وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ
(97)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أَيْ: اقْتَرَبَ يَوْم الْقِيَامَة. فقد قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: "الْوَعْدُ الْحَقُّ": يُريدُ القِيَامَةَ. وَقَالَهُ أَيْضًا ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُم، فِيمَا أَخرَجَهُ عَنْهُ ابْن أَبي حَاتِمٍ.
وَأَخْرَجَ أيضًا عَنِ الرّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: "وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ" أَيْ: قَامَتْ عَلَيْهِمُ السَّاعَةُ. والمَعنى واحِدٌ.
وَعَلَى هَذَا فالمُرادُ بالِاقْتِرَابِ هوَ شِدَّةُ الْقُرْبُ، أَيْ الْمُشَارَفَةُ عَلَى الوُقوعِ، أَيِ: اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الَّذِي وُعِدَهُ الْمُشْرِكُونَ، بالْحِسَابَ والْعَذَابِ في نَارِ جَهَنَّمَ. وَتَسْمِيَةُ القَيَامَةِ وَعْدًا لِأَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، سَمَّى الْبَعْثَ وَعْدًا، وَذَلِكَ بقَوْلِهِ في الآيةِ: 104، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ}.
والواوُ هُنَا زَائِدَةٌ، أَيْ: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومأْجوجُ .. . اقْتَرَبَ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الزُّمَرِ: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} الآيَةَ: 73، فإنَّ المعنى: حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا. وَهَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ} الآيَتَانِ: (103 و 104)، فإِنَّ المَعْنَى: فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ نَادَيْنَاهُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ مَوجودٌ بكَثْرةٍ في كلامِ العَرَبِ، ومِنهُ قَوْلُ امْرِئِ القَيْسِ مِنْ مُعَلَّقَتِهِ الشَّهيرَةِ:
فلمَّا أَجَزْنَا ساَحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى ...... بِنَا بَطْنُ خَبْتٍ ذِي حقَافٍ عَقَنْقَلِ
هَصَرْتُ بفَودَيْ رأْسِها فَتَمايَلَتْ ..... عليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلخَلِ
يريدُ القَوْلَ: فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ انْتَحَى. وقولُهُ: الخَبْتُ: هو البَطْنُ الغَامِضُ مِنَ الأَرْضِ. والحَقَفُ: مَا اعْوَجَّ مِنَ الرَّمْلِ وَغَلُظَ، وَالعَقَنْقَلُ: الرَّمْلُ المُنْعَقِدُ المُتَلَبِّدُ. وَأَصْلُهُ مِنَ العَقْلِ، وَهُوَ الشَّدُ والرَّبْطُ.
والعَرَبُ تُدْخِلُ الوَاوَ فِي جَوَابِ "حَتَّى إِذَا"، وَتُدْخِلُ أَيْضًا كُلًا مِنْ: "لَمَّا" وَ "حِينَ" وَ "ساعَةَ" وَ "يَوْمَ" وَ "الواوَ" وَ "الفَاءَ" وَ "ثُمَّ"، فَتَقُولُ: لَمَّا فَعَلْتُ كَذَا، وَحِينَ فَعَلْتُ كَذَا، وَأَقْبَلَ يَفْعَلُ كَذَا، وَ "ثُمَّ أَقْبَلَ يَفْعَلُ كَذَا"، وَمَعْنَى (و) وَ "ثمَّ" الطَّرْحُ. كما نَقَلَهُ عَنِ الإمامِ الكِسَائيِّ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي "إِعْرَابُ القُرْآنِ" لهُ: (3/80). وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ في "مَعَاني القُرْآنِ وإعْرابُهُ" لَهُ: (3/405): وَالوَاوُ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَدْخُلَ وَيَكونُ مَعْنَاهَا الطَّرْحُ، وَجَوابُ "حَتَّى إِذَا" مُضْمَرٌ في الآيَةِ، لِأَنَّ قبلَ قَوْلِهِ تَعَالَى هَهُنَا: "يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ" قَوْلٌ مَحْذُوفٌ، والمَعْنَى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ ومَأْجُوجُ، وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقُّ، قالُوا: يَا وَيْلَنَا .. . وَخُرُوجُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ عَلَاماتِ السَّاعَةِ.
