وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ
(73)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} يَقولُ اللهُ ـ تَعَالَى، تَبَاركَتْ أَسْماؤُهُ العُلَى: وَجَعَلْناهُمْ أَئمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ فِي اتِّباعِ الحقِ والعَمَلِ بِهِ، وَفعْلِ الخَيْراتِ وتَرْكِ المُنْكَرَاتِ. ((وإنَّما جُعِلُ الإمامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ..)) رَوَاهُ عَنْ سَيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَبو مُوسَى الأشعريُّ، وَغَيْرُهُ، وَأَخْرَجَهَ مُسْلِمٌ وَغيرُهُ عَنْ إمامِ الأَنْبِياءِ والمُرسلينَ ـ صلواتُ رَبِّي وسلامُهُ وتحياتُهُ وبركاتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمِ أَجْمَعِينَ. صَحِيحُ مُسْلِمٍ بِرَقَمِ: (1775)،
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً" الْآيَةَ، قَالَ: جَعَلَهُمُ اللهُ أَئِمَّةً يُقْتَدى بِهِم فِي أَمْرِ اللهِ ـ تَعَالى.
قوْلُهُ: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أَيْ: يُرشِدونَ النَّاسَ بأَمْرِنا إِلَى التَّعَرُّفِ عَلَيْنَا، وَالإيمانِ بِنَا، وَسُلُوكِ طَريقِ مَرْضاتِنَا، وَاتِّباعِ دِينِنا، وَالعَمَلِ بِشَريعَتِنا. ويَعِدونَهم عَلى ذَلِكَ بِحُسْنِ جَزَائِنَا، وجزيلِ ثَوَابِنَا، وَعَظِيمِ جَزَائنا، يومَ القيامةِ، في جَنَّةٍ عرْضُها السَّماواتُ والأَرْضُ، أُعِدَّتْ للمُتَّقِينَ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.
وَمَنْ صَلَحَ لِيَكُونَ قُدْوَةً للناسِ فِي دِينِ اللهِ ـ تَعَالى، فَهِدَايَتُهُ مَحْتُومَةٌ عَلَيْهِ، وهوَ مَأْمُورٌ بِهَا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخِلَّ بِهَا، أَوْ يَتَثَاقَلَ عَنِ السَّيْرِ في طريقِها والعَمَلِ بموجَبِهَا. وَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنْ يَهْتَدِيَ بِنَفْسِهِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهُدَاهُ يكونُ أَعَمَّ، وَالنُّفُوسُ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بِالْمُهْتَدِي تكونُ أَمْيَلُ، وتَنْفُرُ مِنْ هَدْيِ غيرِ المُهْتَدَي، لأَنَّهُ لا يعملُ بما يقولُ، وهوَ مِنْ أَكْبَرِ المَقْتِ، قالَ ـ تَعالى، مِنْ سُورةِ الصَّفِّ: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} الآيةُ: 3. وَقَالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَا خَرَجَ مِنَ القَلْبِ وَقَعَ فِي القَلْبِ، وَمَا خَرَجَ مِنَ اللِّسَانِ لَمْ يَتَعَدَّ الآذَانَ)). وَقَالَ أَهُلُ اللهِ: حَالُ رجُلٍ في أَلْفِ رَجُلٍ أَبْلَغُ مِنْ قَالِ أَلْفِ رَجُلٍ في رَجُلٍ.
وَالمُرادُ أَيْضًا بالْهَدْيِ ـ هُنَا، هُوَ تَزْكِيَةُ نُفُوسِ المُؤمنينَ مِنَ النَّاسِ، وَإِصْلَاحُهَا، وَبَثُّ نُورِ الْإِيمَانِ باللهِ فِيهَا، وَيَشْمَلُ هَذَا جَمِيعَ شُؤُونِ الْإِيمَانِ وَشُعَبِهُ وَآدَابِهُ.
قولُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} أَيْ: وَأَوْحَيْنَا إليهِمْ: أَنِ افْعَلُوا الْخَيْرَاتِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ} الآيةَ: 4.
فَمَعْنَى الْوَحْيِ بِذلِكَ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، أُوْحَى إِلَيْهِمُ الْأَمْرَ بِذَلِكَ كَمَا هُوَ بَيِّنٌ. وَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما: وأَوْحيْنا إِلَيْهِمْ شَرَائِعَ النُّبُوَّةِ. وَهُوَ الْوَحْيُ زِيَادَةً عَلَى الْجَعْلِ.
