إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ
(101)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِمُقَابَلَةِ حَالِ الْكَافِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ فيها بِمَا يَلْقَاهُ المُؤمِنُونَ وَمَا يُقَالُ لَهُمْ. فَالَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ مِنَ الْحُسْنَى مِنْ ربِّهُمُ في مُقَابِلِ المُشْركينَ أَهْلِ الْقَرْيَةِ الَّذينَ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنَّهُمْ مُهْلَكونَ، فقدْ وَضَعَ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في مُقابِلِ فَريقِ المُشْرِكينَ، وَإِنْ كانتَ هَذِهِ الآيةُ المباركةُ تَعُمُّ كُلَّ مُؤْمِنٍ توفَّاهُ اللهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَالسَّبْقِ: تَجَاوُزُ الْغَيْرِ فِي السَّيْرِ، كَسِبَاقِ الْخَيْلِ وغيرِهِ، وَاسْتِعْمالُهُ هُنَا مِنَ المَجَازِ، أَيِ: إِنَّ الَّذِينَ كانوا مِنْ أَهْلِ الْحُسْنَى فِي الدُّنْيَا، فَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ بِتَقْدِيرِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَتَوْفِيقِهِ، هُمْ مُبْعَدُونَ عَنْ نارِ جَهَنَّمَ يومَ القيامةِ، بِعَكْسِ أَضْدَادِهِمْ الْمُهْلَكينَ بِمَا قُدِّرَ لَهُمْ مِنَ الْخِذْلَانِ والهلاكِ والعذابِ في الدنيا والآخرةِ.
والْحُسْنَى: هو تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَالمُرادُ بِهَا الْجَنَّةُ، أَوِ السَّعَادَةُ، وَالْحَالَةُ الْحَسَنَةُ فِي الدِّينِ، فقد وَعَدَ اللهُ مَنْ همْ مِنْ أَهْلِها بِالْمُعَامَلَةِ الْحُسْنَى، فَإِنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ بها مُبْعَدٌ عَنِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَقد أَخْرَجَ ابنُ أَبي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى": أُولَئِكَ أَوْلِيَاء اللهِ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ مَرًّا هُوَ أَسْرَعُ مِنَ الْبَرْقِ فَلَا تُصِيبُهُمْ، وَ {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا}، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ فِيهَا حَبِيسًا.
وبِهَذَا جَاءَتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتابِ اللهِ الكريمِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} الآيَةَ: 26. وَكَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} الآيةَ: 60، وَنَحْوِهِ مِنَ الْآيَاتِ المُباركاتِ.
وَفِي أَهْلِ الحُسْنَى "أُلائكَ" أَقْوَالٌ مَأْثُورَةٌ عَنِ السَّلَفِ، فَقَدْ أَخْرَج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى" قَالَ: عِيسَى وَالْمَلَائِكَةُ وَعُزَيْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، مثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَيضًا عَنْ سيِّدِنا عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكَرَّمَ وَجْهَهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى" الْآيَةَ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ فِي النَّارِ، إِلَّا الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَعِيسَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَرَأَ: "إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ"، فَقَالَ: أَنَا مِنْهُمْ، وَعُمَرُ مِنْهُم، وَعُثْمَانُ مِنْهُم، وَالزُّبَيْرُ مِنْهُم، وَطَلْحَةُ مِنْهُم، وَسَعْدُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْهُم.
قَوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} المُشارُ إِلَيْهِمْ هُمْ المُؤمنونَ الذينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الحُسْنى مِنْهُ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، فإِنَّهُمْ مُبعَدونَ عَنْ جهنَّمَ ونارها ودُخانِها وعذابِها.
وَفي الإِتْيانِ بِاسْمِ الإِشَارَةِ إِلى الْبَعِيدِ: "أُلائكَ"، الذينَ أَكْرمهُمُ اللهُ بِهَا في سابِقِ عِلْمِهِ وتقديرِهِ، وبمَحْضِ فَضْلِهِ وكَرَمِهِ، إِيمَاءٌ إِلَى رِفْعَةِ مَنْزِلَةِ أَهْلِ الحُسْنى عِنْدَ اللهِ ـ تَعَالَى وعَزَّ، في الدُّنْيا وَالآخِرةِ، فإِنَّ الرِّفْعَةَ تُشَبَّهُ بِالْبُعْدِ عادَةً.
وفي سَبَبِ نُزُولِ هذِهِ الآيةِ المُباركةِ أَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، فِي ناسِخِهِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ في مُسْتَدْركِهِ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرُقْ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}، قَالَ الْمُشْركُونَ: فَالْمَلائِكَةُ، وَعِيسَى، وَعُزَيْر، يُعْبَدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ. فَنَزَلَتْ "إِنَّ الَّذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ"، عِيسَى وَعُزَيرٌ وَالْمَلَائِكَةُ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ} إِنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكيدِ. وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ النَّصِبِ اسْمُها.
قوْلُهُ: {سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} سَبَقَتْ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ الساكنةُ للتَّأْنيثِ. و "لَهُمْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَبَقَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنَّا" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِحالٍ مِنَ "الحُسْنَى"، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "سَبَقَتْ"، و "نَا" ضَميرُ المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهَ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الْحُسْنَى" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلَى الأَلِفِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أُولَئِكَ: أولاءِ: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، والكافُ للخِطابِ. و "عَنْهَا" عنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "مُبْعَدُونَ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مُبْعَدُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ، مرفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، وَهَذِهِ الجُمْلةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.