قولُهُ: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} هِيَ: ـ هُنَا، عِمَادٌ عِنْدَ الكُوفِيِّينَ، سَمُّوهُ "عمادًا" لِأَنَّهُ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الفَائِدَةِ، إِذْ بِهِ يُتَبَيَّنُ أَنَّ الثاني لَيْسَ بِتَابِعٍ لِلأَوَّلِ. أَمَّا البَصْرِيُّونَ فيُسَمُّونَهُ: "ضَمِيرَ فَصْلٍ". وَلِذَلِكَ يَجُوزُ فيهَا التَّذِكيرُ والتأْنيثُ، فَلَوْ قُلْتَ: "هُوَ" لَصَحَّ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَمْلِ: {إِنَّهُ أَنَا اللهُ} الآيَةَ: 9، وِمِثْلُهُ قَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ الحَجِّ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} الآيَةَ: 46. إذًا فَقدْ جَازَ في الآيةِ التَأْنِيثُ؛ لِأَنَّ الأَبْصَارَ مُؤَنَّثَةٌ وَالتَذْكِيرُ للعِمَادَ أَوْ للفَصْلِ. قالَ الفَرَّاءُ: وَسَمِعْتُ بَعْضَ العَرَبِ يَقُولُ: "كَانَ مَرَّةً، وَهُوَ يَنْفَعُ النَّاسَ أَحْسَابُهُمْ". فَجَعَلَ "هُوَ" عِمَادًا. قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُهُم:
بِثَوْبٍ ودِينارٍ وَشاةٍ ودِرْهَمٍ .............. فَهَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ بِمَا هَاهُنَا رَأْسُ
أَرَادَ: فَهَلْ يُرْفَعُ رَأْسٌ بِمَا هَاهُنَا؟ فَجَعَلَ "هُوَ" عِمَادًا. قَالَ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ "هِيَ" لِلْأَبْصَارِ كُنِّيَتْ عَنْهَا، ثُمَّ أُظْهِرَتِ الأَبْصَارُ لِتَفْسِيرِهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ وَالِدُ الصَّحابيِّ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
لَعَمْرُ أَبِيهَا لَا تَقُولُ ظَعِينَتي ............. أَلَا فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ
فَقَدْ ذَكَرَ "الظَّعِينَةَ" وَقَدْ كَنَّى عَنْهَا بـ "ها".
وَالشُّخُوصُ: إِحْدَادُ الْبَصَرِ دُونَ تَحَرُّكٍ كَمَا يَقَعُ لِلْمَبْهُوتِ. كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ إِبْرَاهِيمَ ـ علَيْهِ السَّلامُ: {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} الآيةَ: 42. قَالَ الكَلْبِيُّ: شَخَصَتْ أَبْصَارُ الكُفَّارِ فَلَا تَكَادُ تَطْرِفُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وهَوْلِهِ. ذكرَهُ عَنْهُ البَغَوِيُّ في تفسيرِهِ" (5/355). وَهُوَ مَنْ شَخَصَ بَصَرُهُ، إَذَا فَتَحَ عَيْنَيْهِ وَلَم يَطرِفْ جَفْنُهُ، فَهُوَ شاخِصٌ. وَشَخَصَ مِنْ بَلَدٍ إَلى بَلَدٍ شُخُوصًا: ذَهَبَ. وأَشْخَصَتُهُ: أرسَلتُهُ. وّأَشْخَصْنَا: أَيْ: حَانَ شُخُوصُنا. وأَشْخَصَ الرَّامي: جازَ سَهْمُهُ. وأَشْخَصَ بِفُلانٍ: اغْتَابَهُ.
قولُهُ: {يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} دُعَاءٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ شِدَّةِ مَا لَحِقَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ فِي الدُّنْيَا كُنَّا فِي عَمَايَةٍ عَمَّا يُرادُ مِنَّا. وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ بِـ "هَذَا" هُوَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مِنَ الْحَشْرِ والحساب وَالْجَزَاء. وقدْ دَلَّ حَرْفُ الجَرِّ "فِي" المُفيدُ للظَّرفيَّةِ عَلَى تَمَكُّنِ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ، حَتَّى كَأَنَّهَا مُحِيطَةٌ بِهِمْ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ، أَيْ كَانَتْ لَنَا غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهِيَ غَفْلَةُ الْإِعْرَاضِ عَنْ أَدِلَّةِ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ والنشورِ.