قولُهُ: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ} خْصَّ إِقامَ الصَّلَاةِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ شُمُولِهَا بـ "الْخَيْرَاتِ" تَنْوِيهًا بِشَأْنِها لِأَنَّ بِالصَّلَاةِ صَلَاحَ النَّفْسِ إِذِ الصَّلَاةُ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
قولُهُ: {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} وَكَذَلِكَ تَخْصيصُ إِيتاءِ الزَّكاةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ صَلَاحَ الْمُجْتَمَعاتِ الإِنْسانيَّةِ بِهَا، وَبِهَا كِفَايَةُ عَوَزِ الْمُعْوِزِينَ، وإِشاعَةُ رُوحِ التآلُفِ وَالمَحَبَّةِ وَالمَوَدَّةِ بَيْنَ أَفرادِ المُجْتَمَعِ الوَاحِدِ.
قولُهُ: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} تقديمُ فِعْلِ الكونِ "كانوا" يفيدُ تمَكُّنَ الوَصْفِ بالعبادةِ مِنْهمْ، وتقديمُ الجارِّ والمَجْرُورِ على خَبَرِ "كانَ" للإشارةِ إِلَى أَنَّهُمْ قدْ أَفردوهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، بالعِبادَةِ.
وَقَدْ خَصَّهُمْ بِذِكْرِ مَا كَانُوا مُتَمَيِّزِينَ بِهِ عَلَى بَقِيَّةِ النَّاسِ مِنْ مُلَازَمَتِهمْ عِبَادَةَ اللهِ تَعَالَى وَعَدَمِ عِبادَتِهِمْ أَحَدًا غَيْرَهُ قَطُّ، وَهُوَ مَا تَقْتَضِيهِ رُتْبَةُ النُّبُوَّةِ مِنَ الْعِصْمَةِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالى أَوِ الإشراكِ بِهِ، كَمَا قَالَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ ـ علَيْهِ الصَلاةُ وَالسَّلامُ: {وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآيَةَ: 135، مِنْ سُورةِ الْبَقَرَةِ. وَقَالَ حِكايَةً لِقَوْلِ نَبِيِّهِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ السَّلامُ: {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ} الآيَةَ: 38، مِنْ سُورةِ يوسُف.
قولُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "جَعَلْنَاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رِفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظِمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّل، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ، و "أَئِمَّةً" مفعولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جَعَلْنَا" مِنَ الآيةِ قبلَها لَا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} يَهْدُونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "بِأَمْرِنَا" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ الواوِ في "يَهْدُونَ"، والتَّقْديرُ: يَهْدُونَ إِلَى دِينِنَا مُتلَبِّسينَ بِأَمْرِنَا. وَ "أَمْرِنَا" مَجْرُورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وهوَ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ المعظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبحانَهُ، مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ في محلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "أَئِمَّةً".
قَوْلُهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "أَوْحَيْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رِفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" المُعظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظِمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "إِلَيْهِمْ" إِلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوْحَيْنَا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذكَّرِ السَّالمُ. و "فِعْلَ" مفعولُهُ مَنْصوبٌ به، مُضافٌ، و "الْخَيْرَاتِ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "إِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ" مَعْطُوفَانِ عَلَى "فِعْلَ الْخَيْرَاتِ" ولهُما مِثْلُ إِعْرابِهِ. قالَ الزمخشري: "فِعْلَ الخَيْرَاتِ" أَصْلُهُ أَنْ تُفْعَلَ الخَيْرَاتُ، ثُمَّ فِعْلًا الخَيْراتِ، ثُمَّ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَكَذَلِكَ "إِقَامَ الصَّلَاة" وَ "إِيتاءَ الزَّكَاةِ". قَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانَ الأَنْدَلُسيُّ: كَأَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمَّا رَأَى أَنَّ "فِعْلَ الخَيْراتِ" و "إقامَ الصلاةِ" و "إِيتاءَ الزَّكاةِ" لَيْسَ مِنَ الأَحْكامِ المُخْتَصَّةِ بِالمُوحَى إِلَيْهِمْ، بَلْ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِي ذَلِكَ مَشْتَرِكونَ بُنِيَ الفِعْلُ للمَفْعُولِ، حَتَّى لَا يَكونَ المَصْدَرُ مُضافًا مِنْ حَيْثُ المَعْنَى إِلَى ضَمِيرِ المُوْحَى إِلَيْهِمْ، فَلَا يَكونُ التَّقْديرُ: فِعْلَهُمُ الخَيْراتِ، وَإِقَامَتَهُمُ الصَّلاةَ، وإِيتاءَهُمُ الزَّكاةَ. وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ؛ إِذِ الفاعِلُ مَعَ المَصْدَرِ مَحْذُوفٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى مُضَافًا إِلَى ظَاهِرٍ مَحْذوفٍ، ويَشْمَلُ المُوحَى إِلَيْهِمْ وَغَيْرَهُمْ. والتَّقْديرُ: فِعْلَ المُكَلَّفينَ الخَيْرَاتِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُضافًا إِلَى ضَمِيرِ المُوحَى إِلَيْهِ، أَيْ: أَنْ يَفْعَلُوا الخَيْرَاتِ، وَيُقيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، وَإِذَا كَانُوا هُمْ قَدْ أُوْحِيَ إِلَيْهِمْ ذَلِكَ فَأَتْبَاعُهُمْ جَارُوْنَ مَجْرَاهُمْ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ اخْتِصَاصُهُم بِهِ. ثُمْ اعْتِقادُ بِنَاءِ المَصْدَرِ للمَفْعُولِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَجَازَ ذَلِكَ الأَخْفَشُ. وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ فَلَيْسَ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بِمُخْتَارٍ.
قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ: الذي يَظْهَرُ أَنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ لَمْ يُقَدِّرْ هَذَا التَّقْديرَ، كَمَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ، حَتَّى يُلْزِمَهُ مَا قَالَهُ، بَلْ إِنَّما قَدَّرَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَفْسَ الفِعْلِ الذي هُوَ مَعْنًى صَادِرٌ مِنْ فاعِلِهِ لَا بِوَحْيٍ، إِنَّما بِوَحْيِ أَلْفَاظٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَأَوْحَيْنا هَذَا اللَّفْظَ، وَهُوَ أَنْ تُفْعَلَ الخَيْرَاتُ، ثُمَّ صَاغَ ذَلِكَ الحَرْفَ المَصْدَرِيَّ مَعَ مَا بَعْدَهُ مَصْدَرًا مُنَوَّنًا نَاصِبًا لِمَا بَعْدَهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ مَصْدَرًا مُضافًا لِمَفْعُولِهِ.
وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَ "الإِقامَ" مَصْدَرٌ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ. يَعْنِي ابْنُ عَطِيَّةَ بالنَّظَرِ أَنَّ مَصْدَرَ "أَفْعَل" عَلى "الإِفعال". فَإِنْ كانَ صَحِيحَ العَيْنِ جَاءَ تامًّا كَ "الإِكْرَامِ"، وَإِنْ كانَ مُعْتَلَّهَا حُذِفَ مِنْهُ إِحْدَى الأَلِفَيْنِ، وَعُوِّضَ مِنْهُ تَاءَ التَأْنيثِ فَيُقالُ إِقامَةً. فَلَمَّا لَمْ يُقَلْ كَذَلِكَ جاءَ فِيهِ النَّظَرُ المَذْكُورِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّان الأندَلُسِيُّ في تفسيرِهِ (البحْرُ المُحيطُ): وَأَيُّ نَظَرٍ فِي هَذَا؟ وَقَدْ نَصَّ سِيبَوَيْهِ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ الأَكْثَرُ الإِقامَةَ بِالتَّاءِ، وَهُوَ المَقِيسُ فِي مَصْدَرِ "أَفْعَلَ" إِذَا اعْتَلَّتْ عَيْنُهُ. وَحَسَّنَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَابَلَ "وَإِيتَاءَ الزَّكاةِ" وَهُوَ بِغَيْرِ تَاءٍ، فَتَقَعُ المُوَازَنَةُ بَيْنَ قَوْلِهِ: "وَإِقَامَ الصلاةِ" وَ "إِيتَاءَ الزكاة".
وَقَالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: حُذِفَتِ التاءُ مِنْ إِقَامَةِ لِأَنَّ الإِضافَةَ عِوَضٌ عَنْهَا. وَهَذَا قَوْلُ الفَرَّاءِ: زَعَمَ أَنَّ التَّاءَ تُحْذَفُ للإِضافَةِ كَالْتَّنْوينِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَسْطُ القَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْد قِراءَةِ مَنْ قَرَأَ فِي سورةِ "بَرَاءَةٌ" {عُدَّةً ولَكِنْ كَرِهَ} الآيةَ: 46. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "جَعَلْنَاهُمْ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "كَانُوا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ اسْمُ "كان"، والألِفُ للتَّفْريقِ. و "لَنَا" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَابِدِينَ"، و "نا" ضميرُ المعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "عَابِدِينَ" خَبَرُ "كان" منصوبٌ بِها، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "أَوْحَيْنَا" فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ نافِعٌ، وَابْنُ كَثيرٍ، وأَبُو عَمْرٍو: "أَئِمَّةً" بِهَمْزَتَيْنِ ثَانِيَتُهُما مُسَهَّلَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، وَلَا أَلِفَ بَيْنَهُما. وَالكُوفِيُّونَ وَابْنُ ذَكْوان عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِتَخْفِيفِهِمَا مِنْ غَيْرِ إِدْخَالِ أَلِفٍ بَيْنَهُما، وَقرَأَ هِشَامٌ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنِّهُ أَدْخَلَ بينَهُمَا أَلِفًا. وَهَذَا هُوَ المَشْهُورُ بَيْنَ القُرَّاءِ السَّبْعَةِ. وفي بَعْضِهَا كَلامٌ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. وَنَقَلَ الشَّيْخُ أبو حيَّان عَنْ نَافِعٍ وَمَنْ مَعَهُ، أَنَّهُمْ يُبْدِلُونَ الثانِيَةَ يَاءً صَريحَةً، وَأَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ نَافِعٍ المَدُّ بَيْنَهُمَا، أَيْ بَيْنَ الهَمْزَة والياءِ. كَأَبي عَلِيٍّ الفَارِسِيِّ وَتَابِعِيهِ على مَذْهَبِهِ، وَمِنَ القُرَّاءِ أَيْضًا مَنْ ضَعَّفَ التَّحْقِيقَ مَعَ رَوَايَتِه لَهُ، وَقِراءتِهِ بِهِ لِأَصْحَابِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ التَّسْهِيلَ بَيْنَ بَيْن، فَلَمْ يَقْرَأْ بِهِ إلَّا أَصحَابُ التَّخْفيفِ، وَقَرَؤوا بِيَاءٍ خَفِيفَةِ الكَسْرِ، نَصُّوا عَلَى ذَلِكَ فِي كُتِبِهِم.
وأَمَّا القِرَاءَةُ بِالْيَاءِ فَهِي الَّتِي ارْتَضَاهَا الفارِسيُّ وَهَؤُلاءِ الجَمَاعَةُ، لِأَنَّ النُّطْقَ بِالْهَمْزَتَيْنِ في كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ثَقِيلٌ، وَهَمْزَةٌ بَيْنَ بَيْنٍ، بِزِنَةِ المُخَفَّفَة. وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ القَراءَةَ بِصَريحِ الياءِ لَحْنًا، وَتَحْقيقُ الهَمْزَتَيْنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ عِنْدَ البَصْرِيِّيِّنَ، قالَ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ لَفَظَ :أَئِمَّةً ؟.
