْ .. إِذا ما النُّجُومُ أَعْرَضَتْ واسْبكَّرَتِ
يُقَالُ: شَهِيَ الشَّيْءَ، وَشَهَاهُ يَشْهَاهُ شَهْوَةً، وَاشْتَهَاهُ، وَتَشَهّاهُ، إِذا أَحَبَّهُ وَرَغِبَ فِيهِ. وَيُقَالُ: شَهِيَ يَشْهَى، وَشَهَا يَشْهُو إِذَا اشْتَهَى. وَتَشَهَّتِ المَرْأَةُ عَلَى زَوْجِهَا فَأَشْهَاهَا، أَيْ: أَطْلَبَهَا شَهَواتِها، وبلَّغَها إيَّاها. قالَ تَعَالى مِنْ سُورةِ سَبَأ: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} الآيةَ: 54، أَيْ: يَرْغَبُونَ فَيهِ. وَطَعَامٌ شَهِيٌّ: مُشْتَهًى. وَتَشَهَّيْتُ وَشَهَّى الطَّعَامَ: حَمَلَ عَلَى اشْتِهائِهِ. والرَّجُلُ: شَهِيٌّ، وَشَهْوانُ، وشَهْوانيٌّ، أَيْ: شَديدُ الشَّهْوَةِ، وَالجَمْعُ شَهَاوَى كَ "سَكَارَى" وَ "نَشَاوَى". وَفِي الحَديثِ الشَّريفِ، قَالَ ـ صَلوَاتُ اللهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ الرِّياءُ وَالشَّهْوةُ الخَفِيَّةُ)). أَخْرجَهُ البَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ عَن عَبَّادَ بْنَ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، وأَخْرَجَهُ أبو داودَ في الزُّهدِ، وابْنُ المُباركِ في الزُّهدِ والرَّقائقِ، وأَبُو نُعَيمٍ في الحِلْيةِ عَنْ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. كَمَا أَخْرجَهُ ابْنُ جَريرٍ في "تهذيبُ الآثارِ، وغيرُهم.
وَيقالُ للْمَرْأَةُ شَهْوَى، كَ: "نَشْوَى". وَيُقَالُ عَنْهَا: مَا أَشْهَاهَا، وَمَا أَشْهَانِي لَهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} لَا: نافيَةٌ، وَ "يَسْمَعُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ. و "حَسِيسَهَا" مَفْعُولُهُ مَصوبٌ بِهِ، وهو مُضَافٌ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ ثَانٍ لِـ "أُولَئِكَ"، أَوْ بَدَلٌ مِنْ {مُبْعَدُونَ}، أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الفاعِلِ في قولِهِ: {مُبْعَدُونَ}.
قولُهُ: {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} الواوُ: حَالِيَّةٌ، أَوِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "هُمْ" ضميرُ رفعٍ مُنْفَصِلٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "خَالِدُونَ"، وَ "مَا" اسمٌ موصولٌ في مَبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. و "اشْتَهَتْ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ للتَّأْنيثِ. وَ "أَنْفُسُهُمْ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِالْإِضَافَةِ، والميمُ عَلَامَةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، والعائدُ مَحْذُوفٌ والتَّقْديرُ: فِيمَا اشْتَهَتْهُ أَنْفُسُهُمْ. وَ "خَالِدُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِّ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هَذِه مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ فَي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنَ الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ في: "مُبْعَدُونَ"، أَوْ مِنْ فَاعِلِ "يَسْمَعُونَ".