قوْلُهُ: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أَيْ: مَا كُنَّا فِي غَفْلَةٍ أَبَدًا، لِأَنَّنَا قَدْ دُعِينَا إِلى اللهِ، وَأُنْذِرْنَا بِوُقوعِ عَذَابِ هَذا اليَوْمِ، وَإِنَّمَا كُنَّا ظَالِمِينَ لأَنْفُسِنَا بِتَكذيبِنا ذَلِكَ وَمُكَابَرَتِنَا وَإِعْرَاضِنَا وإِصْرارِنَا عَلى الإنْكَارِ وَالكُفْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تعالى عَنْهُما: "بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ" أَنْفُسَنَا بِتَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتِّخاذِ الآلَهَةِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "اقْتَرَبَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الفتْحِ. وَ "الْوَعْدُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "الْحَقُّ" صِفَةٌ لِـ "الْوَعْدُ" مَرفوعَةٌ مِثْلُهُ. والجُملةُ مَعْطُوفةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ: {فُتِحَتْ} مِنَ الآيةِ التي قبلَهَا عَلَى كَوْنِها فِي مَحَلِّ الخَفْضِ بِإِضَافَةِ "إذا" إِلَيْهَا، عَلى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الفاءُ: رَابِطَةٌ وجوبًا لِجَوابِ "إِذَا" مِنَ الآيةِ الَّتِي قَبْلَها. وَ "إِذَا" هي الفُجائِيَّةُ هُنَا، مُؤَكِّدَةٌ للفَاءِ الرَّابِطَةِ. وَفي "هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ" أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا ـ وَهُوَ الأَجْوَدُ: أَنْ تَكونَ "هِيَ" ضَمِيرَ القِصَّةِ، وَ "شَاخِصَةٌ" خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَ "أَبْصَارُ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وَالجُمْلَةُ خَبَرٌ لِـ "هِيَ" لِأَنَّهَا لَا تُفَسَّرُ إِلَّا بِجُمْلَةٍ مُصَرَّحٍ بِجُزْأَيْهَا، وَهَذُا مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ.
الثاني: أَنْ يَكونَ "شاخِصَةً" مُبْتَدَأٌ، وَ "أَبْصَارُ" فِاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخَبَرِ، وَهَذَا يَتَمَشَّى عَلَى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ؛ لِأَنَّ ضَمِيرَ القِصَّةِ يُفَسَّرُ عِنْدَهُمْ بِالْمُفْرَدِ العامِلِ عَمَلَ الفِعْلِ، فإِنَّه فِي قُوَّةِ الجُمْلَةِ.
الثالثُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: "هِيَ" ضَمِيرٌ مُبْهَمٌ تُوَضِّحُهُ الـ "أَبْصَارُ" وَتُفَسِّرُهُ، كَمَا فُسِّرَ {الَّذينَ ظَلَمُواْ} و {وَأَسَرُّواْ} في الآيةِ: 3، مِنْ هذِهِ الآيةِ السُّورةِ المُباركَةِ. ولَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هذا الوجْهَ. وَهَذَا في الحَقِيقَةِ قَوْلُ الفَرَّاءِ؛ فإِنَّهُ قَالَ: "هِيَ" ضَمِيرُ الأَبْصَارِ تَقَدَّمَتْ لِدَلَالَةِ الكَلَامِ، وَمَجِيءِ مَا يُفَسِّرُهَا. وقد أَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى ذَلِكَ بَيْتَ الشَّاعِرُ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ:
لَعَمْرُ أَبِيهَا لَا تَقُولُ ظَعِينَتي ............. أَلَا فَرَّ عَنِّي مَالِكُ بْنُ أَبِي كَعْبِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ آنفًا في مَبْحَثِ التَّفسيرِ.
الرَّابِعُ: أَنْ تَكونَ "هِيَ" عِمَادًا، كما تقدَّمَ بيانُهُ في مبحثِ التَّفسيرِ أَيْضًا، وَهُوَ قَوْلُ الفَرَّاءِ أَيْضًا.
وَهَذَا لَا يَتَمَشَّى إِلَّا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيِ الْكِسَائِيِّ: وَهُوَ أَنَّهُ يُجيزُ تَقَدُّمَ الفَصْلِ مَعَ الخَبَرِ المُقَدَّمِ نَحْوَ قولِكَ: هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ زَيْدٌ. والأَصْلُ: زَيْدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ.
وقال الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ في البَحْرِ: أَجَاز هُوَ القائِمُ زَيْدٌ، عَلَى أَنَّ "زَيْدًا" هُوَ المُبْتَدَأُ، وَ "القائم" هوَ خَبَرُهُ، وَ "هُوَ" عِمَادٌ. وَأَصْلُ المَسْأَلَةِ: زَيْدٌ هُوَ القائِمُ.