قالَ السَّمينُ: بِهَمْزَةٍ بَعْدَهَا هَمْزَةُ بَيْنَ بَيْن، أَيْ: بَيْنَ مَخْرَجِ الهَمْزةِ والياءِ، وَتَحْقِيقُ الهَمْزَتيْن قِراءةٌ مَشْهُورَةٌ، وَإِن لَّمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً عِنْدَ البَصْرِيِّينَ. وَأَمَّا التَّصْريحُ بِالْيَاءِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ. وَمَنْ قَرَأَ بِهَا فَهُوَ لَاحِنٌ مُحَرِّفٌ. قَالَ أَبُو حَيَّان: وَذَلِكَ دَأْبُهُ فِي تَلْحِينِ المُقْرِئِينَ، وَكَيْفَ تَكونُ لَحْنًا، وَقَدْ قَرَأَ بِهَا رَأْسُ النُّحَاةِ البَصْرِيِّينَ، أَبُو عَمْرِو بْنِ العَلَاءِ، وقارِئُ أَهْلِ مَكَةَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَقَارِئُ أَهْلِ المَدينَةِ نَافِعٌ؟. قالَ السَّمينُ: لَا يُنْقَمُ عَلَى الزَّمَخْشَرِيِّ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَالَ إِنَّها غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَقْبَلُهَا، وَغَايَةُ مَا فِي البابِ، أَنَّهُ نَقَلَ عَنْ غَيْرِهِ. وأَمَّا التَّصْريحُ بالياءِ، فَإِنَّهُ مَعْذُورٌ فِيهِ لِأَنَّهُ كَمَا قَدَّمْتُ لَكَ، إِنَّمَا اشْتُهِرَ بَيْنَ القُرَّاءِ التَّسْهِيلُ بَيْنَ بَيْن لا الإِبْدالُ المَحْضُ، حَتَّى إِنَّ الشَّاطِبِيَّ جَعَلَ ذَلِكَ مَذْهَبًا للنَّحْوِيِّينَ لَا للقُرَّاءِ، فَالزَّمَخْشَرِيُّ إِنَّمَا اخْتَارَ مَذْهَبَ القُرَّاءِ لَا مَذْهَبَ النُّحَاةِ فِي هَذِهِ اللَّفْظَةِ.
وَقَدْ رَدَّ أَبُو العُكْبُرِيُّ قِراءَةَ التِّسْهِيلِ بَيْنَ بَيْنَ فَقَالَ: وَلَا يَجُوزُ هُنَا أَنْ تُجْعَلَ بَيْنَ بَيْنَ، كَمَا جُعِلَتْ هَمْزَةُ "أَئِذَا"؛ لِأَنَّ الكَسْرَةَ هُنَا مَنْقُولَةٌ، وهُناكَ أَصْلِيَّةٌ، وَلَوْ خُفِّفَتِ الهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ هُنَا عَلى القِياسِ لَقُلِبَتْ أَلِفًا لانْفِتَاحِ مَا قَبْلَهَا، وَلَكِنْ تُرِكَ لِتَتَحَرَّكَ بِحَرَكَةِ المِيمِ فِي الأَصْلِ.
قالَ السَّمينُ: قَوْلُهُ "مَنْقُولَةٌ" لِا يُفِيدُ، لِأَنَّ النَّقْلَ هُنَا لَازِمٌ، فَهُوَ كَالْأَصْلِ. وَقَوْلُهُ: وَلَوْ خُفِّفَتْ عَلَى القِيَاسِ .. إِلَى آخِرِهِ، لَا يُفِيدُ أَيْضًا لِأَنَّ الاعْتِبَارَ بِالإِدْغامِ سَابِقٌ عَلى الاعْتِبَارِ بِتَخْفِيفِ الهَمْزَةِ.
وَوَزْنُ "أَئِمَّةً" هو "أَفْعِلَةٌ" لِأَنَّها جَمْعُ إِمَامٍ، ك "حِمَارٍ" و "أَحْمِرَةٍ"، والأَصْلُ "أَأْمِمَةٌ"، فَالْتَقَى مِيمَانِ، فَأُريدَ إِدْغامُهُمُا، فَنُقِلَتْ حَرَكَةُ المِيمِ الأُولَى لِلسَّاكِنِ قَبْلَهَا، وَهُوَ الهَمْزَةُ الثَّانِيَةُ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى اجْتِمَاعِ هَمْزَتَيْنِ ثانِيَتُهُمَا مَكْسُورَةٌ: فَالنَّحْوِيُّونَ البَصْرِيُّونَ يُوجِبُونَ إِبْدَالَ الثانِيَةِ يَاءً، وَغَيْرُهُمْ يُحَقِّقُ أَوْ يُسَهِّلُ بَيْنَ بَيْنَ. وَمَنْ أَدْخَلَ الأَلِفَ فَلِلْخِفَّةِ حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْن الهَمْزَتَيْنِ، وَالأَحْسَنُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكونَ ذَلِكَ فِي التَّحْقيقِ كَمَا قَرَأَ هِشَامٌ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الشَّيْخُ أَبو حَيَّان الأندلُسيُّ عَنْ قارئِ المدينةِ نَافِعٍ مِنْ المَدِّ مَعَ نَقْلِهِ عَنْهُ أَنَّهُ يُصَرِّحُ بِالْيَاءِ فَلِلْمُبَالَغَةِ فِي الخِفَّةِ.