قالَ السَّمينُ الحلبيُّ في "الدُّرُّ المَصونُ" لَهُ: وَفِي هَذَا التَّمْثيلِ نَظرٌ؛ لِأَنَّ تَقْديمَ الخَبَرِ هُنَا مُمْتَنِعٌ لِاسْتِوائِهِمَا فِي التَّعْريفِ، بِخِلافِ المِثَالِ الَّذي قَدَّمْتُهُ، فَيَكونُ أَصْلُ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ: فَإِذَا أَبْصَارُ الذينَ كَفَرُوا هِيَ شاخِصَةٌ. فَلَمَّا قُدِّمَ الخَبَرُ وَهُوَ "شاخِصَةٌ" قُدِّمَ مَعَها العِمَادُ. وَهَذَا أَيْضًا إِنَّما يَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى وُقوعَ العِمَادِ قَبْلَ النَّكِرَةِ غَيْرِ المُقَارِبَةِ للْمَعْرِفَةِ.
الخامِسُ ـ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًا لِتَنَافُرِ التَّرْكِيبِ، وَهُوَ التَّعْقيدُ عِنْدَ عُلَمَاءِ البَيَانِ: أَنْ يَكونَ "هيَ" مُبْتَدَأً، خَبَرُهُ مُضْمَرٌ، وَيَتِمُّ حِينَئِذٍ الكلامُ عَلَى "هِيَ"، وَيُبْتَدَأُ بِقَوْلِهِ: "شَاخِصَةٌ أَبْصارُ". وَالتَّقْديرُ: فَإِذَا هِيَ بَارِزَةٌ، أَيْ: الساعَةُ بَارِزَةٌ، أَوْ حاضِرَةً، وَ "شَاخِصَةٌ" خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَ "أَبْصَارُ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. ذَكَرَهُ الإمامُ الثَّعْلَبِيُّ. وَ "أَبْصارُ" مُضافٌ، وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جَوَابُ "إِذَا"، لَا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرَابِ. وَجُمْلَةُ "إِذَا" مُسْتَأْنَفَةٌ، وَقَعَتْ غَايَةً لِمَحْذوفٍ، كَمَا قَدَّرْنَا سَابِقًا، لا محلَّ لها مِنَ لإعرابِ.
قوْلُهُ: {كَفَرُوا} فِعْلٌ مغضٍ مبنيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِواوِ الجَماعَةِ، وَواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ: للتَّفْريقِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {يَا وَيْلَنَا} يَا: أَدَاةٌ لِنِدَاءِ البَعِيدِ، وَ "وَيْلَ" مَنْصوبٌ عَلى النِّداءِ مُضافٌ، وَ "نا" ضميرُ جماعَةِ المُتَكَلِّمينَ، وهوَ عائدٌ عَلى الكَفَرةِ. وَجُمْلَةُ النِّدَاءِ هَذِهِ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْديرُهُ: قَائِلِينَ: يَا وَيْلَنَا. فَلَيْسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ. وَفِي هَذَا القَوْلِ المَحْذوفِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَوَابُ {حَتَّى إِذَا} كَمَا تَقَدَّمَ بيانُهُ في مكانِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الآيةِ السَّابقةِ. والثاني: أَنَّهُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحَالِ مِنَ "الذينَ كَفَرُوا".
قولُهُ: {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} قَدْ: حَرْفُ تَحْقِيقٍ. و "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضَميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هُوَ "نا" الجماعةِ، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المُتَكَلِّمينَ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ، اسْمُها. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بَخَبَرِ "كَانَ" المُقدَّرِ. وَ "غَفْلَةٍ" مَجْرُورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "غَفْلَةٍ"، وَ "هَذَا" الهاءُ: للتَّنبيهِ، و "ذا" اسمُ إشارةٍ مَبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرَّ بحَرفِ الجَرِّ. وَجُمْلَةُ "كانَ" فِي مَحَلَّ النَّصْبِ مَقُولٌ لِلْقَوْلِ المَحْذُوفِ، عَلَى كَوْنِهَا جَوَابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} بَلْ: حَرْفُ إِضْرَابٍ إبطاليٍّ. و "كُنَّا" تقدَّمَ إِعْرَابُهُ في الجُمْلَةِ التي قبلَها. وَ "ظَالِمِينَ" خَبَرُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولٌ لِذَلِكَ القَوْلِ المَحْذُوفِ.